لا شيء من الزحمة التي تخنق الطرق المؤدية إلى معرض بيروت العربي - الدولي للكتاب ينسحب على داخله. هنا، في قاعة"بيال"للمعارض القريبة من وسط بيروت حيث الدورة الثالثة والخمسون للمعرض البيروتي العتيق، يبدو كل شيء مريحاً وفضفاضاً. التجول في الأرجاء الواسعة أشبه ب"كزدورة"في شوارع بيروت نهار أحد، وإن كانت"الكزدورة"هنا أكثر صعوبة، بسبب تعذر الوصول إلى دور نشر محددة إذا ما اعتمد الزائر على الدليل المقدم إليه عند المدخل. المساحة التي يشغلها المعرض في سنته الراهنة تبدو أكثر اتساعاً منها في الأعوام السابقة، وتنقسم إلى جناحين يشغلهما أكثر من 150 دار نشر لبنانية ونحو 40 ناشراً عربياً من مصر وتونس وسورية والأردن والبحرين مع أن الناشرين العرب يعرضون منشوراتهم ضمن مكتبات ودور نشر لبنانية مشاركة وهذا له دلالته. وتشارك في الدورة الحالية أربع دول رسمياً هي السعودية والكويت والإمارات وعمان، إضافة إلى مراكز ثقافية غربية، وأجنحة خاصة ببرنامج الأممالمتحدة، وجناح خاص ببيروت عاصمة عالمية للكتاب. غير ان هذا التزايد الملحوظ لدور النشر، لم ينعكس ازدياداً في صفوف رواد المعرض ولا في حركة البيع، خصوصاً أن معظم الناشرين اللبنانيين والعرب لا يعدون معرض بيروت سوقاً حقيقية للكتاب. ويبدو أن التوقعات بأن يلقى المعرض إقبالاً يفوق الاعوام السابقة بسبب وقوعه في فترة تضج بالاعياد وبسبب وجود أعداد كبيرة من السائحين الخليجيين والعرب، لم تصدق. بل على العكس من ذلك، يرى متابعون لشؤون المعرض أن الاعياد لن تكون عاملاً ايجابياً لحركة بيع الكتب، على اعتبار ان الأخيرة تقع في اطار الكماليات التي ليس وقت الأعياد مناسباً لها. من هنا قد يبدو مبرراً تقلص عدد زائري المعرض في دورته الحالية مقارنة بدوراته السابقة، على رغم حال الاستقرار الأمني والسياسي التي تشهدها البلاد. ويقتصر رواد النهار على طلاب المدارس وبعض الجامعات، وتكشف جولتهم في المعرض علاقة معظمهم بالكتاب، فتراهم يتنقلون بين دار وأخرى وكأنهم مجبرون على اداء واجب مدرسي ممل: نظرات حائرة على رفوف الكتب، ووقفات مزاح أمام كتب تحمل عناوين مثيرة، أما الشراء فيقتصر في افضل الاحوال على تلك الكتيبات الصغيرة التي تحمل عناوين فضفاضة توحي بأن الحياة برمتها ستتغير ما أن يطوي القارئ الصفحة الأخيرة من الكتيب. وعدا عن الكتاب الورقي، لن يجد هؤلاء الطلاب المتجولون ما يستوقفهم. أما مساء، فيبدو الحال داخل اروقة المعرض أفضل، لكنه يظل أقلّ إقبالاً عن الأعوام السابقة. ترتفع تدريجاً أعداد الرواد، لا سيما عند أوقات توقيع الكتب. وتصير وجوه كثيرين منهم مألوفة من خلال الدورات السابقة للمعرض، ويكثر بينهم أصدقاء لا يراهم المرء الا مرة في السنة وفي الحدث نفسه: إما في رواق من المعرض وإما في الكافيتيريا، حيث يتصفح كل منهم ما في كيس الآخر من مشتريات. أما ما يمكن ان يشهده الزائر من تجمعات، فمردّه غالباً الى احتفالات التوقيع التي تقيمها دور النشر للإصدارات