يختم مايكل رينولدز في مجلده الخامس عن حياة آرنست همنغواي 1899- 1961 سيرة كاتب أميركي دمّرته الكتابة. بدأ رينولدز المولود عام 1937 أبحاثه حول حياة همنغواي عام 1974. استعان بكارلوس بيكر صاحب "ارنست همنغواي: قصة حياة" 1969 للوصول الى أرشيفات شارلز سكريبنر ناشر همنغواي والاطلاع على رسائل الكاتب. منذ تلك اللحظة دخل رينولدز عالماً جديداً، وبعد عشر سنوات أخذ ينشر نتائج بحثه. عام 1986 أصدر المجلد الأول من السيرة العملاقة: "همنغواي الشاب". وفي 1989 ظهر المجلد الثاني "همنغواي: سنوات باريس"، وفي التسعينات تتالت المجلدات الثلاثة الأخيرة، بحيث صدر "همنغواي: السنوات الأخيرة" 1999 في مئوية همنغواي، ولكن أيضاً في سنة رينولدز الثانية والستين على الأرض. تلك صدفة غريبة، ذلك أن همنغواي غادر عالمنا في السن نفسه، وربما استطاعت هذه الصدفة أن تشرح لنا كلمات الرثاء الحزينة التي يختم بها رينولدز كتابه عن همنغواي، متحدثاً عن مخيلة صاحب "الشيخ والبحر". فتلك المخيلة التي صنعت لنا "وداعاً ايها السلاح" و"لمن تقرع الأجراس؟" كانت هي نفسها المخيلة التي قادت صاحبها الى "البارانويا" ثم الى الانتحار! ليس همنغواي الكاتب الوحيد الذي دمّرته المخيلة، لكن الفريد والتراجيدي في حال همنغواي يكمن في بلوغ الرجل "أقاليم الظلمات" بعد حياة هائلة من المغامرات ومن الاحتفال بالحياة. فالرجل الذي كتب ضاحكاً عن مواجهته ملاك الموت ليلة 8 تموز يوليو 1918 تلقى 227 شظية في ساقه خلال غارة نمسوية على معسكر إيطالي، ثم عاش ضاحكاً عبر أربع زيجات وعبر فشل أكثر من رواية واحدة وعبر تحطم طائرتين، هذا الرجل ذاته انتهى بعد فوزه بنوبل 1954الى السقوط في هوة كآبة بلا قرار. يقدم رينولدز في فصول كتابه الختامية وصفاً تفصيلياً مخيفاً لأيام همنغواي في "عيادة مايو" ثم في بيته الأخير في كيتشام محاصراً بالثلوج. إنه وصف يذكرنا بتلك الأوراق والملاحظات التي خلّفها لنا كافكا عن أيامه ولياليه على سرير الموت في صيف 1924. والمقارنة هذه تحتوي مفارقة أكيدة: عاش همنغواي حياة تحتفي بلذة العيش، ووجد نفسه في الختام يطارد بندقية صيد من غرفة الى أخرى كي يفجر رأسه ثلاث مرات حاول ذلك، ثلاث مرات منعته زوجته ماري. كافكا - المولود في 1883 - عاش حياة تلتذ باختراع صور الموت مسدس يدخل من باب موارب، أو جسم يهوي عبر زجاج نافذة عالية، أو كرسي إعدام كهربائي لكنه انتهى على سرير الاحتضار يدون على ورقة صغيرة، لعجزه عن الكلام، ملاحظات تشبه الشعر، ملاحظات بسيطة، هي طلباته اليومية يطلب جرعة ماء، أو هبّة هواء باردة لكنها أىضاً السجل السرّي والمعلن لانفتاح روحه أخيراً على العالم والحياة. إنه ينظر الى الزهور في نافذة غرفته في المصح ويراها تمتص المياه بينما تموت فيما يمضي هو عاجزاً عن التشبه بها. السل في رئتيه انتشر حتى زلعومه. وفي ورقة صغيرة أخرى يكتب لصديقته عن نحلة تسللت الى غرفته في الليل وترشفت رحيق الزهرة كلّه. لا يستحضر رينولدز مقارنة كهذه لأنها قد تستدعي مقارنات أخرى عدة. حديث همنغواي عن مطاردة ال.F.B.I له رجال سود بنظارات سود يطاردونه أينما ذهب يتكرر بعد موته بعشرين سنة مع كاتب "ملعون" آخر هو فيليب ك. ديك. يركز رينولدز بحثه على رسائل همنغواي وزوجته الأخيرة ماري، كما زوجاته الثلاث السابقات: هادلي ريتشاردسون التي التقاها في شيكاغو عام 1920 بينما يكتب اشعاره وقصصه الأولى ممرناً أسلوبه وباحثاً عن الجملة القصيرة التي صنعت مجده وقوته. باولين بفايفر التي التقاها في باريس بعد أن نشر كتابه الأول في 300 نسخة عن دار صغيرة، ثم كتابه الثاني في 170 نسخة، منتقلاً الى الرواية التي أطلقته نجماً في سماء الرواية الأميركية الجديدة: "والشمس تشرق أيضاً"، رواية باعت خلال فترة قصيرة 180 ألف نسخة. ومارتا غلهورن المراسلة الصحافية التي التقاها في جبال اسبانيا خلال الحرب الأهلية وأهداها "لمن تقرع الأجراس؟" 