تستدعي رواية التقدم العربية، التي ظهرت في مطلع القرن العشرين واستمرت عقوداً لاحقة، صفة:"رواية الأفكار المتفائلة"، أو"الرواية الإيديولوجية"، التي تستبدل باللامتوقع، الذي يحايث الكتابة الروائية، متوقعاً سعيداً. يعد هذا الاستبدال القارئ، منذ البداية، بنصر وشيك، ويفي بوعده في الصفحة الأخيرة. يفرض هذا التصور، الذي يعترف بالواقع ويخترعه معاً، ثلاثة أسئلة : ما هي دلالة الكتابة الروائية بالمعني النظري ؟ ما العلاقة بين الوعي الروائي الذي أنتجته الحداثة الأوروبية في عناصرها المختلفة، والواقع العربي الذي جاء بالكتابة الروائية إليه مثقفون درسوا في أوروبا أو تعرفوا على ثقافتها؟ وما هو السياق التاريخي الذي أقصى"اللامتوقع الروائي"واحتفى، طليقاً، بمتوقع مرغوب؟ قامت الرواية الأوروبية، التي لا تنفصل عن القيم التنويرية، على مفهوم : الإنسان، الذي فرض على الفرد الخروج من"الأقلية"التي ينتمي إليها، في أحكامها الضيقة، والانفتاح على جمهور عام يقبل بتساوي البشر. ارتبطت الرواية منذ البداية، بالحيّز العام، الذي يتبادل البشر فيه الأفكار والاعتراف، ويمارسون حقوقاً متساوية. ترجم الاعتراف المتبادل، فضاء اجتماعياً ديموقراطياً، مبرهناً أن الديمقراطية هي المقدمة الأولى للحداثة الاجتماعية، وأن الاعتراف المتبادل بين الفرديات المختلفة فعل سياسي حديث. جعلت هذه العناصر من الرواية اختباراً متخيّلاً لأحوال الحيّز العام وقضاياه، حيث الشخصيات الروائية تتبادل الأفكار، وتكشف عن دينامية التصورات والعقائد الاجتماعية، التي هي صورة عن استعمال العقل في شكله العام. نقلت الرواية في شخصياتها المختلفة، الحوار الاجتماعي من حيّز الواقع إلى حيّز المتخيل، معبّرة عن عقد مزدوج: عقد اجتماعي يلتزم به أفراد لهم حقوق متساوية، وعقد متخيّل ينظم العلاقة بين الروائي والقارئ. ولعل المضمون الديموقراطي للكتابة الروائية هو الذي حمل باختين على الحديث عن تعددية الأصوات التي تتحاور مستقلة، وتختلف وتتصارع محتفظة باستقلالها، كما لو كانت صورة أخرى عن حيّز الأفكار العام، الذي جاءت به الديموقراطية. فكل كلام روائي يستضيف كلاماً آخر، ويقيم معه سجالاً ينفتح على سجال لاحق. بل أن صراع الشخصيات، في الفضاء الروائي، تمثيل لاختلاف الأفكار وتباينها في الحياة العامة. تعيد الرواية بشكل متخيّل إنتاج الحوار الديموقراطي في مجتمع قائم على المساواة، دون أن تقاسمه شفافية مفترضة، لا بسبب اغتراب الشخصية الروائية عن الواقع الذي تعيشه فحسب، وإنما بسب جملة العناصر التي يدرجها الروائي في عمله: الأسلوب اللغوي، وجهة النظر، المجاز والعناصر الجمالية، وتقنية القول التي تميّز الجنس الروائي من غيره. وسواء شاء الروائي الوضوح أو الالتباس، فإن تعددية العناصر التي تصوغ عمله، تمنع عنه توليد معنى وحيد، ذلك أن التعدد في ذاته ينطوي على اللايقين أو يفضي إليه. لا تأتي ديموقراطية العمل الروائي، بهذا المعنى، عن وجهة نظر كاتبه، وعما شاء أن يقوله، بل عن تعددية العناصر التي صاغه بها، التي تنقض"الأقلية"، التي غادرها الإنسان حين أصبح"مواطناً"، يعترف بحقوق غيره ويعترف غيره بحقوقه. لا بسبب ذلك تقترن الرواية ببنية كتابية مفتوحة، وتحيل على عالم موضوعي لا يقبل بالانغلاق. صدرت مفارقة الرواية الواقعية، كما رواية التقدم بعامة، عن الاعتراف بموضوعية الواقع، الذي يرفض الانغلاق، وربطه ب"غاية"، سيحققها، أو عليه أن يحققها، كما لو كانت ذروة طبيعية له. ومع أن الحديث عن الغاية أو عن"غائية التاريخ"يغوي، هذه الأيام، باستسهال لفظي كبير، فإن موضوعه غير سهل على الإطلاق، فلا وجود لفعل إنساني عاقل من دون غاية، تحققت بنجاح أو تساقطت في منتصف الطريق. ولعل مفهوم الغاية، الذي يشير إلى هدف قريب قابل للتحقق، هو الذي وضع في الكتابة الروائية مفهوم الحقيقة، لأنه لا يمكن التبشير بهدف إلا بمعرفة تضمن الوصول إليه. انطوى القول ب"الديموقراطية الروائية"على تناقض خاص، فهو يعترف بالمتخيل الروائي ويسيطر عليه، وهو يحاور القارئ و"يرشده". فليست رواية روبنسون كروزو، المنفتحة على المغامرة، وعلى المتوقع واللامتوقع، إلا ترجمة لصورة"الإنسان الصانع"، الذي يصنع مدفوعاً بالحاجة، محوّلاً جزيرته إلى ملكية خاصة يجب الدفاع عنها. إنه السيد الإنكليزي الذي على الآخرين أن يحفظوا دروسه وأن يقتفوا آثاره. تتكشّف السيطرة الروائية على الكلام الديموقراطي في تعبير"السارد العليم"، الذي ينطبق على بلزاك بقدر ما ينطبق غيره، مترجماً"إرادة خالقة"، تفرض قوانينها على بشر الفضاء الروائي. اقترن صعود الرواية الأوروبية بمقولات"غير روائية": الحيّز العام، المواطنة، إمكانية المعرفة، التعامل مع الواقع بصيغة المتعدد، الإنسان الصانع،... لم يكن صعود الرواية ممكناً من دون هذه المقولات المتحققة، التي تحيل على جهود فلسفية متعددة، توزّعت على كانت ولوك ومونتيسكيو وروسو...، الذين تحدثوا عن إنسان حر ينجز غاياته بوسائل عقلانية، مطمئناً إلى مجتمع ديمقراطي لا يصادر حقوقه في الكلام. عبّر الألماني يورغن هبرماس عن هذا حين قال :"أن يفكر الإنسان حراً، من وجهة نظر عصر الأنوار، يعني أن يفكر بشكل طليق". تُقرأ بدايات الرواية العربية، مقارنة بالرواية الأوروبية، بإحدى طريقتين : طريقة شكلانية تبحث وراء الرواية العربية عن"حيّز عام"وفكر طليق وإنسان حر في تفكيره، وتنتهي إلى أحكام معوّقة لا تفسر شيئاً كثيراً، وطريقة تاريخية، إن صح القول، تقرأ البدايات في أحوال"المثقفين"الذين جاؤوا بها ونقدوا، بشكل قلق، ثقافة الأقلية"بثقافة مجتمع مستقبلي مرغوب. فقد ذهب المصري النجيب رفاعة الطهطاوي إلى باريس مرشداً دينياً لبعثة دراسية، مزوداً بتصور ديني تقليدي يقول بأولوية الحقيقة الدينية على الوقائع الدنيوية وتراتب البشر وفقاً لعقائدهم