أكثر من 40 في المئة من الأمراض في العالم يمكن اجتنابها بادارة أفضل للبيئة المحيطة. والتدهور البيئي يأتي بشكل أساسي من أفعال الانسان. ففي كل ساعة ينطلق نحو 4 ملايين طن من ثاني أوكسيد الكربون بحرق الوقود، خصوصاً في المصانع والسيارات. وفي كل ساعة يختفي نحو 20 كيلومتراً مربعاً من غابات المطر. ويقدر علماء أن 6 أنواع من النبات والحيوان تنقرض كل ساعة، وهذا أسرع ألف مرة من الوتيرة الطبيعية. راغدة حداد، رئيسة التحرير التنفيذية لمجلة"البيئة والتنمية"، تعرض انعكاسات التدهور البيئي على صحة البشر، التي كانت موضوع المؤتمر الدولي EcoHealth 2008 الذي عقد في ميريدا بالمكسيك. "على الشخص المصاب بالزكام أو الانفلونزا ألا يسلّم باليد، لأنه بذلك يخرج على أصول الوعي والنظافة والصحة العامة. كما لا يجوز أن يقترب من محدّثه، لأن الهواء الخارج من رئتيه موبوء، وهذا خطر حتى على إنسان يبعد عنه مسافة متر"صحيفة إل كولومبيانو. هذا أحد الاعلانات التي ظهرت في الصحف الكولومبية عامي 1918 و1919 عندما تفشّى"وباء الانفلونزا الإسبانية"في مدينة ميديين، بالترافق مع ظاهرتي النينيو والنينيا المناخيتين. وهو مثال مبكر للخوف العارم من أحد"الأمراض المناخية"الأخطر على الصحة العالمية. وقد ساهمت الحملة الاعلانية والتوعوية آنذاك في تعزيز السلوكيات السليمة ورسم الملامح الصحية للحياة، خصوصاً في المدن. وفي جبال الأنديز قرب بحيرة تيتيكاكا في بوليفيا، كانت الأودية الجبلية عصيّة على مرض الكوليرا، لارتفاعها ما بين 2600 و3600 متر فوق سطح البحر، حيث الصقيع والنظام الايكولوجي لا يسمحان بانتشار ناقلات الأمراض. لكن موجة حر أدت الى تفشي الوباء في المنطقة عام 1998، وما زالت ناقلاته معششة هناك منذ ذلك التاريخ مع التغير الحاصل في الظروف الايكولوجية، علماً أن معدل الحرارة هو اليوم أعلى 0,85 درجة مئوية عما كان خلال الفترة 1960 1990. وتعتبر حمى الضنك dengue أخطر الأمراض الفيروسية بحسب منظمة الصحة العالمية، التي تقدر حصول ما بين 50 و100 مليون إصابة سنوياً وتعرض نحو 2,5 بليون نسمة حول العالم لخطر العدوى. وهي تنتقل بواسطة البعوض. وفي حالتها الحادة، أي الحمى النزفية، قد تكون الاصابة قاتلة. ومنذ السبعينات عادت هذه الحمى الى الظهور بأشكال وبائية في مناطق أميركية كانت استؤصلت منها، مسببة مخاوف جدية لعدم وجود لقاح. وقد أثبتت الدراسات دور التغير المناخي في تفشي حمى الضنك. وتجرى حالياً في الولاياتالمتحدة وبلدان أخرى تجارب للتنبؤ باحتمالات تفشّيها والاستعداد لها عن طريق رصد التغيرات المناخية. ناقلات الأمراض، مثل الفيروسات والبكتيريا، تكون عادة مقيدة بالظروف الموسمية والجغرافية وبالعلاقات الايكولوجية في الطبيعة. ويؤدي تغير المناخ والاخلالات بالأنظمة الايكولوجية، مثل تغيير استعمال الأراضي، الى كسر هذه القيود وانتقال الأمراض وانتشارها بين البشر. مثال على ذلك تفشي الكوليرا وحمى الضنك في حوض الأمازون نتيجة تعرية الغابات، التي قضت على 14 في المئة من مساحتها الأصلية خلال العقود الثلاثة الماضية. "بيئات صحية، ناس