أثار الاستفتاء الذي جرى أخيراً في سويسرا الذي كانت نتيجته قبول غالبية الناخبين السويسريين لمشروع قانون يضيف بنداً في الدستور يحظر بناء المآذن في البلاد، ردودَ فعل واسعة ومتفاوتة، ليس من المسلمين في كل أقطار الأرض فحسب، بل حتى من المسيحيين واليهود. وقد أجمع هؤلاء على أن ما انتهى إليه هذا الاستفتاء يتعارض مع الحريات الدينية ومع مبادئ التسامح والتعايش بين الأديان، وهو أمر يبعث على القلق. ولقد وقفت من خلال متابعتي لتداعيات هذا الموضوع في وسائل الإعلام العالمية، على آراء تستحق التقدير، عبّر عنها عدد من المسؤولين الدينيين والسياسيين في أوروبا. ففي أول رد فعل للفاتيكان على نتيجة الاستفتاء بحظر بناء مآذن المساجد، اعتبر أن هذا الحظر يبعث على القلق. فقد قال رئيس المجلس البابوي للمهاجرين، المونسنيور انتونيو ماريا فيليو، وفقاً لما نقلته وكالة"آكي"الإيطالية للأنباء، إنه متفق مع"الخط الذي تبناه الأساقفة السويسريون"الذين أعربوا عن قلقهم العميق لما وصفوه بأنه ضربة قاسية للحرية الدينية وللاندماج في شكل عام. وبحسب ما أذاعته وكالة CNN يوم 1 كانون الأول ديسمبر، فقد قال رئيس المجلس البابوي للمهاجرين:"نحن المسيحيون لا يمكن أن نقبل منطق الاستبعاد، إذا كان أحد يريد أن يكون كاثوليكياً، فيجب أن يكون منفتحاً على الآخرين". وكان الأمين العام لمجلس الأساقفة السويسريين، المونسنيور فيليكس غمور، عبر في مقابلة إذاعية عن استياء الأساقفة السويسريين لموضوع حظر بناء المآذن في سويسرا، رابطاً بين هذا القرار وبين الحكم الصادر عن المحكمة الأوروبية حول منع وضع الصلبان في إيطاليا، وقال في هذا السياق:"كلا الموقفين يقومان على أساس الاعتقاد الخاطئ بأن الدين ينبغي أن يكون مجرد مسألة خاصة، وبالنسبة للمسيحي فهذا غير ممكن.. علينا أن نفتح نقاشاً واضحاً، لأن المجتمع مضطرب، وهناك تناقض في المجتمعات الأوروبية كافة". وهذا رأي يستحق أن يتوقف المرء عنده. وفي إيطاليا حيث المشاعر الدينية أكثر تأججاً منها في غيرها من دول أوروبا، وصف وزير الخارجية الإيطالي، فرانكو فراتيني، الاستفتاء حول حظر المآذن بأنه"مثير للقلق"، وقال:"نحن ندافع عن حقنا كإيطاليين في وضع الصلبان في الصفوف المدرسية، لذلك ننظر بعين القلق إلى رسائل من هذا النوع تؤكد الاختلاف، أو تدعو إلى الحظر حيال الأديان الأخرى، كالدين الإسلامي". وأضاف الوزير الإيطالي قائلاً:"أعتقد أنه ينبغي ببساطة العودة إلى تأكيد ما تقدمت به إيطاليا في الاجتماع الأخير لمجلس أوروبا:"الحرية لجميع الأديان"... بالطبع، نحن على اقتناع تام بأن قرار رفع الصلبان من المدارس كان خطأ فادحاً... غير أن منع إنشاء المآذن يمثل بصراحة، رسالة تبدو سلبية جداً للمسلمين". وختم رئيس الديبلوماسية الإيطالية تصريحاته، وفقاً لما نقلته عنه وكالة"آكي"، بالقول:"لذا فإنه أمر يبعث على القلق كثيراً". أما في ألمانيا حيث يتصاعد المدُّ اليمينيُّ المناهض للظاهرة الإسلامية في أوروبا، فقد وصف مسؤول في الحزب الحاكم، نتيجة الاستفتاء السويسري بأنه مؤشر لاتساع نطاق الخوف من"أسلمة المجتمع"، فيما أعربت أحزاب المعارضة الألمانية عن صدمتها من نتائجه، وأكدت أن الحرية الدينية لا ينبغي أن تخضع لاستفتاء. وقال نائب المتحدث باسم الحكومة الألمانية، كريستوف شتيجمانس بهذا الخصوص:"لا يمكننا بالتأكيد إعطاء سويسرا نصائح من هنا"، مؤكداً أن"الحكومة الاتحادية الألمانية على ثقة بأن حرية الأديان ذات قيمة عالية في سويسرا كما هي الحال في ألمانيا". وأوضح متحدث باسم وزارة الداخلية الألمانية، أن