الدينية. تعرّف الطهطاوي على"عصر الأنوار الفرنسي"وترجم بعضاً من وجوهه، وعلّمته تجربته الفرنسية : مبدأ المقارنة، فلا يمكن تقويم ثقافة إلاّ على ضوء ثقافة أخرى، وضرورة الانفتاح على الدنيوي، الذي يطرح على"ثقافة الكتب"أسئلة محرجة. كتب الطهطاوي"تخليص الإبريز في تلخيص باريز"قائلاً ب"أنا"تسرد سيرتها، وتسرد بها تجربة غريبة عن أحوال"الجماعة"التي جاء منها. ونعثر على أطياف سيرة ذاتية في"الساق على الساق"لأحمد فارس الشدياق، الذي انتقل بين الشرق والغرب وقارن بينهما، مستولداً"أنا"مزدوجة:"أناه"، التي تعيد التجربة صوغها، و"أنا"زوجته،"الفاروقية"، التي تعلمت ما تعلمه الرجال ومسحت الفرق المفترض بين الرجل والمرأة. تقاسم الطهطاوي والشدياق، وساهم كلاهما في تشكيل بدايات الرواية العربية، ثلاثة عناصر : الرحلة التي تضع المسافر أمام حضارة متفوقة على حضارته، والمقارنة بين الحضارتين، وتسجيل الخبرة المكتسبة في كتاب. ولم يكن ما فعله الريحاني وطه حسين، في كتابي"خالد"و"أديب"مختلفاً كثيراً، فالأول وازن بين فضائل الشرق والغرب واقترح بديلاً يصالح بين الطرفين، مسبغاً على ذاته الكاتبة بعداً رسولياً مضمراً، وواجه الثاني الشيخ الأزهري المغلق وعنّف طالب المعرفة"المتفرنس"، مطالباً باعتدال يستأصل الانغلاق والانفتاح السائب على"الآخر". اكتشف الأول ذاته"الرسولية"، وهو ينتقل بين لبنان وبوسطن والصحراء المصرية، وأعاد الثاني اكتشاف ذاته وهو يقاوم فتنة الحضارة البارسية. شكّل لقاء الشرق بالغرب علاقة داخلية في بدايات الرواية العربية، من دون أن يختزلها، كما هو متوقع، إلى شكل من المحاكاة والتقليد. فقد انطوت هذه البدايات على بعدين : تسجيل سيرة ذاتية، واضحة أو مضمرة، تتمحور حول"أنا"نقدية مفكرة، تختلف عن"الجماعة"التي جاءت منها، وتتمتع بوعي دنيوي يتأمل المُعاش اليومي المشخص، وينأى عن الأحكام المسبقة. وما"الرحلة المفكرة"إلا انتقال من مكان إلى مكان ومن ثقافة إلى أخرى، ومن ذات معطاة إلى ذات منقسمة تحتفظ بما تعلمتّه وتخضعه إلى المساءلة. تكشّف البعد الثاني في المقاومة التي تثيرها التجربة وتسجيلها الكتابي: قاوم الطهطاوي لغة عربية متكلسة وعمل على تطويعها، وقاوم الشدياق لغة قاموسية واشتق منها"لغات متعددة"، وقاوم خليل الخوري الانبهار بالآخر، وتلك المحاكاة الصماء، التي تفضي إلى عبودية طوعيه. تضمنت بدايات الرواية العربية، بهذا المعنى، اكتشافاً مفتوحاً متعدد الوجوه : اكتشاف الأنا والآخر والفرق بينهما، وإعادة اكتشاف اللغة العربية، من حيث هي هوية ثقافية وأداة للكتابة في آن. على خلاف الثقافة التقليدية، التي تعيد إنتاج القديم بلغة راكدة متجانسة، تعاملت : البدايات الروائية"مع مواضيع تستدعي لغة جديدة. وسواء تحقّق ترويض اللغة القديمة أو وقع عليها ترويض مجزوء، فما هو أساسي ارتبط بمفهوم : الحاضر. فبعد أن كان الحاضر، في الثقافة