-1- بعد أن شرعت في قراءة هذه المجموعة الشعرية وجدتني أتساءل بعفوية مطلقة: إذا كانت قصيدة النثر بمثل هذا العمق والشفافية فلماذا يقذفها أعداؤها بكل ما تطاوله أيديهم من أحجار الكلمات؟ ولعل الإجابة المضمرة في هذا السؤال تكفي للرد على أصحاب تلك المحاولات البائسة والرامية إلى التقليل من أهمية هذا الشكل الشعري، والناتجة عن فقدانهم القدرة على التعايش مع الحاضر في إبداعاته وفنونه، فضلاً عن عجزهم عن التعايش مع المستقبل ، فالاستقراء العميق لواقع الإبداع العربي يشير إلى أن هؤلاء الرافضين للعصر أو الذين يوهمون أنفسهم بأنهم قادرون على حجب المستقبل كثيرون ولهم حضور موقت في كل مكان. وبما أنّ لا فائدة من إقناعهم بضرورة التغيير وأهمية تطوير الذائقة الشعرية والجمالية، وتأسيس رؤى فنية تتلاءم مع كل عصر، فإن الحل المقترح - وهو ليس بالجديد- أن يستمر شعراء قصيدة النثر في كتابة ما يرونه شعراً يمثل حداثة زمنهم وحدسهم الفني بالمستقبل دونما التفات إلى ما يقال ، ودونما استجابة للدخول في معارك مفتعلة وجدل عقيم عبر منازلة وهمية لا جدوى منها. وهذا ما يفعله باقتدار الشاعر عبده وازن في هذه المجموعة الشعرية الجديدة بصفته إحدى العلامات المضيئة في مسيرة الشعر العربي الحديث ومن خلال أعماله الشعرية الحافلة بالحب والأحلام والفرح والألم عبر رؤية إنسانية تستوعب مختلف جوانب الحياة. "حياة معطلة"هو عنوان هذه المجموعة السابعة في سلسلة إصدارات الشاعر عبده وازن دار النهضة العربية"وأزعم أنني قرأت غالبية الإصدارات الشعرية لهذا الشاعر الناقد المسكون بهم التأسيس لذائقة جديدة ووعي جديد تجاه الكتابة الإبداعية، وخرجت من تلك القراءة أو بالأحرى القراءات بأنه كان فيها جميعاً شاعراً جديداً متميزاً يجمع في تجربته العميقة بين الشعر والحياة، الشعر في لغته الصافية، والحياة في الشجي والخفي من أطيافها اللامتناهية: "الزارع الذي خرج ليزرع/ لم يجد الحقل/الذي أبصره في نومه/لم يجد البيدر/اللامع بسنابله./ وجد عظاماً خضراء/ وجد الشمس باهتة/ والسماء بيضاء/ كعين الأعمى. ص132 هكذا هو الشعر حين يضعك في حالة من الوضوح الملتبس إذا جاز التعبير، وينقلك بمجموعة من الكلمات الخالية من الزوائد إلى جهات متعددة، كما يلقيك في برزخ بين الحقيقة والخيال في نصوص من الشعر تضج بالحيوية وصفاء الرؤية، وبمعادلة تعبيرية قادرة على لملمة التفاصيل المبعثرة وتشكيلها على نحو يلائم بين الذاتي الداخلي المفتوح على ضجر الواقع وشموسه الدافئة: "يرسم السجين/ نافذة على الجدار/ لا يستطيع السجان/ أن يغلقها./ داخل النافذة/ رَسمَ سماءً/ وشمساً/ لا يتنبه السجان لهما. 162 وأذكر أنني كتبت ذات مرة وتحدثت إلى طلاب الدراسات العليا عن عبده وازن كواحدٍ من أبرز شعراء السهل الممتنع في قصيدة النثر، وأنه يرفض الدخول بقصائده في المناطق المعتمة الفاقدة الاشتعال والشفافية الوجدانية، وأنه يحتمي بذاكرته وبالدلالات اللغوية ذات