1940 ثم شاركها حياة مضطربة بين ساحات القتال والبيت الذي ابتاعه في كوبا، حياة كرست إدمانه الكحولي وكادت تقضي عليه نهائياً لولا أن التقى ماري وولش، الزوجة الرابعة والأخيرة تزوجا في 1946. يستخدم رينولدز هذه الرسائل ليثبت حقيقة بسيطة: كان همنغواي يحيا أيامه تحت الضغط المتواصل لنمط حياة عالي الكلفة. الحاجة الدائمة الى المال، وإلى مزيد من المال، حولت همنغواي الى رجل مضطر للكتابة كل يوم للصحف، للمجلات، لدور النشر، ولهوليوود أيضاً. وليس الى الكتابة فقط بل الى التعاطي باستمرار مع مجموعات كبيرة من الصحافيين والناشرين والأكاديميين الخ... يرسم رينولدز هنا صورة تشبه بيت العنكبوت. يمد العنكبوت نسجه ليصنع بيتاً له، لكن هذا النسج ذاته قد يتحول فخاً للعنكبوت! ثم إن بيتاً كهذا قد يتهاوى في لحظة إذا سقطت عليه قطرة ماء. في الفصل المخصص لرحلة همنغواي الافريقية عام 1953 نشاهد رجلاً يتحرك كأنه في منام. بعد سنة واحدة فقط على ظهور رائعته "الشيخ والبحر" 1952 كاملة في عدد واحد من مجلة "لايف" مجلة يزيد عدد طبعتها الواحدة عن 6 ملايين نسخة، وبزوغ نجمه من جديد إثر فشل روايته "عبر النهر وباتجاه الغابة" 1950، يظهر همنغواي "شبعان تعباً" سفر أيوب وهو يتحرك وسط السهول الافريقية بحثاً عن فيل ضخم لن يصطاده ببندقية بل بعدسة الكاميرا. وفي هذه الرحلة تسقط الطائرة به وتكتب صحف أنه لقي حتفه ويقال إن أعضاء الأكاديمية السويدية نادمون لأن الفرصة ضاعت والرجل مات قبل أن يمنحوه نوبل. كان وليم فوكنر - مواطنه ومنافسه و"عدوه" - قد نال الجائزة قبل ثلاث سنوات، ورينولدز يزودنا برسالة لهمنغواي يشتم فيها فوكنر لكن الرجل لم يمت. خرج من الحطام بارتجاج بسيط وأصر على الرقص مع الافريقيين حول النار. لكن اللهب شبّ في ثيابه. هذه الصور المتلاحقة تحوّل الكاتب المغامر في عين القارئ الى كاتب على وشك الانهيار. انهيار يتم إبعاده موقتاً بجائزة مليئة بالعزاء والمواساة مثل نوبل. لكن رينولدز لا يلبث أن يظهر أجزاء جديدة من اللوحة القاتمة: تتوتر العلاقة بين همنغواي وزوجته، فيما يواجه مصاعب أخرى في الكتابة: كان يبدأ أكثر من كتاب في وقت واحد، ثم يضيع بين هذه الكتب فيستسلم ليأس يسلمه الى متاهة إدمانه الكحولي وغزواته النسائية. لنتذكر أن مصارعة الثيران هي رمزه: من الكاتب، من يكون؟ المصارع أم الثور؟ رومان غاري حائز غونكور مرتين المنتحر برصاصة مسدس، كتب في رواية "جذور في السماء" عن كاتب يطارد الأسود في افريقيا، كاتب اعترف بخوفه الهائل، مثل بطل في رواية لصادق هدايت المنتحر في 1951. كتب رومان غاري: "طوال حياتي كنت دوماً نصف ميت من الخوف. الخوف من العيش. الخوف من الموت. الخوف من المرض. الخوف من أن أغدو عاجزاً. الخوف من الاقتراب الحتمي للشيخوخة. حين يصبح هذا فوق قدرتي على الاحتمال أجيء الى افريقيا، وكل خشيتي، كل خوفي، يتركز في وحيد القرن المهاجم، في الأسد الذي ينهض متمهلاً خارجاً من الأعشاب أمامي، في الفيل الذي يميل صوبي. عندئذ، أخيراً، يصبح خوفي شيئاً ملموساً، شيئاً أقدر أن أقتله. أطلق النار، ولفترة، أصل الى الخلاص، ويحلّ عليّ السلام التام، إذ يأخذ الحيوان معه، في موته المفاجئ كل رعبي المتراكم". و"الفزع من شيء ما" الرازي الذي لاحق همنغواي منذ الشباب في 1929 انتحر أبوه برصاصة في الرأس وملأ قصصه القصيرة بذلك النبض المتوتر، كان الفزع ذاته الذي طالما جابهه واقفاً الى آلته الكاتبة. كان يخاف العجز عن الكتابة، وهذا الخوف ذاته كان يُسبب عجزه. ملاحظة رينولدز الجميلة حول علاقة المخيلة بالإبداع وبالكآبة في آن معاً تُظهر أي مصاب بالبارانويا مبدعاً! مع فارق بسيط بين الاثنين هو القدرة - أو العجز - عن التعبير. امتلك همنغواي هذه القدرة في مراحل من حياته ثم فقدها تدريجياً. هذه طريقة للنظر الى المسألة. ثمة طريقة أخرى: تبدو حياة همنغواي كلها بمثابة مقدمة لنهايته، الرجل كان يطلب من الأشياء ما لا تقدر الأشياء أن تعطيه لأحد. * كاتب لبناني.