هناك في سلم القيم الفكرية في القرن العشرين، صفة «شيوعي سابق»، التي تطلق على المئات إن لم يكن على الألوف من المبدعين والمثقفين والمفكرين في شتى البلدان، من الذين حدث لهم، خلال فترة ما من حياتهم ونشاطهم الفكري أو غيره، أن كانوا أعضاء في الأحزاب الشيوعية في بلدانهم. في انتماء هؤلاء الى تلك الأحزاب، كان الدافع دائماً تعلقاً بمثل عليا وأفكار تقدمية بدا لهم أول الأمر ان الشيوعية تمثلها وتدافع عنها، فرأوا ان عليهم ان ينضموا الى ذلك الدفاع، لكنهم في نهاية الأمر، وبعد تجارب ميدانية اكتشفوا بسرعة انها شديدة الإيلام والمرارة، تخلوا عن ذلك الانتماء، ليبقى معظمهم حاملاً مثله العليا وأفكاره التقدمية، ولكن مع كفر بالعمل الحزبي، ولا سيما في بلدان أو مناطق جغرافية وصلت فيها الأحزاب الشيوعية الى الحكم فتبدت بيروقراطية وفاسدة مثل كل الأحزاب السلطوية، متناقضة بخاصة مع المثل والقيم التي كانت - في الأصل - مبرر وجودها. ولا نجد من الضروري هنا ان نورد اسماء لكتاب أو لأحزاب كي ندعم ما نذهب إليه، ذلك ان اللوائح ستطول وتطول وتشمل كلاماً مثل الاتهام بالخيانة والعمالة والانتحار والنفي وما الى ذلك. بحسب راصد تاريخ القرن العشرين ان ينظر إليه ملياً حتى يرى عجباً وزحاماً مدهشاً. في مقابل أولئك الألوف من «التائبين»، ثمة عدد اقل بكثير يضم مبدعين، ظلوا على ولائهم لأحزابهم على رغم كل شيء. ولا نتحدث هنا عن مبدعين فاشلين أو ثانوي الأهمية - فهؤلاء يظلون دائماً أوفياء لأحزابهم لأنها هي، اصلاً من صنعهم - بل نتحدث عن مبدعين كبار. وهنا، في حالتنا هنا، عن واحد من كبار الشعراء في القرن العشرين: الفرنسي لويس آراغون. فهذا، على رغم انه كان يحدث له بين الحين والآخر، ان يكتشف حقائق مذهلة حول الممارسات الستالينية، وممارسات حزبه الشيوعي الفرنسي وبيروقراطيته، لم ينتفض معارضاً مشاكساً سوى في مرات قليلة كان بعدها سرعان ما يعود الى الحظيرة. بل سرعان ما ينحي إبداعه جانباً ليكتب نصوصاً تخجل احياناً كتاباً اقل منه شأناً بكثير لو كتبوها، ثم يبرر لقيادات الحزب الشيوعي الفرنسي ما تفعل. ولا يعتذر عن قصائد مدح كان كتبها لستالين نفسه، وما الى ذلك. وما كتاب آراغون «الرجل الشيوعي» سوى دليل على هذا. فالحال ان المرء إن قرأ هذا الكتاب، أو عدداً كثيراً من نصوصه، من دون ان يعرف ان الكاتب هو صاحب «عيون إلسا» أو «مجنون إلسا» أو غيرها من النصوص الرائعة التي ملأت القرن العشرين إبداعاً حقيقياً وزهواً، لكان خيل إليه ان الكاتب صحافي ديماغوجي من الدرجة الدنيا، يحاول في أسلوبه ان يقلد ذلك الشاعر الكبير! لكن المؤسف هو أن آراغون هو فعلاً صاحب الكتاب. هو من كتب نصوصه. وهو من لم يعتذر لاحقاً عن كتابة اي منها بل كان من عادته ان يتحدث عنه بكل فخر. ومع هذا، إن راجع المرء صفحات الكتاب اليوم، سيدهشه ان يكون آراغون تحدث فيه، وبإسهاب ممل، عن اشخاص كانوا مجرد قياديين في الحزب أو في نقابات العمال التابعة له، لا قيمة فكرية لهم، بل ان اياً منهم لا يمكن وصفه، فكرياً، بالمستوى نفسه مع آراغون. اما النصوص نفسها فإن ما يطغى عليها هو تقديم آراغون للشخصيات التي تتناولها، بوصفها شخصيات - قدوة، يتوجب على كل شيوعي شاب ان يتمثل بها كي يخدم الحزب، والوطن، دون نسيان «الطبقة العاملة» التي يرد ذكرها في نصوص الكتاب عشرات المرات، وسط هالة من التأليه والتبجيل المضحكين. الأدهى من هذا ان الكتاب ليس في جزء واحد بل في جزءين، صدر أولهما عام 1946 والثاني عام 1953. وسيقول آراغون دائماً انه لم يتقصد في هذا الكتاب، وعلى رغم عنوانه الموحي، ان يكون دراسة اجتماعية شاملة ومفصلة عن الإنسان الشيوعي، انطلاقاً من