منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط فبراير 2005، شكّل الحدث زلزالاً لا تزال هزاته الارتدادية تتوالى على مختلف الأصعدة، ومنها الصعيد الأدبي. ولعل كتاب "بيانو من ارقام رفيق 14 شباط *" ليحيى جابر واحدة من هذه الهزات حيث يسجل جهاز قياس الزلازل لديه موجات شعرية وسردية يثبتها في الكتاب وينتج عنها رسم بياني يترجح بين الشعر والنثر. وبمعزل عن النوع الأدبي الذي يندرج ضمنه الكتاب او عن مزجه بين نوعين اثنين، يعترف يحيى جابر بأن الحدث صالحه مع نفسه، وموضوعه، ووطنه. وجعله يستعيد بصره"في الساعة الواحدة إلا خمس دقائق، ارتطم الرجل بي، اصطدمت بروحه، استعدت بصري كأعمى، أبصرني، عادت المياه الى عيني". ص 11 ويعترف بأن الاستشهاد صالحه مع وطنه الذي لم يكن له علاقة به وأيقظه من سكرته وأنهضه من غرقه. وصالحه مع الرئيس الشهيد الذي يشبهه بأبيه الذي تصالح معه يوم دفنه. وإذ يسوق جابر اعترافاته كمن يحس بذنب او يتلو فعل ندامة على تقصيره الوطني وعدم ارتباطه بالوطن وعدم اكتشافه الرئيس قبل استشهاده، تأتي الكتابة كفعل تكفير عن ذنب او اعتذار متأخر او احساس باليتم الخاص والعام، لذلك، يتقمص شخصية الحكواتي ليحكي سيرة الحريري التي هي جزء من سيرة الوطن، فوفاة الرئيس شكلت ولادة الشاعر"الوطنية"، ويروح جابر بلغته الخاصة يرصد محطات من هذه السيرة ويعيد تشكيلها شعراً ونثراً بمعجمه ولغته ومفرداته لعله يكفر عن ذنب فردي/ جماعي، ذلك ان الإحساس بالذنب ليس وقفاً على الكاتب بل يقوم بإسقاطه على الجماعة، حيث ينتقل من استخدام ضمير المتكلم المفرد الى المتكلم الجمع، ليقول ان الجماعة لم تقدّر الرجل حق قدره، وأن حالة العمى التي كانت فردية غدت جماعية، لذلك يسأل على لسان الجماعة: "ألم يكن الإطفائي لحروبنا، فأحرقناه بالإشاعات؟ ألم يشغل القرى بالمدارس وهجّرنا لنتعلم؟". ص27 لكن الوقائع التي سبقت الاستشهاد وأعقبته تثبت ان الجماعة كانت تبصر جيداً، وفي الكتاب غير شاهد على ذلك، فبيروت التي صقّعت لدى وضعه في البراد، والمليون قلب الذي سار في الجنازة واقعتان من هذه الوقائع. يبني يحيى جابر كتابه على مجموعة من الثنائيات المتضادة التي تحضر في النصوص بأسماء مختلفة، ويتفاوت حضر طرفي كل من هذه الثنائيات بين نص وآخر. لكن هذه الثنائيات هي تنويعات على ثنائية اساسية هي القتيل والقاتل، ولكل من طرفي هذه الثنائية اسماء كثيرة. القتيل هو رفيق الحريري، الفتى، الجنيناتي، المعمرجي، البنّاء، البستاني، المدني، النورس، الاطفائي، طيار المستقبل، ضمّان الجمهورية... والقاتل هو المرابي، الخفاش، العاصفة، الغوّاص، الفزّاعات، المخبر، مقاولو الموت... ويحيى جابر ينسج نصه الشعري او السردي بحركته الدائبة بين طرفي هذه الثنائية على تعدد اسماء كل من الطرفين، من دون ان يعني ذلك تساوياً في حضور الطرفين في النص المنسوج، ومن الطبيعي ان يشغل القتيل بأسمائه الحسنى المساحات الأوسع في الكتاب. غير ان القاتل الذي زاحم القتيل في حياته يزاحمه في النص، وهو كثيراً ما يطل برأسه في هذا النص او ذاك، وقد ينازع