التقليدية المسيطرة، زمناً زائفاً أو مريضاً، عليه أن يرتد إلى الماضي وأن ينصاع إلى إرادته، أصبح هذا الحاضر، مع البدايات الروائية، زمناً مستقلاً بذاته، فهو زمن الرحلة الذي يسمح بالمقارنة، وهو زمن الكتابة، وهو زمن الذات، التي تنتقل من كتابة إلى أخرى، ومن انفصال عن"الجماعة"إلى انفصال آخر. صدرت بدايات الرواية العربية عن مثقفين تعرفوا على الثقافة الغربية بطرق مختلفة، الأمر الذي جعل من ولادة الرواية والمثقف العربي ولادة واحدة. ومهما تكن الأسئلة التي تفرضها هذه الولادة، فالأساسي منها يقول: إذا كانت كل كتابة قراءة بقدر ما أن كل إرسال استقبال، فما هو"القارئ الاجتماعي"الذي التقى به الروائي الوليد؟ تحضر هنا، مباشرة، المقولات التي قامت عليها الرواية الأوروبية، محيلة على مجتمع عربي له تاريخ مغاير، لم يعرف الحداثة والديموقراطية والعقد الاجتماعي وتعددية الأصوات،... فمثلما أن العلم لا يفعل اجتماعياً إلا بتوطينه الاجتماعي، فإن حوارية الفضاء الروائي، كما تحرير المتخيل الإنساني، لا تتحقق إلا في مجتمع يعرف اختلاف الأفكار والاعتراف المتبادل بين الأطراف المتحاورة. وهذا الشرط الحديث، الذي لا يحكمه"حر وحيد"ولا تضبط المطلقات بداياته ونهاياته، أوكل إلى المثقف العربي الوليد وظيفتين: الدعوة إلى أفكار تغيّر وجهة النظر إلى الواقع وتقلق التصورات المسيطرة فيه، والتوجه إلى قارئ محتمل يقبل بالأفكار الجديدة ويدعو إليها. ولعل الوظيفة الثانية هي التي حملت المثقف الروائي على الأخذ بدور المربّي، الذي ناب عن القارئ في"شرح العالم"واقتراح سبل تغييره، ووعده بمستقبل سعيد مضمون الوصول. وضع الوعد التحريضي في"رواية التقدم"بعداً تربوياً، واضحاً حيناً، حال رواية"غابة الحق"لفرنسيس مرّاش، أو مضمراً مملوءاً بالإيحاء، حال كتابات الطهطاوي والشدياق والريحاني وغيرهم.... لازم"التفاؤل التاريخي"أفكار التقدم، عربية كانت أو غير عربية. بيد أن السياق التاريخي الذي لازم الرواية العربية، منذ بداية القرن العشرين إلى مجيء دولة الاستقلال الوطني، ضاعف التفاؤل وأمدّه بأبعاد جديدة، تخيّلت مجتمعاً متحرراً وعروبياً واشتراكياً... اشتقت الكتابة الروائية وظيفتها من السياق، ومن صيغ نظرية جاهزة، ومن تفاؤل مشروع لم تئده بعد سلطات لاحقة اختصرت الاستقلال إلى احتكار السلطة، واختصرت السلطة إلى أجهزتها التأديبية. عبّرت رواية التقدم، في أشكالها المتحوّلة، عن"نهضة العرب"، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، التي هزمتها حرب 1967 وأسباب أخرى، وبقيت مستقرة في هزيمتها حتى اليوم. لا تزال الرواية العربية، في تحوّلاتها المتواترة، ممارسة تنويرية لم تفلح"الأجهزة التأديبية"في مصادرة وجودها. * مقطع من كتاب"رواية التقدم واغتراب المستقبل"، الذي يصدر قريباً عن دار الآداب نشر في العدد: 17028 ت.م: 2009-11-17 ص: 30 ط: الرياض