أصحاء"كان شعار المؤتمر الدولي EcoHealth 2008 حول المقاربات الايكولوجية للصحة البشرية، الذي عقد في مدينة ميريدا في المكسيك في كانون الأول ديسمبر. وعرض خلاله علماء من 82 بلداً نتائج أبحاثهم الميدانية حول تأثيرات التغيرات الاجتماعية والايكولوجية على البيئة العالمية، وبالتالي على صحة البشر. وفي ما يأتي بعض الأبحاث التي تمت مناقشتها. تمكين النساء في لبنان واليمن النساء في بلدة ببنين العكّارية في شمال لبنان أقل حضوراً من الرجال في الحياة العامة، ولكن لهن دور أكبر في إدارة المياه على المستوى المنزلي. وقد شاركن في مشروع بحثي استهدف تحسين وضع الموارد المائية والمرافق الصحية والحد من الأمراض المنقولة بالمياه، خصوصاً الاسهال. يقول الدكتور ايمان نويهض الذي قاد البحث، وهو عميد كلية العلوم الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت:"جنّدنا أكثر من 25 امرأة في ببنين كان لهن الفضل في إطلاعنا على تجاربهن والوضع المائي والصحي في البلدة". وتفتقر ببنين الى المشاريع التنموية وبعض الخدمات الأساسية. وتبين للباحثين أن 21 في المئة من الأطفال الذين شملتهم الدراسة كانوا يصابون بنوبات متكررة من الاسهال. والأكثر معاناة بينهم هم الذين لم يرضعوا حليب أمهاتهم بشكل واف، والذين يمشون حفاة، ولدى أمهاتهم أفكار خاطئة عن الصحة ويعتقدن أن الاسهال أمر لا مفر منه. وعرف الباحثون أن بعض النسوة يفضلن استعمال مياه الآبار غير المعالجة، اما بسبب عدم القدرة على الدفع للحصول على مياه الشرب من الشبكة الجديدة، واما لاعتقادهن بأنها جاءت بمبادرة سياسي ما أو عائلات معينة. فاستنتج الباحثون أن الاعتبارات الاجتماعية قد تزيد خطر التعرض للأمراض. وأظهرت المراقبة الشهرية لنوعية المياه مستويات مرتفعة من التلوث البرازي. فقد بينت تحاليل مياه الشفة في 423 منزلاً في البلدة وجود بكتيريا برازية في 84 في المئة من العينات. وتبعاً لنتائج الدراسة وتوصيات فريق البحث، قامت البلدية بتركيب وحدة لتطهير المياه في أحد الأحياء، وهي بصدد تركيب وحدة أخرى على النبع الأساسي، ووضع استراتيجية لتعزيز الوضع الصحي وترويج السلوكيات الصحية في مجتمع البلدة، خصوصاً لدى النساء، بالمشاركة مع الفريق البحثي الجامعي. وفي المناطق الريفية، تضيع المعارف التقليدية والتنوع البيولوجي الزراعي تدريجياً. وقد أجريت في لبنان واليمن دراستان لاستقصاء ما إذا كان بامكان النباتات الغذائية المحلية المساعدة في تحسين صحة المجتمعات الفقيرة والمهمشة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على سلامة النظم الايكولوجية. أقام باحثون"مطابخ صحية"في أربع قرى لبنانية، لترويج استعمال نباتات برية صالحة للأكل وتدريب النساء على النظافة الصحية وطبخ الوصفات التقليدية. وأثمر أحد هذه المطابخ مشروعاً تجارياً لتأمين الأطعمة في الحفلات والأعياد، تشاركت فيه 25 امرأة انخرطن للمرة الأولى في صنع القرار الاقتصادي لعائلاتهن ومجتمعهن. وفي اليمن، تحدثت النساء الى فريق المشروع ونقلن اليه معرفتهن بأنواع المحاصيل الزراعية وطرق إعداد