كنت أقرأ للمرة الثانية تقريراً صدر العام الماضي عن مجلس الاستخبارات القومي الأميركي بعنوان"اتجاهات عالمية: 2025"Global Trends 2025 عندما استوقفتني ملاحظة أبداها واضعو التقرير، جاء فيها أن النظام الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية لم يتبق من معالمه الأصلية معلم واحد يمكن أن يذكرنا أو يذكر الأجيال القادمة بهذا النظام. تأملت في الملاحظة، وأنا متيقن من صحتها، ووجدت ذهني يتجه إلى نظام آخر نشأ أيضاً، مثل النظام الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية، وكان بدوره ثمرة من ثمارها ونتيجة لانحسار نفوذ الدول الاستعمارية الأوروبية. ترددت في تبني الملاحظة نفسها، على رغم انطباقها على حال النظام الإقليمي العربي. وأظن أنه كانت تكمن وراء التردد علاقة شخصية ربطتني ذات يوم بنشأة المفهوم ومحاولات تبرير صلاحيته لشرح التفاعلات القائمة وقتذاك بين الدول العربية بعضها بالبعض الآخر، وكذلك بينها وبين دول الجوار الإقليمي وبينها وبين العالم الخارجي ولبحث إمكانية استشراف مستقبل الأمة العربية. أفهم الآن دوافع بعض المحللين الأكاديميين والسياسيين في الولاياتالمتحدة الذين ما زالوا يحنون الى أيام القطبية الثنائية حين كانت أميركا تقتسم مع الاتحاد السوفياتي النفوذ والهيمنة، وأفهم دوافع بعض آخر لم يعترف للاتحاد السوفياتي بحقه في الشراكة على القمة. واستمر هذا البعض، مع عدد لا بأس به من المفكرين في أوروبا وخارجها، يصر على أن القرن العشرين، من أوله إلى آخره، كان قرناً أميركياً، وما مرحلة القطبية الثنائية إلا انحراف بسيط في خط مستقيم بدايته عند نهاية الحرب العالمية الأولى ونهايته، حسب أحسن الأماني، مفتوحة. نعرف الآن، وربما بما لا يدع مجالاً للشك، أن النظام الدولي، كما عرفناه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، انتهى وتجري محاولات وتبذل جهود لصنع نظام آخر يحل محله، ونعرف أن عوامل معينة طرأت وتفاعلت في ما بينها لتعجل بهذه النهاية، بعضها حدث عن عمد وسبق إصرار وبعضها أثمرته تطورات وتغييرات تلقائية. كان هدف صانعي السياسة في واشنطن في الثمانينات التوصل إلى نظام دولي يختفي منه القطب الآخر، ولذلك شنوا، بمساعدة دول حليفة، حرباً إرهابية شرسة ضد القوات السوفياتية في أفغانستان، وفي الوقت نفسه أعلنوا عن نيتهم تنفيذ خطة لوضع برنامج لحرب النجوم، وكانت الخطة تهدف، من دون مواربة أو تعميم، إلى إنهاك اقتصاد الاتحاد السوفياتي من طريق دفعه الى الدخول في سباق تسلح فضائي ليحتفظ بمكانته قطباً دولياً مشاركاً. نقول الآن، إن حرباً دينية ضد السوفيات في أفغانستان وسباق تسلح في برنامج حرب النجوم كانا كافيين ليحققا لأميركا ما سعت إليه على امتداد قرن كامل، وهو إقامة نظام دولي يقوم على قطبية أحادية. ولكن للتاريخ حسابات أخرى. إذ إن أميركا حين استهدفت إضعاف الاتحاد السوفياتي عمدت إلى دعم اقتصادات أوروبا الغربية والتزمت حماية أمنها، فوفرت على دولها موازنات طائلة وجهتها هذه الدول الى التنمية في التقدم والتكنولوجيا ورفع مستوى الكفاءة البشرية والاقتصادية. وحين جاءت لحظة إعلان النظام الأحادي القطبية على لسان الرئيس بوش الأب، كانت أوروبا الغربية قد صارت قوة اقتصادية عملاقة وعائقاً معنوياً ومادياً أمام قيام نظام أحادي القطبية. كان من بين أهداف الحرب ضد الإرهاب، التي شنها بوش الابن، الحيلولة دون ممارسة أوروبا حقها الطبيعي في المشاركة في القيادة الدولية معتمدة على انطلاقتها الاقتصادية ودرجة اندماجها الاجتماعي والسياسي. وقد تابعنا جهود إدارة بوش، لاستعادة سيطرة أميركا وهيمنتها على أوروبا وتصاعد الخلافات بين الحلفاء بسبب ذلك. الواضح الآن أنه كان يمكن أن تفلح أميركا في الاستفادة لمدة أطول من"اللحظة الأحادية"التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي، لو لم تكن الصين قد خرجت بإمكانات مهمة إلى الساحة الدولية. فبخروج الصين على النحو الذي خرجت به استعادت أوروبا بعض الزخم لاستئناف دور أو جانب أساسي من الدور الذي كانت تلعبه على الساحة الدولية قبل أن يتألق النجم الأميركي. نستطيع أن نقرر أن النظام الإقليمي العربي، مثله مثل النظام الدولي، تغير تغيراً جوهرياً، وإن كنا لا نستطيع أن نقرر في هذه المرحلة من مراحل تطوره أنه لم يتبق معلم من معالمه قائماً. إذ إن بعض معالمه ما زال قائماً لأسباب معروفة أغلبها يتعلق بخصوصية هذا الإقليم. من هذه الأسباب أو في مقدمها العامل