في بعض الأحيان، لا يكون المحافظون الرجعيون هم من يتصدى للحداثة، لا سيما في الآداب والفنون. وكذلك في الحياة الاجتماعية وعاداتها. فللحكام أيضاً نزواتهم في هذا الأمر. ونحن نذكر جيداً كيف أن ديكتاتور العراق السابق صدام حسين، أخذته ذات يوم الإنفة العربية فقرر أن يتوقف شعراء العراق، وغيرهم من شعراء عرب اشتراهم بأموال الشعب العراقي، عن كتابة الشعر الحديث، للعودة الى الشعر العمودي، بصفته"التراث الحقيقي للأمة الخالدة". ونعرف أن الشعراء فعلوا ذلك لتوهم، بل كرسوا أولى قصائدهم لمدح"بطل الأمة"ذاك، منكرين كل ما كانوا كتبوه من شعر"تفعيلي"أو"نثري"أو"مدوّر"، أو حتى شعر بياض قبل ذلك. بل إن بعضهم بالغ في اتباع"نصائح"صدام حسين، الى درجة انه راح يهاجم بدر شاكر السياب، الذي كان رحل منذ زمن بعيد، آخذاً عليه حداثته التي"أبعدته عن قضايا الأمة"! ولعل في إمكاننا أن نجد سوابق في القرن العشرين، على مهاجمة الحداثة - الشعرية وغير الشعرية في ممارسات ستالينية كما في ممارسات نازية في عهد"سلف كبير"لصدام هو أدولف هتلر. غير أن هذا كله يبقى منطقياً، طالما أن شعبوية ما، كانت ضرورية لتلك الأنظمة، واستجراراً للماضي وتقاليده، كانت تحكم كل ذلك. ولعل في إمكاننا أن نلاحظ، أن مثل هذا كان يحدث في كل مرة يجد فيها الديكتاتور سواء كان اسمه ستالين أو صدام أو هتلر... أو أي اسم آخر، نفسه في مرحلة انتقال من حكم الحزب الواحد الى حكم الفرد الواحد. لكن، ما لا يمكن أن يبدو لنا منطقياً، موقف عبر عنه الشاعر الفرنسي الكبير لوي آراغون أواسط سنوات الخمسين من القرن العشرين، في كتاب أصدره في ذلك الحين وعنوانه"يوميات شعر قومي". الحقيقة إن هذا الكتاب لو لم يكن حاملاً اسم آراغون كمؤلف له، لما كان أثار انتباه أحد، ولما كنا اهتممنا به هنا على الإطلاق. فهو من أول صفحة الى آخر صفحة فيه كتاب ساذج ديماغوجي يقف خارج التاريخ والزمن، ليعبر - في أحسن أحواله - عن موقف حزبي، من النوع الذي كان آراغون يتخذه بين الحين والآخر، اما لإرضاء الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي لم يكن منتمياً إليه فقط، بل كان من أبرز عقائدييه في مجال النظر الى الفنون والآداب، وإما نكاية بآخرين كان يود إغاظتهم لا أكثر. ولعلنا، للعثور على السبب الذي حدا بآراغون الى تأليف هذا الكتاب، في حاجة الى مراجعة تاريخه الشخصي وتاريخ حزبه وصراعاته، بل ربما تاريخ فرنسا في ذلك الحين. غير أن هذا ليس همنا هنا. هنا نكتفي بأن نعرف بعض ما في هذا الكتاب، لعل القارئ يجد فيه ما يشبه نصوصاً كثيرة كتبت لاحقاً بالعربية، لتدعو الى ما راح آراغون نفسه يدعو إليه، علماً أن المسألة الأساس هنا هي أن الناس ليسوا جميعاً آراغون، وأن عشرات الكتب من هذا النوع يمكن أن نمر عليها مرور الكرام مثلما يليق بنا أن نفعل تجاه كل ما كتب هجوماً على السياب، ولكن أيضاً على كتاب للسياب لا يقل تهافتاً عن نصوص مهاجميه، هو المعنون"كنت شيوعياً"... لكن هذا موضوع آخر -. أما حين يكون الكاتب صاحب"مجنون إلسا"وپ"الأحياء الجميلة"وپ"عينا إلسا"وغيرها، فإن الأمر يستحق وقفة. نشر لوي آراغون"يوميات شعر قومي"عام 1954، أي في وقت كان الحزب الشيوعي الفرنسي يعيش قمة مجده الانتخابي، وبدأت أصوات كثيرة في داخله حتى، تطالب بنزع الطابع الستاليني عنه. فستالين كان مات قبل ذلك بعام، وخيّل لكثر من الشيوعيين أن في الإمكان إلصاق كل مثالب الشيوعية الحاكمة أو التي تتهيأ لتحكم، به. ومن هنا راحت تعصف داخل تلك الأحزاب رياح تحرر وتغيير. بيد أن المحافظين القيمين على أمر الأحزاب كانوا في المرصاد. والمدهش هنا هو أن آراغون، الذي يمكن بكل بساطة القول إنه كان يعتبر في ذلك الحين واحداً من كبار شعراء العالم، بدلاً من أن يقف الى جانب الحركة التحررية، هو الذي كان قبلاً من مؤسسي التيار السوريالي، ومن المنادين بتحرر الأدب والفن من الربقة الحزبية، آراغون هذا ارتد تماماً، ليعبر عن مواقف جدانوفية - ستالينية، أثارت الكثير من اللغط، في ذلك الحين. ولقد أتى كتابه هذا ذروة في تعلقه بذلك الموقف. فما الذي يقوله آراغون في الكتاب؟ في هذا الكتاب، الذي يتألف أصلاً من فصول كان آراغون نشرها أسبوعية بين أواخر عام 1953 وبدايات عام 1954، يضع الشاعر قواعد للشعر، يعبر عنها كعادته على أية حال بأسلوبه البسيط الساعي الى الإقناع، والمملوء بالود تجاه قرائه وتجاه الشعراء في شكل عام. انه يتحدث هنا كأخ يتحدث الى أخوته، لكنه يتحدث أيضاً مثل رب بيت طيب وصارم، يبدو كلامه في ظاهره أليفاً حوارياً، لكنه في باطنه حاسم حاد، لا يترك مجالاً للسجال. ومنذ السطور الأولى في النص يبدو واضحاً أن آراغون إنما يكتب نصاً ظرفياً، أي ابن ساعته، أي نصاً يمكن ويجب توظيفه، يتحلق من حول ضرورة العودة الى"الشعر القومي"وپ"الشعر المقفى"بل العمودي حتى. لكن هذا كله صاغه آراغون، والحق يقال، بلغة طيبة قوية و... حديثة، موروثة من ماضيه القريب. ولكن لماذا يتوجب على الشعراء أن يعودوا الى الشعر التقليدي، بل القومي؟ بكل بساطة لأن هذا الشعر هو معطى أساسي، من معطيات التراث الفرنسي، أو في شكل أكثر تحديداً، وبحسب كلمات آراغون نفسه"لأن هذا الشعر هو وحده الذي يعبر عن الطابع القومي لشعرنا. بل لأنه، في واجهة الشعر الحديث المسطح، هو الوحيد الذي يبدو قادراً على التقاط النسغ الروحي للأمة الفرنسية... ذلك النسغ الذي لا يمكن ترجمته". أجل بمثل هذه التعابير، التي تبدو في نهاية الأمر مقتبسة من أدبيات النازية وشتى أنواع النزعات القومية المنغلقة على نفسها، أراد آراغون أن يخاطب شعراء زمنه وأن يكتسبهم الى جانب قضيته. وهو كي يمعن في فعل هذا، يعود في حديثه الى الشعر الفرنسي كما تأسست"حداثته"في القرن السادس عشر، من دون أن ينسى التوقف عند مالارميه، ليس كي يقرظ لديه حداثة مؤكدة، بل كي يتحدث عما صاغه هذا الأخير من شعر أملته عليه بعض ظروفه، وبعض الأحوال الاجتماعية التي عبّر عنها في أشعار عاد هو نفسه وفضّل نسيانها لاحقاً. في مثل هذه التأكيدات والصياغات، بدا واضحاً أن الهدف الأول لآراغون"الجديد"، هو آراغون"القديم"نفسه. بدا الشاعر وكأنه يحاكم ماضيه التقدمي لمصلحة نزعة محافظة، من حسن الحظ أن أحداً لم يجاره فيها، ولا حتى أولئك الشعراء الشيوعيون الذين كانوا يبجلونه ويبجلون لغته بما فيها اللغة الرائعة التي استخدمها حتى في صوغ هذا الكتاب، لكنهم في المقابل، آثروا ألا يأخذوا بنصائحه. بل إن بعضهم قال في مجالسه: لقد بتنا الآن نخشى إن نحن وصلنا الى السلطة بزعامة الحزب الواحد، أن نجدنا مرغمين على اتباع خطى آراغون هذا، وقد تحولت نصائحه الى قوانين وقواعد للكتابة والعمل. ولسوف يكون بيكاسو واحداً من الذين وجهوا الى أفكار آراغون هذه أقسى الانتقادات، بالتوازي مع انتقادات أكثر حدة جاءت من ليبرالي غير شيوعي هو أندريه مالرو. حين نشر هذا النص "الجدانوفي، بحسب معظم الذين كتبوا عنه - كان آراغون يقترب من الستين من عمره، وكان قد بات يعتبر صنماً من أصنام الإبداع الشيوعي، وأيضاً واحداً من أكبر شعراء الحب والعاطفة في اللغة الفرنسية، ومن هنا كان التمزق عاماً، حيال ما أتى به في هذا الكتاب، الذي نعرف أنه أبداً بعد ذلك لم يتخل عن أفكاره التي ملأته، وإن كان بعض الذين أرّخوا لحياته وشعره ونثره، ألمحوا بعد موت حبيبته ورفيقته الساتريولية، إنها هي المسؤولة عن مثل تلك المواقف الستالينية التي كثر تعبيره عنها منذ ذلك الحين، بل حتى منذ انقضاء الحرب العالمية الثانية وإحساس الشيوعيين أن وصولهم الى الحكم بات قريباً، ما يجعل نص آراغون هذا، تعبيراً فصيحاً آخر عن الكيفية التي يتحول فيها التفكير الحزبي من الثورة الى الدولة. [email protected]