حوار المثقفين العرب عبر الصحف والفضائيات يبدو في أكثر الأحيان، حوار طرشان، إذ ان سمته الأساس تمترس كل طرف خلف مقولاته الجاهزة وغير القابلة للتغيير، وإذا شئنا تحديد ما نقول، يمكن الاشارة الى ظاهرة انقسام لعلها الأبرز بين المتحاورين، فالذين "تحالفوا" مع الولاياتالمتحدة الاميركية لإسقاط النظام العراقي السابق لا يرغبون إطلاقاً في رؤية أي تفصيلات تتجاوز ديكتاتورية النظام ومذابحه ومظالمه عموماً، ويصدقون - أو هم يرغبون في الظهور بمظهر المصدق - ان الولاياتالمتحدة حشدت كل هذه الجيوش من أجل اسقاط النظام الديكتاتوري وإقامة نظام ديموقراطي يحترم التعددية. وفي مقابل هؤلاء ثمة من يغمضون أعينهم كلية عن أية مظالم لنظام صدام حسين لمواجهة الغزو الأميركي للعراق، وكأن الاقرار بطغيان النظام وديكتاتوريته يتناقض مع الإقرار بأن الحرب لم تكن سوى حرب غزو انتهت باحتلال العراق، وبمقاومة عراقية مشروعة لطرد الاحتلال. والأشد خطورة هنا، أن بعض من يرفضون الغزو الأميركي للعراق يذهبون في سياق منطق المناكفة الى حدود تبرير جرائم صدام حسين، سواء ضد الشعب الكردي في شمال العراق أو ضد أبناء الجنوب العراقي الذين ثاروا ضد النظام في أعقاب هزيمة 1991 فواجهتهم آلة قمع صدام حسين بمذابح لا يمكن تبريرها. والادهى أن تتحمس أطراف لرئيس النظام السابق الى حد اتهام معارضيه كلهم بالخيانة لتبرير قمعهم، حتى بتنا أمام معادلة غريبة تتحدث عن خيانة الشعب لرئيسه بدلاً من المعادلة البسيطة والمفهومة عن خيانة الرئيس لشعبه. وفي سياق وعي مشوه يدور النقاش: الذين يؤيدون مبدأ الاستعانة بالأجنبي، يذهبون الى أبعد مدى في الشوط، فيخلطون بين فرحة الجماهير العراقية بسقوط نظام صدام حسين وبين ترحيب مزعوم بالاحتلال، وهو خلط يبلغ أمداء مخجلة حين يتصدى كتاب ومثقفون بارزون للحديث عن أية مقاومة عراقية للقوات الأميركية باعتبارها أعمالاً ارهابية يقوم بها انصار النظام السابق، بل يذهب بعضهم أبعد من ذلك حين يكتب ان هؤلاء المقاومين ليسوا إلا لصوصاً ونهابين. أما أنصار المقاومة - وخصوصاً من العرب غير العراقيين - فهم بدورهم لا يرون مقاومة للاحتلال إلا من خلال المقاومة المسلحة، وهم يندفعون انطلاقاً من هذا الفهم الى اعتبار كل الذين لم يحملوا السلاح ضد الاحتلال، موافقين على الاحتلال، وهي معادلة بائسة تدحضها كل القوى السياسية العراقية يومياً، إذ يؤكد الجميع - وعلى اختلاف انتماءاتهم - رفض الاحتلال وسعيهم للتخلص منه والعودة بالعراق من جديد الى وضعه الطبيعي دولة حرة ومستقلة. ان معظم ما نستمع اليه من نقاشات يبدو خارج العقلانية، سمته الأبرز التعصب وغياب القبول بالرأي الآخر، وإلا كيف يمكن أن يتحدث البعض علناً، ومن شاشات التلفزيون عن تشكيل لجنة مهمتها "استئصال" حزب البعث، باعتباره على حد زعمهم مارس الذبح، مع أن الجميع يعرفون والمنطق يؤكد أن من حكموا العراق خلال العقود الفائتة لم يكونوا سوى عصابة صادرت البلد بأكمله، بل هي بدأت أساساً بمصادرة حزب البعث ذاته. نقول ذلك ونحن نتذكر ان المذبحة المصورة الوحيدة كانت مذبحة صدام حسين لقيادات الصف الأول في حزب البعث لا لشيء سوى الرغبة في إحكام القبضة على الحزب والدولة والمجتمع وضمان إزالة أية أشكال من المعارضة السياسية. ذهب نظام صدام حسين، واعتقد ان النقاش الأهم هو الذي ينبغي أن يتناول العراق ومستقبله كوطن وشعب. انها مهمة كبرى تفترض قيام مصالحة وطنية شاملة، فمن الواضح لكل ذي بصر وبصيرة انه لا يمكن قوة سياسية من لون واحد أن تقود العراق الى شاطئ الأمان، ومن دون هذه المصالحة الشاملة سيجد العراق نفسه من جديد في دوامة العنف الدموي التي بدأت ولم تتوقف منذ صبيحة الرابع عشر من تموز يوليو 1958. * شاعر فلسطيني.