الثقافي وعامل اللغة. تغير النظام، ولعله بدأ بالفعل يخطو خطوات جادة نحو الانصهار في نظام آخر. يجري هذا الانصهار بقرارات فردية من الدول العربية، التي اختارت أولاً الانفكاك عنه والدخول في علاقات ثنائية مع تكتلات دولية وإقليمية أخرى، ثم هي تختار الآن المشاركة فعلياً في بناء نظام إقليمي غير عربي. ترددت أنظمة عربية في الاندماج في نظام إقليمي شرق أوسطي، لأن الذين طرحوه على بساط البحث لم يكونوا بالذكاء الكافي. كان غرضهم"سحق"مضمون متراكم في الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة يرفض، بين ما يرفض، الاشتراك مع إسرائيل في منظومة إقليمية واحدة. جاء الغرب ملوحاً ثم مهدداً ورفضت غالبية الدول العربية المشروع الشرق أوسطي. في ذلك الحين لم يكن الغرب قد قام بواجب تقديم تركيا في صورة أحسن، ولم يكن مستعداً لقبول إيران كما هي وبشروطها عضواً في هذه المنظومة. خلال هذه الفترة، فترة الضغط لتمرير عدد من مشاريع إقليمية شرق أوسطية، كانت تتغير وبسرعة مذهلة مواقع القوة والنفوذ داخل النظام العربي، وتغيرت وفي شكل جذري قواعد القيادة والتوجيه في النظام، وأقول اختلت أولاً قبل أن تتغير وتفقد القيادة استقرارها النسبي وتستعصي على إقامة"حلف أو محور قيادة"كالعهد بها في مراحل متعددة. من ناحية ثالثة، كانت العناصر"فوق القومية"و"فوق الدولة"و"فوق الإقليم"تزداد قوة ونفوذاً في توجيه سياسات دول المنطقة، وفي الوقت نفسه كانت تزداد نفوذاً وقوة العناصر التي هي تحت الدولة كالقبلية والطائفية والعائلات الممتدة. هذه العناصر مجتمعة دعمت عملية انفكاك الدولة عن نظامها الإقليمي العربي، وفتحت الباب واسعاً لرياح عاصفة هبت من جميع الاتجاهات وأطاحت بكثير مما بدا في حينه مستقراً وأثارت هياج الأقليات والمتضررين من انحسار القيم، قومية كانت أم تنويرية أم نهضوية أم ثقافية. في ظل هذا الانفراط أو بسببه لم يكن هناك بد من أن يبحث"القرار"عن موقع جديد يتكيف معه ويصدر منه، ومع كل عمل إرهابي أو استيطاني أو قهري تمارسه إسرائيل، كانت خطى القرار تتسارع بعيداً عن قلب النظام العربي بحثاً عن مقر جديد خارج الإقليم ولكن ليس بعيداً عنه، ليس في الغرب وليس في أقصى الشرق، مقر لا يشترط أن تكون إسرائيل بعنصريتها المتوحشة شريكة في صنع القرار. ولم تمض مدة طويلة إلا وكانت تركيا تستعد لممارسة خصومات طارئة مع إسرائيل وكانت إيران تتطاول وتتجاسر على أمن إسرائيل وحقها في الوجود، وكانت الدولتان تجتمعان في طهران، ليعلن منها أردوغان أن تركياوإيران معاً تمثلان"محور الاستقرار الإقليمي في المنطقة"بعد أن تأكد لهما"فشل اللاعبين الدوليين في تحقيق السلام العالمي"، ومن ناحية أخرى قال علي لاريجاني إنه" لا يمكن إملاء الحلول لمشاكل المنطقة من خارجها". أعتقد أن تبادل هذا النوع من التصريحات في ظل السياق الراهن في المنطقة يحمل في طياته شبهة الإعلان عن يأس الطرفين التركي والإيراني من عدم قدرة الدول الفاعلة في النظام العربي على حماية الاستقرار الإقليمي وعن حاجة شعوب الإقليم من العرب وغير العرب إلى قيادة جديدة وأن تكون غير عربية. بمعنى آخر، لو صح هذا التحليل، يكون قد تأكد أن تغيراً جذرياً حدث في النظام الإقليمي العربي أشبه ما يكون بالتغير الجذري الذي حدث للنظام الدولي. لم يتبق لهم في الغرب إلا انكشاف شكل النظام الدولي الجديد، وهل سيكون كما تنبأ تقرير المجلس القومي للاستخبارات الأميركية، نظاماً يتطور حتى عام 2025 في اتجاه تولي الشرق القيادة على حساب الغرب. وفي منطقتنا لا يتبقى لنا إلا انكشاف شكل النظام الإقليمي الجديد وهل سيكون كما يرشح من تصريحات القادة الأتراك والإيرانيين ومن ممارساتهم السياسية والاستراتيجية نظاماً يتطور في اتجاه نظام إقليمي متعدد القوميات تقوده أنظمة قومية بشعارات إسلامية من مواقع بعيدة عن منطقة القلب العربي؟ أتصور أن حكومات عربية متعددة منشغلة هذه الأيام بإعادة تقويم سياساتها الخارجية على ضوء التفاهمات التركية ? الإيرانية الجديدة والتزام قيادتي الدولتين المحافظة على الاستقرار الإقليمي. ليس خافياً أن هذا الالتزام يعني في حقيقته قيداً على حرية إرادة الدول العربية في عقد التحالفات في ما بينها وبين دول من خارج الإقليم. يعني أيضاً أن الغرب سيجد نفسه مجبراً على التعامل مع وضع في الشرق الأوسط يؤثر في شكل جوهري في مصالحه وأساليب تعامله العتيقة مع أنظمة الحكم العربية. * كاتب مصري نشر في العدد: 17013 ت.م: 2009-11-02 ص: 11 ط: الرياض