حرية الأديان في ألمانيا تشمل أيضاً حق بناء المساجد، وهو أمر أقره مؤتمر حول الإسلام في ألمانيا عقد في مارس آذار الماضي، من دون التطرق إلى مسألة المآذن فيشكل خاص. وقال رئيس لجنة الشؤون الداخلية في البرلمان الألماني، فولفغانغ بوسباخ:"إنه من الضروري أخذ القرار السويسري مأخذ الجد"، مشيراً إلى اتساع نطاق الخوف مما يعرف ب"أسلمة المجتمع"والتي وصلت في رأيه إلى ألمانيا أيضاً، وعبرت أحزاب المعارضة الألمانية عن شعورها بالصدمة إزاء نتائج الاستفتاء السويسري. وقالت العضو في حزب الخضر الألماني، كاترين جورينج - ايكارت، التي عبرت عن صدمتها لنتائج الاستفتاء:"إنه يجب ألا تخضع الحرية الدينية لاستفتاء، مضيفة في هذا السياق:"قيل إن الأمر يتعلق بالمآذن فحسب، ولكنه يتعلق في الحقيقة بحرية الأديان". وورد في خبر بثته"رويترز"يوم فاتح كانون الأول الجاري، أن كلاً من الحكومة والبرلمان في سويسرا"رفضا المبادرة أي نتيجة الاستفتاء باعتبارها انتهاكاً للدستور ولحرية الديانات والتسامح الذي تتمسك به البلاد". وهذا تصريح مثير، لست أدري كيف مرَّ به الإعلام العربي والإسلامي مرور الكرام، كما يقال. وقد قرأت في مقال رصين وقيّم للصديق الدكتور محمود حمدي زقروق، وزير الأوقاف المصري وخريج المدرسة الفلسفية الألمانية نشره في"الأهرام"، معلومات مهمة عن خلفيات هذا الموضوع، توقفت عندها متأملاً ومقدراً مبادرة الكاتب الفاضل بنشرها، حيث يقول:"منذ بداية الحديث في سويسرا عن مبادرة منع بناء المآذن، كان السفير السويسري السابق في القاهرة، في زياراته المتكررة لوزارة الأوقاف، حريصاً كل الحرص على توضيح موقف حكومته وموقف البرلمان الرافضين لهذه المبادرة التي أطلقها حزب الشعب اليميني المتطرف. ومنذ أسبوعين زارني السفير السويسري الجديد مؤكداً هذه المواقف، ومشيراً إلى أن الحكومة السويسرية دعت المواطنين إلى رفض هذه المبادرة عند التصويت عليها في الاستفتاء الشعبي في 29 تشرين الثاني نوفمبر، الذي تقرر إجراؤه بعد حصول حزب الشعب على توقيع أكثر من مئة ألف مواطن - كما ينص الدستور - وقد تم إجراء الاستفتاء وأظهرت نتيجة التصويت تأييد 57 في المئة من الناخبين لمنع بناء المآذن، وبناء على ذلك أصبح التعديل الدستوري أمراً مقررا لا مفر منه". ويفيد الدكتور زقزوق:"إنه قبل إجراء الاستفتاء لم تكن المناقشات تتركز حول بناء المآذن فقط، وإنما شملت كل ما يتعلق بالمسلمين هناك، ومن بين ما قيل دعماً لهذه المبادرة، إنها تهدف إلى منع ما يزعمون أنه هيمنة المد الإسلامي على سويسرا، ومنع المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية فيها، ومن بين اللافتات التي رفعت في هذا الصدد صورة امرأة منتقبة وخلفها عدد من المآذن". ويقول كاتب المقال الذي عاش سنوات في ألمانيا للدراسة:"عندما انطلقت الدعوة إلى حظر بناء المآذن، سألت بعض المسؤولين السويسريين عن أوضاع المسلمين في سويسرا - الذي يبلغ عددهم أربعمئة ألف مسلم معظمهم من بلاد البلقان - وعما إذا كان قد صدر منهم تصرفات تعكر صفو علاقتهم بالمجتمع السويسري. وكانت الإجابة بالنفي، فليس من بينهم أصولي أو متعصب أو إرهابي، وهم يتعايشون في سلام مع السويسريين". ويقول الكاتب أيضاً:"إن المآذن التي يعلوها الهلال تعد رمزاً للإسلام مثلما ترمز أبراج الكنائس التي يعلوها الصليب للمسيحية، وحرمان المسلمين من هذا الرمز، يدل على تمييز عنصري وتضييق ديني". وتساءل الكاتب، وهو تساؤل أشاركه فيه:"لست أدري كيف يتفق التعديل الدستوري بمنع بناء المآذن مع ما ينص عليه الدستور هناك من حرية العقيدة