باتت المواجهة بين الجيش الاسرائيلي وحركة"حماس"، بعد بدء الهجوم البري على غزة، شبيهة من وجوه عديدة بتلك المواجهة التي حصلت بين"الاسرائيليين و"حزب الله"في صيف عام 2006. فالطريقة المتسلسلة المعتمدة في تصعيد الهجوم، بدءاً من القصف الجوي المكثف الى الاجتياح البري، والعدد الكبير من الضحايا والحجم الكبير من الدمار الذي تقصد منه اسرائيل بث الرعب في الجهة المقابلة، هو الاسلوب ذاته في الحالين. لكن هناك ايضاً وجوهاً مشتركة اخرى لا يصح تجاهلها: الايديولوجيا المشتركة التي تجمع بين التنظيمين الاسلاميين، ومثلها تلك التي تقود تفكير وممارسات الجيش الاسرائيلي، والتي تقوم على اللجوء الى القوة، والقوة وحدها، لحل المشاكل، بصرف النظر عن الانعكاسات السلبية لاستخدام القوة وارتكاب المجازر بهذه الصورة البشعة، على مستقبل اي عملية سلمية ممكنة لهذا النزاع، وعلى فرص اسرائيل في العيش بسلام مع جيرانها اذا كانت ترغب في ذلك، وهو ما اشار إليه في الاسبوع الأخير عدد من الكتاب الليبراليين في اسرائيل، الذين يدركون معنى استخدام العقل بدلاً من القنابل. الاهداف المعلنة للعملية الاسرائيلية في غزة تشبه كذلك في بعض نواحيها الاهداف التي وضعتها اسرائيل لحربها على لبنان، أي إبعاد مدى القذائف عن الحدود، واعادة المستوطنات الى حال من العيش الطبيعي، بعيداً عن الملاجئ وصفارات الإنذار. واذا كانت اسرائيل قد وضعت هدفاً لحربها على لبنان هو القضاء على"حزب الله"وفشلت في تحقيقه، فإن قادتها يتجنبون اعلان مثل هذا الهدف بالنسبة الى"حماس"خوفاً من مواجهة المصير ذاته، اي الفشل في تحقيق هذا الهدف في غزة ايضاً. نجحت اسرائيل في تحقيق هدف ابعاد الصواريخ عن حدودها مع لبنان. لكن نجاحها في ذلك كان بالغ الكلفة على لبنان، وعليها ايضاً، وهو ما اشار اليه تقرير فينوغراد من سوء الاداء العسكري والتخطيط الفاشل لتلك الحرب. ويرى معلقون اسرائيليون ان الحرب الحالية على غزة هي في جزء منها محاولة من القيادة العسكرية الاسرائيلية للتعويض عن ذلك الفشل واعادة رفع المعنويات الى الجيش بعد عامين على الحرب اللبنانية. لكن رغم ذلك، فقد حقق ابعاد الصواريخ عن المستوطنات الشمالية هدفاً مهماً لاسرائيل وأراحها من همّ هذه الجبهة بنسبة كبيرة. وامكن توفير الغطاء لذلك الهدف على قاعدة الوجود الدولي في جنوبلبنان الذي كان سابقاً لتلك الحرب، ثم توسّع بعد التوصل الى القرار 1701، بحيث بات الجنود الدوليون وعناصر الجيش اللبناني يشكلون السياج الحدودي الذي يحمي الشمال الاسرائيلي والذي يأمل قادة الدولة العبرية في ان يروا مثيلاً له في شمال قطاع غزة، سواء من خلال مراقبين دوليين أو اي ترتيب آخر. من الصعب تصور خاتمة للحرب التي شنتها اسرائيل على غزة مع عودة الوضع الى سابق عهده، اي مع الابقاء على حرية"حماس"والتنظيمات الأخرى الناشطة في القطاع في اطلاق الصواريخ كلما ارادت. وبصرف النظر عن الترتيبات التي سيقتضيها مخرج من هذا الوضع، فإن الأكيد أن حركة"حماس"ستكون طرفاً اساسياً في التوصل إليه، مع ما سيعنيه ذلك من اعتراف دولي بسيطرتها على الوضع في غزة، وهو ما سوف تعتبره"حماس"مكسباً كبيراً لها، وستطالب بثمنه السياسي في المقابل. هذا هو الوضع الذي انتهت إليه حرب لبنان. فمع ان"حزب الله"بات بعيداً بنشاطه الميداني وبحرية حركته عن الحدود الجنوبية، الا ان استثماره للصمود والقدرة على المواجهة لثلاثة وثلاثين ويوماً مكّنه من احتلال موقع بارز على الخريطة السياسية، والحصول على نفوذ لا يستهان به في القرارات الداخلية، حتى باتت الترتيبات الامنية على الحدود الجنوبية منوطة بموافقته عليها وقبوله بشروطها، الأمر الذي يجعل الوضع هناك اشبه برهينة في يده، يستطيع توظيفها بالطريقة التي ترضيه وتتفق مع مصالحه. مثل هذا الوضع لا يصيب قادة"حماس"ضيم اذا استطاعوا تحقيقه في معادلة الصراع القائمة، ليس بينهم وبين اسرائيل فقط، بل كذلك بينهم وبين خصومهم من حركة"فتح"على الساحة الفلسطينية. فاستثمار الصمود والقدرة على المواجهة هو اسلوب اثبت نجاحه شعبياً وسياسياً في لبنان، وتشير الدلائل"الجماهيرية"الى امكان نجاحه في المواجهة الفلسطينية ايضاً. ولعل هذا ما يقصده قادة"حماس"عند حديثهم عن"النصر الاكيد الآتي"، ولو من بين الشهداء من ابناء غزة ومن تحت انقاض أبنيتها. نشر في العدد: 16712 ت.م: 05-01-2009 ص: 15 ط: الرياض