من الممكن أن تغمض عينيك بإرادتك من دون أن تنام، أو تغيب عن الوعي فقط لأنك لا تريد أن تنظر إلى شيء أمامك، لكنك لا يمكن أن تغمض أذنيك بإرادتك طالما تملك حاسة السمع فإنك ستسمع ما دمت في وعيك حتى لو لم ترد. جرت العادة على استخدام عبارة"حوار الطرشان"للإشارة إلى عدم تلاقي وجهات النظر بين طرفين أو أكثر أو حينما يتحدث أحدهما أو بعضهما بلغة ومنطق وحجج لا يفهمها أو يقبلها أو يقر بها الطرف أو الأطراف الأخرى، فتكون النتيجة أن أحداً لا يستمع إلى أحد ويبدو المشهد وقتها وكأنما الكل يتحدث ولا أحد يستمع، وبالتالي يفهم وتكون النتيجة فشل الحوار. هل تنطبق العبارة على الحوار بين الفصائل الفلسطينية الذي كلما سار إلى الأمام خطوة تراجع في اليوم التالي خطوات إلى الوراء؟ هل يمكن استخدام العبارة عند الإشارة إلى العلاقات بين بعض الدول العربية التي تخرج من صراع لتدخل في آخر رغم جهود المصالحات أو جلسات الحوار التي تكثر فيها الابتسامات أمام المصابيح والعدسات بينما تبقى الأذن في حالة صمم لا تسمع وبالتالي لا يتغير أي مواقف أو سياسة؟ اللافت أن الفصائل الفلسطينية تتمتع بحاسة سمع قوية وتدرك جيداً أن استمرار الخصام والعراك والخناق لا يصب في النهاية إلا في مصلحة إسرائيل ويضر بشدة بالشعب الفلسطيني كله ويسيء إلى القضية الفلسطينية، لكنها مصرة على الا تسمع ف"تغمض أذنيها"بإرادتها. بالأمس ضُرب الحوار الفلسطيني بسبب اعتراض حركة"حماس"على موقف الرئيس محمود عباس أبو مازن من تقرير غولدستون وقبلها ضرب أيضاً بسبب اعتقال الحركة لأقطاب من"فتح"في قطاع غزة وغداً سيضرب لأسباب أو حماقات أخرى سيرتكبها هذا الطرف أو ذاك، فلا أحد يريد أن يسمع أو يفهم ولدى كل طرف قدرات خارقة على أن يغمض اذنيه عندما يريد. الحال نفسها بالنسبة الى الدول العربية المتناحرة المتخاصمة المتحاربة المنقسمة التي يؤيد بعضها"فتح"ويميل بعضها إلى"حماس"أو إيران أو أميركا ويناصر بعضها السلام مع إسرائيل أو يتخذ مواقف ضده. أُغمضت الآذان ولم تعد تسمع إلا ما يتوافق مع موقف هذا البلد أو ذاك رغم أن هذه الحال تضر بمصالح الجميع على المستويين القطري والعربي. طبيعي أن يحدث"حوار الطرشان"بين أي طرف عربي أو كل العرب وبين أي طرف آخر كما الحال بالنسبة الى اسرائيل لاختلاف المصالح والأهواء واللغة أو حتى مع الشرق أو الغرب حيث الحسابات السياسية أو الاقتصادية مؤثرة، إلا أن اللافت أن تناغماً مدهشاً وآذاناً مفتوحة على طول الخط تكون بين بعض الأطراف العربية ودول أجنبية حيث تستمر الحوارات ولا تتوقف وتصل إلى نتائج ولا يتم ضربها. "حوار الطرشان"موجود وبكثافة أيضاً داخل المجتمعات العربية بين النخب الحاكمة والمعارضة أو بين قوى المعارضة التي يفترض أن تستمع لبعضها وتتحاور كي تصل إلى مواقف مشتركة في مواجهة القوى الحاكمة. فالمشاكل والخلافات بين بعض أحزاب المعارضة والقوى السياسية في مصر مثلاً تفوق تلك التي بينها وبين الحزب الوطني الحاكم وحكومته، والكل أغلق آذانه وثبت عند مواقفه. وحين جرى حوار قبل سنوات بين الحزب الحاكم والأحزاب التي تتمتع بالشرعية ظهرت كالعادة الابتسامات أمام الكاميرات أما في الجلسات المغلقة فإن كل الأطراف تكلمت من دون أن تسمع ما تقوله الأطراف الأخرى فُضرب الحوار ولم يصل إلى نتيجة. قد يقترح البعض أن يحاور العرب بعضهم البعض بلغة الإشارة طالما ان إغلاقهم لآذانهم يجري من دون أن تكون لهم سيطرة على السمع. لكن ما داموا لا يريدون أصلاً أن يفهموا بعضهم، فالمؤكد أنهم إذا استخدموا لغة الإشارة لن يروا بعضهم أيضاً حتى لو كانوا مبصرين. نشر في العدد: 16999 ت.م: 2009-10-18 ص: 15 ط: الرياض