قبل أكثر من عقد، أعلمني نائب إسلامي من حزب"الرفاه"في البرلمان التركي برؤية سياسية جديدة على خلاف وجهة الحياة السياسية التركية السائدة. ودار كلام هذا النائب، وهو اليوم رئيس جمهورية تركيا، عبد الله غل، على عزم الحزب على إنشاء نوع من"كومنولث"بين تركيا ودول الجوار الآسيوية، ومنها سورية وإيران، وعلى الأهمية التي يوليها إبرام تركيا تحالفات مع آسيا والدول الإسلامية. وخلص، يومها، الى أن مستقبل تركيا هو في آسيا، وليس في أوروبا. ويبدو أن هذه الأفكار، وهي بدت يومها غريبة، هي رائد سياسة تركيا الجديدة. ويصف بعضهم هذه السياسة بال"نيو عثمانية"، وبعض آخر يسميها سياسة خارجية"مستقلة"تؤذن ببروز نفوذ تركيا في الساحة العالمية. والحق أن هجوم رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، في دافوس، اثر المشادة مع الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريس، هو مرآة هذه السياسة، ومرآة"المزاج"التركي. وتريد هذه السياسة تعزيز نفوذ تركيا بالشرق الأوسط، وإيران وروسيا والعالم الإسلامي. وهذه الطموحات لا تبلغ من طريق التحالف مع أوروبا والولاياتالمتحدة وحده. وعراب هذه السياسة هو أحمد داود أوغلو، مستشار أردوغان في السياسة الخارجية. فهو عرض تفاصيلها في كتاب"العمق الاستراتيجي"الصادر قبل أعوام. ويومها، لم ترحب أوساط النخب العلمانية والغربية الميل بفكرة إبرام بلادهم تحالفات بديلة وجديدة مع الشرق. وطعنت في وساطة حزب"العدالة والتنمية"الحاكم في النزاع الإسرائيلي ? الفلسطيني، وانتقدت مساعي التقرب من إيران وسورية. ولكن، في الأعوام الأخيرة، تغيّرت أحوال تركيا. فالاتحاد الأوروبي صد تركيا، وعرقل انضمامها إليه. وتفشت مشاعر معاداة أميركا ومناوأة الغرب، اثر حرب العراق، وتعاظم ثقل مشاعر"الصحوة"الإسلامية في المجتمع التركي. وليس الحزب الحاكم باعث هذا المنعطف، على رغم أنه يؤطر انعطاف سياسة تركيا الى الشرق تأطيراً عقائدياً. فانتقاد المؤسسة العلمانية التركية التحالف مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل يفوق انتقاد الحزب الحاكم. ودور الأحزاب المعارضة في لعبة"من ينتقد العلاقات مع الغرب أكثر"راجح. واليوم، تغيب الأصوات المدافعة عن العلاقات التقليدية التركية بالغرب عن الساحة السياسية التركية، على رغم أن تركيا هي أقدم أعضاء حلف الشمال الأطلسي. ويؤيد السياسيون الليبراليون الأتراك فكرة انبعاث الميل العثماني التركي أو ال"نيو عثمانية". واستقبل أردوغان استقبال الأبطال، اثر عودته من دافوس، وحملت الحشود لافتات تسميه ب"فاتح دافوس". وقال أحد المتظاهرين أن أردوغان أيقظ مارداً دخل في سبات نحو قرن من الزمن. ويبدو أن العملاق النائم هذا، وهو عضو في ال"ناتو"ومرشح الى عضوية الاتحاد الأوروبي، يسعى الى دور جديد على منصة المسرح الدولي. وهذا أمر مشروع. فتركيا واحدة من أكبر الدول الأوروبية. وهي البلد المسلم الديموقراطي الوحيد. واقتصادها في المرتبة ال17 دولياً. والأتراك مصيبون في الامتعاض من ازدواجية معايير الاتحاد الأوروبي، ومحقون في برمهم من عرقلته عضوية بلادهم في الاتحاد. فنحن ورثة السلطنة العثمانية. وخلفت جهود انقطاع جمهورية تركيا الحديثة من ارث هذه السلطنة، منذ 1923، أزمة هوية مؤلمة في أوساط الأجيال التركية. ولكن ال"نيو عثمانية"ليست في منأى من مشكلات كبيرة وتحديات، منها مصير الديموقراطية والعلمانية. ففي العقدين الماضيين، دعت واشنطن والاتحاد الأوروبي تركيا الى إرساء أسس الديموقراطية في المؤسسات التركية. ويترتب على البحث عن حلفاء جدد الاقتران بدول غير ديموقراطية وغير ليبرالية بالشرق الأوسط وأوراسيا. وترجح الدول هذه كفة الأرباح الاقتصادية على كفة حرية التعبير والإصلاح السياسي. وقد تتعاظم شعبية تركيا في الأراضي الفلسطينية وإيران والسودان. ولكن بريق هذا الإنجاز يخبو، في حال لم تفلح تركيا في حمل هذه الدول على الانفتاح، ورفع القيود عن المجتمع، أو في حال قوض هذا الإنجاز الديموقراطية التركية وعلمانية الحكم بتركيا. والحلم العثماني الحق هو التوق الى الإسهام في مساعدة مجتمعات العالم الإسلامي على الانفتاح على الحداثة والمبادئ الزمنية. مدير مكتب"صباح"التركية، عن"انترناشنل هيرالد تريبيون"الدولية، 20 /2/ 2009، اعداد منال نحاس نشر في العدد: 16763 ت.م: 25-02-2009 ص: 24 ط: الرياض