الإيحاء المثير واللافت. وهو لذلك كله واحد من أشد أنصار المشروع الحداثي في مجال القصيدة العربية الأجد ومن أكثرهم رسوخاً في حقل لغتها الخالية من الضعف والركاكة: "الكتاب/ الذي وضعته الخادمة مقلوباً على الرف/ سقطت منه الحروف/ وصاح صاحبه ألماً/ عندما رفعت/ الكتاب/اسم صاحبه/ لم يظهر له/ أثر/ وحدها أصابع الخادمة/لاحت على الغلاف". ص184 يا للمفارقات المدهشة بظلالها القريبة والبعيدة بمحوها وإثباتها. ويالغرابة الرؤية، وهي تعبر عن المعالم الواضحة نحو عوالم قصية لا تُنال ولا تدرك إلاَّ بالشعر في أجمل تخييلاته واكتمالاته. -2- في"حياة معطلة"يفسح الشاعر عبده وازن المجال لتفاصيل الحياة بكل ما تنطوي عليه من مفارقات إيجابية وسلبية ويجعلها تتدفق عبر لغة متينة. وفي هذه المجموعة يدخل الشاعر إلى نفسه ليخرج منها إلى الآخرين وإلى الأشياء من حوله، وهي كثيرة، تبدأ من الحياة المعطلة"التي نكتشفها كل يوم بمزيد من الحسرة"ولا تنتهي عند صراخ"المدن وهي تسقط والأشجار والسهوب وهي تحترق". ليست مجموعة شعرية إذاً، بل هي كتاب مفتوح، أو بالأصح كتاب يختزن تجربة بالغة الثراء لا تحتمل قراءة محدودة المساحة تكتفي بمجرد الإشارات العابرة ولا تتوقف عند كل عبارة تنطوي على بنيتها العالية ورصانتها الخاصة: "صورة بيضاء/لا تبصر فيها/ وجهاً/ ولاشجرة/ هكذا الحياة/ التي تنساها / وراءك/ التي تمحوها بالحبر/ لتسطع غيومها/ الحياة التي تكتشفها كل يوم/ بمزيد من الحسرة/ التي تفتقدها كل يوم/ بمزيد من الارتباك". ص14 لكم يحاول الشاعر الهرب من اللغة الواصفة والتحرر من سيطرة العبارات المستخدمة أو المنتهكة لتبقى له لغته المعبرة عن تجربته الخاصة الباحثة عن جزئيات منسية في مكان ما من الذاكرة لتشكل مع بعضها عملاً جميلاً فاتناً. ويبدو أن الشاعر عبده وازن مر أثناء كتابة قصائد هذه المجموعة بتجربة عنيفة وضعت قلبه ولا أقول يده على كنزٍ من الأسئلة، وما الحياة سوى سؤال كبير في حجم الكون والناس والأشياء، والشاعر العظيم هو ذلك الذي شغل نفسه، ومن ثم الناس بمحاولة الإجابة عن هذا السؤال الكبير. وليس من المهم أن يتوصل الشاعر أو القارئ اللبيب إلى تلك الإجابة، يكفي أن الشاعر توصل بآلياته اللغوية التجريدية إلى وضع علامة على الطريق تدل أو تشير إلى تلك الإجابة المنتظرة:"من نسي الوردة على الطاولة؟/ من أيقظ المرآة من نومها؟/ ساعة الجدار تعشش فيها رتيلاء!/ الباب معلّق في الهواء/ البيت يطير بلا أجنحة/ الليل هادئ كالحليب/ النجمة وجه فتاة نائمة/ هل تكتب يد مقطوعة؟/ ماذا تبصر عين يسيل منها الدم؟ هكذا ينجح الشاعر باستخدام حواسه لإثراء الحياة بالأسئلة الطازجة تلك التي تسعى إلى مخاتلة لغة العقل ولا تستعين بسوى لغة الشعر متسربلة أحياناً بفيض لا ينضب من الألق السوريالي بكل ما يغدقه على النص من سحر وظلال ودعوة للتأمل وإدراك عذوبة العبارة وعمق الفكرة. نشر في العدد: 16760 ت.م: 22-02-2009 ص: 32 ط: الرياض