الجديدة. الجناح الخاص ببيروت عاصمة عالمية للكتاب يكاد يكون الرابط الوحيد بين تزامن الدورة الحالية للمعرض مع الحدث البيروتي الأبرز للعام، حين اختارت منظمة"يونيسكو"بيروت عاصمة عالمية للكتاب للعام 2009"لدورها في تعزيز التنوع الثقافي والحوار والتسامح". ولكن لا شيء في المعرض الخاص بالكتاب أولاً وأخيراً، يضيف إلى معرفة الزائرين بالحدث، على رغم تخصيص مساحة في الندوات والنقاشات المندرجة ضمن فاعليات المعرض لروائيين عرب ولبنانيين. وهو نشاط لن يعني في معظم الأحوال الا الدائرة الضيقة من الروائيين والكتاب والمثقفين والمتابعين، وبالتالي لن يستقطب من هم خارج هذه الدائرة من طلاب جامعات ومدارس وموظفين. ذلك أن إحياء الحدث - على أهميته - والترويج له اقتصرا على الطريق التقليدية ولم يستنبط القائمون على الحدث، كما على المعرض طرقاً تخاطب عقولاً خارج الدائرة، ولم تحظ المنشورات الصادرة عن الجناح بالدعاية اللازمة لها، وإن كان بينها ما قد يهم السائح والمغترب والمقيمين على السواء، كإطلاق"سلسلة تراث الزجل اللبناني"، وكتب اخرى تحكي عن بيروت. إلا أن ندوة الرواية العربية التي يشهدها المعرض، تظل من أبرز النشاطات لكونها تضم روائيين عرباً ولبنانيين معروفين، عطفاً على النقاد. وقد عالجت قضايا الرواية العربية والأزمة التي تعانيها في زمن بات يسمى"زمن الرواية". ولعل قرار الإعلان عن اللائحة القصيرة لجائزة"بوكر"العربية، قد يكون نقطة مضيئة استغلها المعرض ربما مستفيداً من الجدل اللبناني والعربي الدائر حولها فأضافت بعضاً من الحيوية والتنوع على النشاطات الثقافية. اصدارات كثيرة تزين المعرض في دورته الحالية، واحتفالات تواقيع كثيرة تحييها دور النشر يومياً وتحيي معها علاقة جميلة بين القارئ وكاتبه. وقد أضحت حفلات التوقيع هذه احدى الوسائل التي تعتمدها دور النشر لتسويق كتبها. فالقراء يهتمون كثيراً بالتقاء الكتّاب الذين يقرأون لهم وبالحصول على تواقيعهم، ناهيك عن الكتّاب الذين باتوا ينتظرون مثل هذه الفرصة ليلتقوا قراءهم وأصدقاءهم. كتب كثيرة وجديدة أضيفت الى رفوف المعرض للعام الحالي: سياسة ورواية وشعر وطب وطبخ. وعلى رغم الانطباع بأن الرواية تشهد طفرة حالياً، إلا ان الكتب السياسية بدورها تبرز في الدورة الراهنة في شكل لافت، والى جانبها كتب الشعر التي تصدر بعضها دور نشر غير معروفة على نطاق واسع، وأسماؤها ليست مدرجة في الدليل الموزع على مدخل المعرض، وهي ترعى تجارب شبان جدد اختاروا الشعر أو القصص القصيرة اطلقوا على بعضها اسم الرواية مدخلاً لهم الى عام الكتابة الجميل. "المعرض ليس سوقاً للبيع"... هذا هو الانطباع الذي بات مرافقاً لمعرض بيروت العربي - الدولي للكتاب. لكنه خارج حركة البيع والشراء ومؤشر الاقبال عليه، يبقى فسحة ملونة بأغلفة كتب كثيرة، ومنفذاً من المدينة الملونة بألوان ضجيجها وجنونها الى حيث رائحة الورق تطغى على ما عداها. نشر في العدد: 17059 ت.م: 18-12-2009 ص: 19 ط: الرياض