"حجر يطفو على الماء"هو العمل الشعري السابع في مسار الشاعر المصري رفعت سلام، وهو ليس ديوان شعر بالمعنى المتداول، لكنه شعر وفق الأثر الكلي لخطابه. يبدأ هذا العمل بعنوانه، يقول الشاعر:"حجر يطفو على الماء الهوينى"، ثم يشير إلى هوية هذا الحجر قائلاً"أيها الوقت الحجر". فالحجر هنا هو الوقت الذي شكل مع أنا الشاعر المتفرقة في من حولها، وما حولها سبحة هذا العمل، والخيط الذي انتظم شبكة الدوال المتفرقة فيه. وفي هذا النص سخاء للأسماء بالنسبة إلى مسمياتها، وفيض من الكلمات التي تطفو فوق الأشياء، على نحو يجعل تناول النص من مفهوم باروكي، تناولاً صحيحاً إلى حد بعيد. تشير كلمة الباروك إلى حقبة زمنية بدأت في أول القرن السابع عشر في روما، وإيطاليا، وأثرت في مجالات فنية مختلفة مثل النحت والتصوير والأدب والعمارة وغيرها. وتعود الكلمة إلى كلمة"Barlocco"وهي كلمة استخدمت في اللهجة الرومانية بمعنى اللآلئ غير المنتظمة، وقد اتسم الباروك منذ مولده بالغموض، والتعدد السيميائي. أما معاني الباروك التي شدتنا إلى عنوان هذا النص الشعري، فهي الصخر، والكثافة المتراكمة للبحر، وما ينتشر حراً، وحجرياً في الوقت ذاته. وأظنني لا أعدو الحق إذا قلت إنه لم يكن في قصد رفعت سلام أي معنى من معاني الباروك هذه، وهو يكتب عمله الشعري هذا، لكنها معان متوافرة على نحو يثير الدهشة في هذا النص"من غموضه إلى تعدده السيميائي، ومن الحجر والصخر والماء، في عتبة العنوان الأولى، إلى أصواته المتجاورة التي لا تمنح القارئ راحة المعنى. خضعت كتابة"حجر يطفو على الماء"، لطرائق كتابة مختلفة، سواء من خلال الخطوط المستخدمة، التي مثل كل منها صوتاً يدور حول شيء ما يصعب تحديده، إذ لا يكاد القارئ أن ينتهي من صوت حتى يقابله صوت آخر، وهكذا. أو من خلال التشكيل الكتابي والأيقوني في العمل، الذي خلق تقابلاً بين وحدات مختلفة وأصوات عدة، تنتمي إلى وسائط كتابية وأيقونية وتشكيلية عبر تقنية الكولاج، وعلى نحو لا تعوزه المجانية. ربما كانت أفضل الطرائق التي يمكن بها قراءة هذا العمل الشعري - الذي لا تزيد صفحاته على خمسين صفحة - هي الطريقة التي يعتمد القارئ فيها على حدسه، فالعمل مفتوح ومغلق في آن، مغلق من خلال التتابع النصي الذي تفرضه القراءة المعتادة من خلال ترقيم الصفحات في العمل، الذي يأتي دائماً وكأنه وعد باكتمال، وربما كان أفضل للنص أن يترك الشاعر صفحاته بلا ترقيم، وهو عمل مفتوح بتعدد الأصوات فيه، حيث يمكننا أن نميز كل صوت من خلال نوع الخط الذي كتب به. فلكل خط في النص صوت مختلف. هكذا أنشأ التعدد الخطي مجموعة من العلاقات المحتملة بين الأصوات على مستويين"المستوى الأول هو المستوى الجزئي: سواء كان ذلك من خلال ما تطرحه القراءة من تركيبات مقطعية ممكنة في الصفحة الواحدة، أو كان من خلال النص الممتد على صفحتين متقابلتين. والمستوى الثاني هو الكلي الذي يقوم على العلاقات الممكنة بين مقاطع العمل الشعري كله، أو لجزء سياقي منه، ممتداً من بداية العمل إلى نهايته. هذا على مستوى ما يمكن أن نطلق عليه بسبب مكانه متن النص، أما هامش النص فيزيد القراءة تعقيداً، لأنه محتل بأصوات لغوية، تتراوح دلالات مقاطعها بين التعليق، والاقتباس من أقوال مأثورة أو أبيات شعرية