في ظلّ الأزمة الماليّة والاقتصاديّة العالميّة، التي تبرز الآن ملامح مأزق الرّأسماليّة الماليّة الرّيعيّة، وتأثيراتها المتصاعدة على أقسام واسعة من البشريّة في العالم أجمع، لن يكون بالإمكان الوصول إلى مستويات ناجحة من"تأميم"الخسائر النّاجمة عن تلك الأزمة، والتي لم تزل تتدحرج مثل كرة الثّلج، على رغم محاولات علاجيّة هي إلى العقم أقرب، طالما أن هاجس تلك المحاولات لم يتعدّ"تخصيص الأرباح"، وذلك لمصلحة القلّة المنتفعة من تلك الرأسماليّة الرّيعيّة التي استمرأت جني أرباحها من مضارباتها ورهوناتها وضمانات قروضها، وتلاعبها بأسهم الشّركات والمودعين من رأسماليين أصغر، ومن حالمين بالثّروة من أبناء الطّبقات المتوسّطة التي ستزيدها الأزمة إفقاراً فوق إفقار. هكذا.. وباختصار نحن أمام كارثة عالميّة غير مسبوقة، حيث يحمل"تأميم الخسائر"و"تخصيص الأرباح"المزيد من رياح وسموم تعميم الفقر، حيث بات مليار شخص يعاني من المجاعة. فيما أزمة الجياع عالمياً تسير في اتّجاه واحد: الاستفحال، بينما كانت"الفاو"وهي المنّظّمة التابعة للأمم المتّحدة للأغذية والزّراعة، قد تعهّدت بخفض عدد الجياع حتى عام 2015. وحسب جاك ضيوف المدير العام للمنظّمة، فإنّ أزمة الغذاء العالميّة التي تهدّد باضطرابات اجتماعيّة وتدفع بملايين إلى الفقر، ستتفاقم بسبب أزمة الائتمان العالميّة وانخفاض أسعار الأغذية. ولهذا شارك ممثّلون من 95 بلداً في مؤتمر انتهى يوم 27 كانون الثاني يناير الماضي، تابعوا فيه أعمال قمّة أخرى رعتها الأمم المتّحدة في حزيران يونيو 2008 في روما، أعلن فيه ضيوف أنّ انخفاض أسعار السّلع الزّراعيّة أو الأخطار الماليّة غير المحسوبة، تتسبّب في تراجع استثمارات المزارعين وتقود إلى انخفاض كبير في إنتاج الأغذية بين 2009 و 2010. وقد شكّل عام 2007 عاماً مفصليّا في تزايد أعداد الفقراء، على رغم ما أعلن ويعلن عن مكافحة الفقر هنا أو هناك، ففي هذا العام فقط انضم 75 مليون شخص إلى قوائم الفقراء، وباتت 36 دولة حول العالم بحاجة إلى معونات غذائيّة، في حين ضاعت جهود 15 عاماً لمكافحة الفقر في أميركا اللاتينيّة وحدها، وذلك بفعل الأزمة الماليّة ? الاقتصاديّة الرّاهنة. بينما تبرز مخاوف متزايدة من تقليص المساعدات والمعونات المخصّصة للدّول الفقيرة"جرّاء انشغال العالم كلّه بمراكزه وبأطرافه بتلك الأزمة، بينما تتوقّع منظّمة الأغذية والزّراعة الفاو أن تشكّل العودة للحمائيّة التّجاريّة جرّاء الأزمة الماليّة"سبباً أو أسباباً متزايدة لاستفحال أزمة غذائيّة خلال العام الحالي 2009. ويبدو أنّه لم يعد ممكنا تلمّس أيّ حلول ناجعة لأزمة المجاعة عبر العالم، فالخلل الجوهري الذّي تعانيه تلك المشكلة هي في كونها أعمق مما تبدو على السّطح، وأعمق مما أشير إليها في حزيران من العام الماضي، وهي تتطوّر وتكبر في ضوء المشكلات الماليّة الرّاهنة، طالما أنّ حركة التّجارة السّلعيّة ستتأثّر بالطبع بالمشكلة الماليّة، بل أنّ هذه تؤثّر تأثيراً واسعاً وكبيراً على الاقتصادات الحقيقيّة، ما يعني أنّ الوضع المأساوي لحال الجياع في العالم سوف يتفاقم، لا سيّما حين يجري مواراة المشكلة الغذائيّة خلف المشكلة الماليّة، وذلك عبر تركيز المعالجات على"تخصيص الأرباح"والعمل على إنقاذ تلك الفئات من الرّأسماليّة الماليّة، واحتلاله الهم الأوّل لدى الحكومات. وإذا كانت قمّة روما التي عقدت صيف العام الماضي، قد حدّدت رقم 12 مليار دولار لمواجهة الأزمة الغذائيّة، إلاّ أنّ ما قدّمته الدّول المانحة حتى الآن لم يتجاوز المليار، بينما تخصّص لتدخّلاتها في الأزمة الماليّة الآن مئات مليارات الدولارات لإنقاذ حفنة من المضاربين بالأسهم والبورصة، اولئك الّذين لا يقدّمون اليوم للاقتصاد الحقيقي سوى المزيد من الأعباء لتغطية خسائرهم في"اقتصادهم الافتراضي"الّذي هندسوه ليخدم أهدافهم الأنانيّة فقط. بيد أنّ استئصال الجوع يبدو هدفاً بعيد المنال، في ظل استفحال أزمات هي من صنع البشر أولا وأخيراً، حيث أفادت"الفاو"بأنّ ارتفاع أسعار الغذاء أدّى إلى زيادة أعداد الجياع في العالم بنحو 40 مليون شخص خلال العام الماضي 2008، ليرتفع عدد الّذين يعانون من سوء التّغذية إلى 963 مليون شخص. فيما أعلن البنك الدّولي أنّ الارتفاع الهائل في أسعار المواد الأوّليّة في النّصف الأوّل من العام، سيخلّف آثاراً دائمة على الاقتصاد العالمي، حتّى مع تراجع الأسعار إلى مستويات معقولة، منذ ذلك التّاريخ. وبحسب البنك ستبرز هذه الآثار في مستويين أوّلهما: زيادة فقر الطّبقات الأشد هشاشة، وثانيهما: الإبقاء على الأسعار في مستويات أعلى من العقود السّابقة. من هنا ضرورة إلزام الدّول بواجباتها تجاه الفقراء ومشكلة الغذاء المتفاقمة، وهو ما ينبغي أن يسبق ايّ واجب آخر"من قبيل إنقاذ المديرين والمضاربين وسارقي المال العام المهيمنين على مفاصل الاقتصاد الافتراضي، وذلك قبل أن نكون أمام احتمالات قيام ثورة جياع كونيّة ضدّ النّظام الدّولي الجائر، الّذي يسمح أو"يتسامح"ويقف متفرّجا إزاء موت مئات الآلاف من الفقراء"جرّاء المجاعات وغياب سياسات كفيلة بإنقاذهم من الموت جوعاً. إلى ذلك، فقد حذّر مدير مكتب العمل الدّولي خوان سومافيا 20/10 من أنّ الأزمة الماليّة قد ترفع أعداد العاطلين عن العمل في العالم من عشرين مليون شخص إلى 210 ملايين شخص في نهاية العام الحالي 2009، بل يمكن لهذه الأرقام أن تتفاقم، وذلك بحسب تأثير الأزمة على الاقتصاد الحقيقي، مؤكّداً الحاجة إلى تحرّك سريع ومنسّق للحكومات للوقاية من أزمة اجتماعيّة"يمكن أن تكون قاسية وطويلة وشاملة. إنّ توصيفات الأزمة هذه، لن تنجو منها كبرى دول العالم، وهي التي أطلقت شرارة الأزمة الماليّة، حيث بدأت الولايات المتّحدة تشهد مآسي إنسانيّة ليس بالإمكان التّغاضي عنها، لا سيّما أنّ القروض الاستهلاكيّة التي تشكّل صمّام أمان في تحريك العجلة الاقتصاديّة باتت تنحسر باضّطراد، وتجّر معها حياة طبقة اجتماعيّة بأكملها، وصلت الأزمة ببعض أسرها إلى قتل النّفس هرباً من مواجهة قسوة العوز. ويؤكّد راصدو نتائج الأزمة بروز ظاهرة اجتماعيّة نفسيّة أشبه بإرهاب 11 أيلول 2001 من حيث الوقع"وليس الصّدمة فحسب، وأسوأ ما في الأزمة داخليّاً، أنّ القروض الاستهلاكيّة الممنوحة للأسر الأميركيّة تراجعت في آب أغسطس من العام الماضي بنسبة 7,3 في المئة، مسجّلة أكبر انخفاض منذ كانون الثّاني من عام 1998، وهو تراجع يضيف عنصراً سلبياً جديداً إلى وضع اقتصادي قاتم، ويكتسب بعداً خاصاً في الاقتصاد الأوّل في العالم. من هنا الحاجة إلى نظام دولي جديد، مالي وسياسي، وليس مجرّد فتح الأسواق وجعلها الحكم وترياق الحلول، عبر إنقاذها من الإفلاس جرّاء ممارساتها في المضاربة واللعب بأموال النّاس وشفطها. وتقبع مسؤوليّة الدّولة هنا ليس في الاتّجاه نحو العمل على"تأميم الخسائر"وبالتّالي"تخصيص الأرباح"لمصلحة قلّة مضاربة من رأسماليّة متعدّية للجنسيّة، بل"تخصيص الخسائر"وحصرها بهؤلاء، بدلا من تعميمها على المكلّفين من أبناء الشّعب الفقراء ومتوسّطي الحال عبر العالم كلّه، و"تأميم الأرباح"وفق ما يمكن لرأسماليّة دولة وطنيّة"وهي تسعى للحفاظ على بلدانها وأنظمتها الاقتصاديّة والسّياسيّة في مواجهة الخضوع لتبعيّة الخارج وهيمنته الامبرياليّة، حيث قامت وتقوم عقيدة"حرّيّة الأسواق"الآن بتدمير نفسها، لتتجاوز في تأثيراتها التّدميريّة والتّخريبيّة حدودها إلى مناطق العالم كافّة، بل ولتتجاوزها إضراراً وتدميراً إلى الغير .. ومحاولة حصرها بهذا الغير فقط"وسط عالم أضحى أكثر تعولماً، أدّى انفتاحه المتزايد، وبلا حساب، بل وساعد في انتشار الأزمة من مركز إلى آخر، ومن المراكز حتّى الأطراف النّائية. * كاتب فلسطيني