القتيل في اشغال نص معين. وفي مرة واحدة يستأثر بنص مهدِّداً متوعّداً. انها ادوار يوزعها يحيى جابر المسرحي على اصوات عدة في الكتاب بينها صوته هو لكن صوت القتيل يبقى الأعلى ودوره هو الأطول، فالذين اخرجوه من دوره في الحياة فاتهم انه سيملأ الكتاب وأن الورق اطول عمراً من اعمارهم. ولأن الأمر كذلك، يتوقف الكاتب عند محطات معينة في مسيرة الصوت الأعلى بين الولادة والشهادة، ويصوغ حضوره بضمير الغائب او المتكلم او المخاطب، وتتفاوت درجة الحضور بتفاوت وظائف الضمائر، فمرة يتحدث الكاتب عنه، ومرة يتحدث إليه، ومرة ثالثة يستمع ونستمع معه الى ذلك الصوت الحاضر في غيابه. فرفيق الحريري الفتى هو رفيق الأرض والبساتين والعصافير، يتناغم معها، وينسجم في دورة الحياة الريفية الطبيعية: "هو الفتى يهز السروة ليوقظ الدواري، يرفع اللحاف عن حسون، والشراشف عن بطتين في بركة النوم، هو الفتى الشغيل، يقفز فوق سياج اللوبياء، فوق سياج الليف، فوق سياج الجوري، فوق جلٍّ من القندول..."ص20. والمعجم الزراعي نفسه يستخدمه يحيى جابر في حديثه عن الحريري رجل السلام الذي ينقل الوطن من الحرب الى السلم، فثمة تماه بين الزراعة والحياة كما بين الحرب والموت:"كأنني أراك ضمّان الجمهورية/ كأن تنقل البلاد من مشتل الرصاص نصبة زيتون/ ان تبستن خطوط التماس/ وتجلِّل المتراس/ تتأبط المجرفة لتفتح المعابر جداول وقنوات!".ص47 وفي هذا القسم يبدو القتيل رمزاً للحياة والبناء وإعادة الإعمار وجذب الاستثمارات والقروض والمساعدات الدولية. ويبدو الآخرون يتربصون به شراً، يعرقلون مشاريعه، ويحاولون الإيقاع به. يعبر جابر عن هذه المواجهة بين المشروعين الإنمائي والأمني بهذه الالتفاتة الجميلة:"أذكر يومها، اقتحموا الحديقة في قريطم.../ أوقفوا شجرة غاردينيا/ اعتقلوها بتهمة توزيع العطر". ص59، 60 ورفيق الحريري الصديق يكتبه جابر في"رسالة من رفيق الحريري الى مروان حمادة"تتكشف عن عمق العلاقة ووجدانيتها بين الرجلين الى حد استشرافهما الأمور نفسها، وتتخذ الرسالة شكل ذكريات ومسارات يستعيدها الشهيد الميت عن صديقه الشهيد الحي، فيخاطبه:"وكم بكيت من الفرح لنجاتك من عبوة في الهواء، حين هويت يومها، ارتفعت، شمخت، تسامقت، تغصّنت كأرز الباروك". ص65 ورفيق الحريري البنّاء له موقعه في الكتاب، يصوغه جابر مستنداً الى معجم اللغة حين يقول:"رجل ركب جملة مفيدة كمطار/ جملة طويلة كأوتوستراد/ خروفاً من ناطحات سحاب/ كلمات من جسور/ نقاطاً من ملاعب". ص108 اما رفيق الشهيد فهو محرر الوطن:"لو يعرف الشهيد ان حفرته صارت نافذة حررتنا". ص77 وهو عصي على الزمن والموت:"ما واريناه كمشة زمن بأعمار مضاعفة". ص154 وضريحه مصدر للعطر والضوء:"هنا الضريح نرمي الورود ليزداد عطراً/ نشعل الشمع ليتضاعف ضوءاً". ص155 وجنازته ملحمية/ سوريالية تمشي فيها الأشجار والنباتات والكائنات. وفي الكتاب بعد حضور لرفيق الزوج والأخ والإنسان وسائر ابعاد هذه الشخصية المركّبة/ الغنية. وهكذا، في الوقت الذي يحضر فيه القتيل بأبعاده المختلفة ساطعاً كشمس، واضحاً كنهار، محدَّداً كاسم، يكون حضور القاتل موارباً، مخاتلاً، قناعاً، خفاشاً في ليل. وبالعودة الى النوع الأدبي الذي ينتمي إليه الكتاب، يضع المؤلف على الغلاف مصطلحي: شعر - رواية. وهما نوعان أدبيان مختلفان لعلهما غير قابلين للدمج والتجاور. فهل يعبر متن الكتاب عن عنوانه؟ ان الشعرية موجودة في الكتاب ولها مقوماتها القائمة على التضاد بين المفردات المتجاورة افقياً او بين العبارات المتعاقبة عمودياً، وعلى الصور الغريبة والاستعارات المبتكرة والتشابيه الطريفة والمفردات النابضة بحرارة المعنى. اما الروائية فلها مقومات اخرى لا تتوافر كلها في الكتاب. وبالتالي، فإن الحديث عن روائية الكتاب مسألة فيها نظر. ولا يكفي التوزيع النثري المادي الأفقي للأسطر على الصفحات للكلام على الرواية كما لا يكفي التوزيع العمودي للكلام على الشعر. على اي حال، فإن يحيى جابر يوزع الكلام على الصفحات بطريقتين: افقية يطغى فيها السرد والوقائع، وعمودية تنتشر فيها الجمل القصيرة وترتفع درجة الشعرية. غير انه ضمن هذين التوزيعين للكلام ثمة عبارات شعرية في التوزيع الأول، وثمة كلام مباشر في التوزيع الثاني. ولعل شعرية الكتاب تتأتى عن هذا التعاقب بين النثر والشعر، بين الكلام المباشر والكلام المجازي، بين التقرير والتصوير، بين الواقعة والصورة. ويحيى جابر في كتابه يستخدم لغة خاصة، طريفة، حارة، تحمل بصماته وتعكس حريته في الاختيار والتركيب وتنوع مصادره وعدته وأدواته. وهو كثيراً ما يضرب عرض الحائط بمقاييس الفصاحة ويخرج على تعاليم حرّاس اللغة وسدنة هيكلها. إنه المتمرد الذي يكسر مزراب عين اللغة. ولذلك، نراه يستقي صوره ومفرداته من معاجم متعددة، بينها المعجم الريفي والزراعي والصناعي واللغوي والمدرسي والإعماري. وهو حين يختار مفرداته من هذه المعاجم قد يختارها عامية او تقنية او اجنبية يستعملها الناس ويشحنونها بطاقة الحياة اليومية ولتبلط الفصاحة البحر. وهو يمارس حرية ملحوظة في الاشتقاق فيشتق من الأسماء الجامدة او الأجنبية مفردات لا يغني عنها سواها. ولعل هذه الحرية في الاختيار مضافة الى التنوع المعجمي هما ما يمنح لغة جابر طرافتها وحرارتها. على انه كثيراً ما يتخذ من بعض المفردات رموزاً تتعدد دلالاتها بتعدد استعمالها في الكتاب كرمز"النورس"على سبيل المثال. ولعل هذا الترميز يناسب لغة مباشرة، مداورة، تمارس التقية في التعبير احياناً، تزاوج بين التصريح والتلميح، تظهر وتخفي، تمنح وتمنع، في جدلية واضحة بين الخفاء والتجلي هي من مقتضيات العملية الشعرية ولوازمها. وفي غمرة الغرق في موضوعه، يصر يحيى جابر على تذكيرنا بنفسه كاتباً للسطور مصرّحاً بعلاقته بالنص او الموضوع في نوع من الالتفات. فهل هي الخشية من التفاعل مع المكتوب ونسيان الكاتب ام هي نرجسية الكتّاب الذين يريدون ان يروا انفسهم دائماً في مرايا كتبهم؟ وأياً يكن الأمر، يقدم جابر عملاً يليق بموضوعه، فيأتي تحية من شاعر القصيدة الى"شاعر المدينة"، عشيرة الذكرى الأولى لاستشهاده. * بيانو من ارقام رفيق 14 شباط - شعر/ رواية يحيى جابر - صدر في 190 صفحة من القطع الوسط.