والمساواة، فهذه المساواة في حق المسلمين ستكون من غير شك مساواة منقوصة". وعبر الدكتور محمود حمدي زقزوق عن الخشية من تطور الأمور إلى الأسوأ، وهو شعور يشترك فيه المسلمون عموماً، فقال:"إن ما يخشاه المسلمون الآن في سويسرا بصفة خاصة، وفي أوروبا بصفة عامة، هو أن يكون حظر بناء المآذن في سويسرا بمثابة بداية لإجراءات أخرى للتضييق على المسلمين، وليس بمستبعد أن تحذو الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا - والتي تنامى نفوذها في عدد من البلاد الأوروبية - حذو سويسرا في تضييق الخناق على المسلمين، وجعل حياتهم في أوربا أمراً بالغ الصعوبة، يبلغ عدد المسلمين في كل دول أوروبا 23،8 مليون بنسبة 4،6 في المئة من عدد السكان". والحقيقة أن ما حصل في سويسرا يفتح المجال واسعاً للمطالبة باعتماد أساليب عملية مناسبة في التعامل مع ظاهرة العداء والكراهية للإسلام عقيدة وثقافة وحضارة ورموزاً. فليس من المقبول، ولا من العقل والحكمة في شيء، الوقوف بلا مبالاة أمام هذا الوضع العدائي الآخذ في التوسع، على رغم دعواتنا المتكررة ومبادراتنا العديدة للحوار والاحترام المتبادل، أو اللجوء إلى الأساليب الغوغائية المندفعة، في التعبير عن رد الفعل إزاء موجة الكراهية المتصاعدة. في الأسبوع الماضي، حين انفجرت الأزمة على أثر ظهور نتائج الاستفتاء في سويسرا، وجهت نداء للعالم الإسلامي لمقاطعة سويسرا تجارياً وسياحياً، وسحب الأرصدة المالية من بنوكها، ردّاً على النتائج التي أسفر عنها الاستفتاء، وذلك بعد أن عبرت غالبية الشعب السويسري في ذلك الاستفتاء عن روح الكراهية والعداء للإسلام وللمسلمين. وأكدت في ندائي أن هذا الحظر لبناء المآذن، يتعارض كلياً مع القانون الدولي، ومع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومع الاتفاقية الدولية للتنوع الثقافي، ومع المبادرة الدولية لتحالف الحضارات، ومع جهود المجتمع الدولي في مجال تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات والتعايش السلمي بين الشعوب. وقلت إن العالم الإسلامي مدعو إلى التحرك الإيجابي للردّ على الاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون في ويسرا، بالأسلوب المتحضر الملتزم بالقوانين الدولية، والذي يتمثل في المقاطعة المالية والتجارية والسياحية، لكي يحس الناخبون السويسريون الذين صوتوا مع هذا القرار، بأن العالم الإسلامي لا يقبل الاعتداء على دينه أو التضييق على المسلمين في ممارسة شعائرهم، ولكي يشعروا أيضاً، بفداحة الضرر المادي والمعنوي الذي ألحقوه ببلدهم وبمصالحه. ولا زلت عند موقفي هذا، لأنه هو الأسلوب الملائم والمناسب للرّد على هذا القرار المتعارض مع الحريات الدينية المنافي لحقوق الإنسان، ومع العمل من أجل بيان حقيقة الإسلام للمجتمعات الأوروبية، وشرح مبادئه وتعاليمه، وتوضيح أن هذا الدين رسالة محبة وتسامح وسلام للبشرية جمعاء، لا كما يدعي المتطرفون في الغرب. بل إنني أدعو بهذه المناسبة، الأممالمتحدة، إذا ما تم اعتماد حظر بناء المآذن في الدستور السويسري، لنقل مقر الأممالمتحدة ومقرات المنظمات الدولية المتخصصة التابعة لها، من جنيف إلى فيينا"لأن هذا القرار يعد مخالفة صريحة للقانون الدولي وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والأممالمتحدة هي المسؤولة عن ضمان احترام مواثيقها وإعلاناتها، إذ لا يصح بأي حال، أن تبقى تلك المقرات الدولية في بلد يعتمد دستوره التفرقة الدينية والثقافية وعدم احترام حقوق الإنسان. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو