أوردت وكالة"معا"الفلسطينية للأنباء خبراً، بعنوان"على طريقة غسان كنفاني: 25 فلسطينيّاً حاولوا التسلل الى"إسرائيل"داخل صهريج".. وجاء في التفاصيل نقلا عن مصادر إسرائيلية"أنّ قوّات ما يسمى"حرس الحدود"اعتقلت 25 فلسطينيّاً داخل صهريج للوقود يعود الى أحد سكان"القدس"الشرقية، الذي اعترف بأنه تلقى 250 شيكلاً من كلّ شخص. وأضافت المصادر أن سيارة الصهريج أثارت اشتباه جنود حرس الحدود الذين أوقفوها للتفتيش ما أسفر عن اكتشاف فتحة خاصة في أرضية الصهريج استخدمت لإدخال الفلسطينيين الباحثين عن عمل، وجميعهم من سكان شمال الضفة الغربية. وفور اكتشاف الواقعة اعتقل السائق الذي اعترف بشرائه الصهريج لهذه الغاية، وبدا ملفه حافلاً بقضايا تهريب العمال الفلسطينيين بحسب المصادر ذاتها". هذا الخبر الآتي من ميدان العمل الفلسطيني يعيدنا، من جديد، إلى رواية"رجال في الشمس"لغسان كنفاني، التي اتخذت من حاجة اختراع أحد أساليب التهريب مرجعيةً، أصبحت أساساً ومنطلقاً للعمل الروائي. و في هذا الصدد يقول الكاتب محمد البطراوي في شهادة له عن أديب"الهدف":"كان يحلو لغسان كنفاني، دائماً، تحويل النهايات، ففيما كنا نشاهد معاً فيلماً حزيناً جدّاً، هو"سارق الدراجة"، راح غسان يتحدث، عند خروج الجمهور من السينما، والكلّ متأثر أو دامع العينين، قائلاً بصوت عالٍ، كي يسمعه الخارجون من الصالة:"لماذا لَمْ يَشترِ له أحد درّاجةً ليغنينا عن هذا البكاء". ضحك معظم الجمهور، ثمّ قال لي هامساً:"أرأيت كيف تتحوّل النهايات؟". غير أن الراحل غسان كنفاني لم يفعل الشيءَ ذاته، في نهاية روايته الشهيرة"رجال في الشمس"، فلم يضحكنا، لأنه أنهاها في شكل لا يسمح لأحدٍ بتحويل شخصية محورية تدعى"أبا الخيزران"الى سائق شاحنة ذات خزّان صدئ للمياه. وهنا، لا يفوتنا أن ننقل كلاماً آخرَ، ومهمّاً جدّاً، أدلى به البطراوي، في شهادته:"نشأت بيننا صداقة قوية، وكان ينظر إلى تجربتي الحياتية والسياسية بإعجاب كبير. وكان يحاول، دائماً، أن يعرف اسمي الحقيقي، ذلك أنني كنت أعيش وأعمل في الكويت بجواز سفر مزيف واسم مزيف، وعندما كفّ عن السؤال عرفت أنه عرف الاسم الحقيقي. كنا نتحدث كثيراً عن فلسطين. وحدثته عن قريتي"أسدود"طويلاً، وعن وقوعي في الأسر عام 1948، وعن التعذيب الذي مررت به على أيدي رجال الأمن في معسكر الأسرى. وظهر في إحدى قصصه في ما بعد، حديث له عن التعذيب تحت نقطة الماء المتقاطرة وإرهاق الأعصاب، بما يقارب الشكل الذي حدثته به كما حدثَ معَي. وحدثته عن المعتقلات الصحراوية في سيناء، وعن هروبي من غزة عام 1952 متسللاً عبر"إسرائيل"إلى الأردن. وقد ظهرتْ ملامح واسعة من طريق هذا الهروب واحتراف العمل السياسي في روايته"ما تبقى لكم"، ومسرحيته"الباب". ولعلّ أبرز تأثّره بهذا القصص كان في روايته"رجال في الشمس"، ذلك أنني، يضيف البطراوي، رَويتُ لكنفاني كيف دخلتُ الكويت، بصورة غير شرعية"تهريباً"، ولم أكن أمتلك"فيزا"للدخول، وكانت الطريقة هي الاختباء داخل خزان فارغ لسيارة تنقل الماء"فنطاس"". وبدورنا، عند قراءة الرواية ذاتها، نجد أن السائق، أبا الخيزران، هو صاحب الفكرة الجهنمية، المتمثلة في تهريب ثلاثة فلسطينيين من البصرة الى الكويت، في خزان مياه فارغ تحمله شاحنة يملكها رجل كويتي ثري يدعى الحاج رضا. هذه الفكرة الجهنمية أرادت، بقبول الثلاثة لها، أن تكونَ تَحايلاً من السائق على الأمن الكويتي، وفي الوقت نفسه أن تكونَ تحدياً أو تَحمّلا مشتركاً لحرّ الصحراء. نعم، كان قبول الفكرة الجهنمية من الذوات المشتركة، في الهدف، بمثابة الإرادة أو الترياق في مواجهة ظروف العيش وطقوس الصحراء. وبقدر ما كانت الفكرة نادرة وذكيّة كانت ماكرة لا تعطي الأمان الواسع. لذا، جاء مستوى المخاطرة أعلى واحتمال فشل العملية أقرب، في مثل ظروف الصحراء بصفتها واقعاً موضوعيّاً وفنيّاً، في الرواية، بطيءَ التحوّل إلى الخضرة والحياة، إن لم يكن مَعدوماً على مستوى المعنى! وقد بَقي التطمينُ الشخصيّ من السائق أبي الخيزران للفلسطينيين الثلاثة أقلّ مُساهمة في إنقاذ حياتهم من الأخطار غير المتوقعة"على رغم ارتكاز ذلك السائق على ما يحظى به هو من معاملة وتسهيلات خاصة عند نقاط التفتيش والعبور الحدودية، حيث اعتاد عناصر الأمن عليه، وكانت بينهم ممازحة. فأبو الخيزران يعمل لمصلحة"الحاج رضا"الشخصية المعروفة والمتمتّعة بعلاقات واسعة، وبالتالي يتمتع بتسهيلات وكذلك من يعمل معه. لم يستطع أبو الخيزران أن يتدارك النهاية، ولا أنْ يُحوّلها، إذ فطس أسرى الحاجة والإرادة المشتركين، الذين أجبروا على قبول خيار خزان مهجور، وظنوا أن في دخوله مَخرجًا إلى الحياة. فسرعان ما تحوّل المَخْرجُ مأزقاً استطاعَ أن يقدّم للقارئ فرصة للمشاركة اليائسة في تدارك الوضع بالاحتمالات والتمني. غير أن كنفاني لم يكنْ، حقيقة، يطالب بالمشاركة في الحلول، كما يحصل في سلسلة الراويات التي تنتهي بألغاز، بقدر ما كان الراوي يطالب المتلقي بفهم عجزه وفشله، وعدم جدوى أي محاولة لتحويل النهاية من السجن إلى الحرية، ومن الموت إلى الحياة. وكيف للقارئ أن يعدّل في التحوّلات التي جرت من خزّان ناقل وحافظ للماء، إلى سجن طارئ ومظلم وخانق للأرواح، ثم إلى صندوق من حديد صدئ مظلم، في العيون، قبل أن يذهب الأسرى والشهداء إلى السجن أو النوم الطويل في رمال الصحراء؟ كيف له ذلك، كيف؟ نشر في العدد: 16751 ت.م: 13-02-2009 ص: 24 ط: الرياض