قديمة. وتحلق - فضلاً عن هذه المقاطع المتناثرة - حول مقاطع الهامش اللغوية، شكول بصرية عدة مثل البومة والجعران والتمساح والخفاش والديناصور والفراشة والعقرب وغيرها، تحاول أن تبحث لأنفسها عن دلالات تلج بها في المتن، كي تصبح جزءاً من النص لا زخرفاً فيه، الأمر الذي ينشئ علاقات دلالية وتأويلية جديدة على مستوى الصفحة الواحدة من جهة، وعلى مستوى النص كله من جهة أخرى. فعلى سبيل المثل، تدل أيقونة التمساح في النص على الزمان والوقت، وغالباً ما يحمل هذا الوقت سمة سلبية، وعنيفة، كما في قول الشاعر"إلى مطلع فجر لا يأتي"، وقوله"سأعرف بعد خطوتين أنك زمني الضائع"، كما يدل الخفاش على المعنى ذاته تقريباً، كما في قول الشاعر"أيها الزمن القتيل"، وفي قوله"من يقول للكهان أن الوقت حان لليل طويل"، وفي قوله"كم قتلنا الآن، هل يتسع الوقت"، وهكذا، ففي كل المقاطع المرافقة، أو المجاورة لأيقونة التمساح، ولأيقونة الخفاش، أينما ظهرا في النص، ما يدل على الوقت، وقد نظمه أغلب الظن لا وعي الشاعر، في بنية مفتوحة، لا تتضح معالمها إلا من خلال مراقبة التراكم الدلالي فيها. يفتقد النص بنيةً معمارية واضحة لتعالقات أصواته على المستويين اللغوي والبصري، ويرجع ذلك إلى بنية التوالد النصي التي تبناها الشاعر في نصه هذا محتفياً بالتناقض، وعمل المصادفة، التي تحكم فيها لا شعوره الإبداعي إلى حد كبير، فالمعنى في"حجر يطفو على الماء"يشظي ذاته وفق تحركات ضمير الأنا، وحلوله في غيره من الأشياء في النص. فهذا النص قناع تختفي من تحته آلاف الأقنعة، وهذا ما يربطه بالكتابة الباروكية، التي تجد واحدةً من دعاماتها في فن الإخفاء، والاهتمام بالفائض، من هنا كان اتساع النص التأويلي. وللعمل سمة أخرى نشأت من خلال عديد العلاقات الممكنة بين المتون والهوامش، عبر التركيب، والدمج، والتشكيل. أما حركة الديوان فتظهر من خلال الشكل، وهذا التكثيف الذي يخلقه هذا الاتساع الممتد من صوت، إلى آخر، على نحو دفع بالنص إلى بنية لعبية، تحتفي بالعشوائية، وتقوم على مفهوم العرض، في ممارسة ترفض التأسيس، وتقيم مجاز الاختلاف، وهي كتابة ثورية على رغم ما قد يبدو فيها من زيف، ذلك لأنها ترفع قيمة الزيف إلى حده الأقصى، إلى ما نسميه الأصل! يكتب الشاعر في آخر صفحة من النص:"أنا عاشق الظلمة والصمت والمرايا"، ويستدرك"أنا الطائر الحزين أحلق فوق حقول الحريق"، وفي آخر جملة يقول:"اقتربنا من اللحظة الصاعقة، فاتئد في خطاك حتى يطول الطريق"، النصيحة ذاتها التي بدأ بها العمل ونصح بها الزمن"أيها الزمن القاسي اتئد"، ثم ينهي نصه بهذه العبارة"فات أوان الرجوع الهوينى، كي يطول الطريق، نحط على المدائن الزاهرة، في اللحظة الماكرة، لا سهو أو نسيان، لا هوادة أو غفران، نحن آخر الزمان". أما هامش النص فقد احتلته مجموعة أيقونات متتابعة للديناصور، إن الرعب من الفراغ هو هاجس هذا الديوان على مستوى اللاوعي الإبداعي. وكأن"حجراً يطفو على الماء"كان قصده التكتم من البداية، مثله مثل الزمن، هي كتابة عبرت عن تلك الرغبة العاجزة عن بلوغ موضوعها، والتي تحولت إلى تيه لا يرى فيه الشاعر إلا ديناصوراً متكرراً، وكأنه الصدى البصري لنهاية مأسوية وشيكة. * ناقد مصري نشر في العدد: 16746 ت.م: 08-02-2009 ص: 32 ط: الرياض