النصوص النظرية أو الحزبية، أو كيف ينبغي على هذا الإنسان الشيوعي ان يكون. كل ما في الأمر انها - في الجزء الأول على الأقل - كتابات متفرقة، كان آراغون بدأ ينشرها منذ اواسط ثلاثينات القرن العشرين، رداً على حملة معادية، أو تكريماً لشخصية قيادية، أو سرداً لحياة وأعمال حزبي مرموق مات... في معنى ان تلك الكتابات كلها إنما كانت كتابات مناسبات، لكن ما يجمع بينها، في أسلوب آراغون نفسه، هو كونها تحاول جميعها ان ترسم صورة للشيوعي و «كيف يتكون بالتدريج» امام ناظري شاعرنا الذي جعل من نفسه مرصداً لهذا التكون. وهذا الواقع هو الذي جعل كتّاباً من أنصار آراغون الشيوعيين، يصفون ذلك الجزء احياناً بكونه «مدونات لسيرورة اخلاقية»، بخاصة أن آراغون غالباً ما جعل «الخلق السليم» معياراً لتقييمه للشخصية التي يكتب عنها. ومن هذه الشخصيات، القائد الشيوعي جاك دوكلو، الذي اشتهر خلال الحرب العالمية الثانية كأحد قادة المقاومة، ثم عاد لاحقاً وخاض الانتخابات الرئاسية ضد الجنرال شارل ديغول، ومارسيل كاشان، الذي ظل لفترة طويلة يعتبر مفكراً أساسياً في الحزب الشيوعي، ثم بنوا فرانشون، الذي سرعان ما وقع في مهب النسيان بعد فترة مجد «حزبي» قصيرة. أما الشخصية الأبرز من بين تلك التي قدمها آراغون على صفحات كتابه هذا كقدوة للأجيال المتتالية من الشيوعيين، فهي شخصية موريس توريز، القائد التاريخي للحركة الشيوعية الفرنسية وحزبها الكبير في ذلك الحين. في الحقيقة كان مقال آراغون عن توريز، هو المقال الأهم وذلك بالتحديد لأن توريز نفسه، كان واحداً من اهم القادة الحزبيين الشيوعيين الفرنسيين في القرن العشرين. ولا ريب ان كتابة آراغون عنه ساهمت في ترشيخ شعبيته ومكانته لزمن طويل (أو على الأقل، حتى أصدر بول توريز ابن موريس، بعد موت آراغون بزمن، كتاباً عنونه «الأطفال النموذجيون» صور فيه بشكل مرير وساخر الكيفية التي كان يربى بها ابناء الشيوعيين وقادتهم على الأقل، ما فضح جوانب أساسية من المسار الشيوعي وانتزع من توريز سمات كثيرة كانت التصقت به، ليدفع كثراً من رفاق توريز وتلامذته الى مهاجمة ابن رفيقهم ومعلمهم بقسوة. والحقيقة ان الصورة التي قدمها توريز الابن، تتناقض كثيراً مع الصورة التي رسمها آراغون). في الجزء الثاني من الكتاب والذي كان يمكن لتاريخ صدوره (عام 1953 الذي شهد موت ستالين وبداية الفضائح الستالينية)، وواصل آراغون حديثه نفسه، ولكن هذه المرة عبر رسم بورتريات لأربعة شيوعيين كبار، يختلفون الى حد ما وفي سمات كثيرة عن رفاقهم «الأيديولوجيين» الذين ملأ الكلام عنهم الجزء الأول: هنا دنا آراغون من رفيقه الشاعر بول ايلوار ومن جان - مارك بلوك، ثم مرة أخرى من توريز ودوكلو، إنما من جانب مختلف هذه المرة، يحاول - الى حد ما - ان يخفف من حمأة كلامه الأيديولوجي السابق عنهما، واضعاً إياهما في مصاف أهل الفكر اكثر مما في مصاف أهل الأيديولوجيا. طبعاً لا يمكن القارئ ان يجد مأخذاً على لغة آراغون الرائعة حتى في صوغ هذه النصوص الحزبية، لكن الكتاب في شكل عام، حتى وإن اتسم بمسحة وفاء صادقة تعبر عما كان آراغون يفكر به حقاً في ذلك الحين، يظل أدنى من أن يعتبر من كتب هذا الشاعر الكبير الذي ولد عام 1897 ليرحل عن عالمنا عام 1982 مبجلاً ليس كإنسان شيوعي «قدوة» فقط، بل كواحد من كبار مبدعي الأزمان الحديثة. والطريف ان كل الذين هاجموا آراغون - من بين اعدائه الأيديولوجيين - هاجموه في أماكن لم يكونوا محقين فيها أو في صددها، لكنهم نادراً ما دنوا من هذا الكتاب الذي كان الأحق بالهجوم... بل ربما يصح القول انه كان واحدة من «السقطات» النادرة في تاريخ هذا الشاعر والفنان الكبير. [email protected]