الأطعمة التقليدية. وفي النهاية، قام الفريق بإعداد الوصفات ونشرها في كتيب وتوزيعها في أنحاء المنطقة، لتوسيع نطاق بدائل الأطعمة والتنوع الغذائي للسكان. مفتاح النجاح في هذه المشاريع كان تمكين النساء. جيران السموم يشهد أحد الأحياء الشعبية المكتظة في مدينة كالي الكولومبية نسبة عالية من الولادات المشوّهة. وقد أجرى فريق علمي دراسة لتحديد ما تتعرض له النساء اللواتي هن في سن الانجاب، خصوصاً بين 15 و34 عاماً، في هذا الحي القريب من مكب نفايات المدينة ونهر كوكا. فتبين أنهن يتعرّضن لمستوى كبير من المبيدات والمذيبات وسموم البطاريات، خصوصاً المعادن الثقيلة، وذلك داخل البيت ومن المكب القريب. كما أفادت النساء أنهن يأكلن كميات كبيرة من السمك الذي يصاد من النهر الملوث. التعرض لأخلاط من المعادن وملوثات أخرى في الهواء زاد الاصابات بسرطان الجهاز التنفسي والوفيات بأمراض القلب والشرايين بين السكان القاطنين في جوار مصهر للنحاس والنيكل في فنلندا. وفي إقليم مولانغو المكسيكي الغني بمناجم المنغنيز، يعاني السكان البالغون اختلالات في القدرة الحركية، كما تظهر نسبة كبيرة من الأولاد صعوبات في النطق والتعلم وضعف ذاكرة. وعزا الباحثون ذلك الى ارتفاع مستوى جزيئات المنغنيز في الهواء. وقد ربطت أبحاث حديثة بين مواد التنظيف ومشاكل صحية كالربو والتهابات الجلد وأعراض التسمم واضطراب الغدد الصمّ ونشوء سلالات منيعة من البكتيريا. ومن الحالات الأكثر شيوعاً تنشق ربات البيوت لغازات سامة ناجمة عن خليط الكلور وحمض الهيدروكلوريك. ممارسات زراعية تنعكس صحياً النظم الزراعية الخاطئة وغير الصحية أحياناً في الريف المصري تضعف إنتاجية الأرض، وتساهم في انتشار الأمراض وسوء التغذية والفقر. ويوفر تدهور الموارد المائية بؤراً مناسبة لتكاثر البعوض الذي يحمل الملاريا. وقد بيَّن مشروع بحثي في الفيوم أن تحسين وضع الموارد المائية خفض احتمالات الاصابة بالملاريا 135 في المئة. ولاحظ الباحثون أن وجود معظم البيوت على مقربة من مجاري المياه، وتسرب المياه السطحية الى البيوت وحولها، يزيدان احتمالات التماسّ بين الناس والبعوض، ما يزيد خطر الاصابة بالملاريا 55 في المئة. كما أن الفقراء يتعرضون للاصابة أكثر من سواهم بنسبة 89 في المئة. أما منطقة كفر الدوار الزراعية والصناعية في شمال دلتا النيل، فهي معرّضة للملوثات التي تصيب غالباً المجمعات المائية. وقد بينت دراسة صحية بيئية هناك ارتفاع نسبة إصابات السرطان في التجمعات السكنية القريبة من مجاري المياه، خصوصاً نتيجة تلوثها بالمبيدات الزراعية. ويتعرض السكان لملوثات المياه من خلال الشرب والملامسة والاستنشاق وأكل الأسماك المحلية. وحدثت ظاهرة مستغربة في بلدة قريبة من مزرعة شمّام بطيخ أصفر في كوستاريكا. فمن أصل 50 حالة حمل خلال الفترة 2003 2005، تم تسجيل 5 ولادات ميتة و4 إسقاطات وولادتين بتشوهات خلقية. واستنتج فريق بحثي أن التعرض للمبيدات هو سبب رئيسي لهذه الحالات. فطوال أربعة أشهر من السنة في موسم الشمام، يتم رش الحقول بالمبيدات كل ليلة تقريباً بواسطة جرارات رشاشة. وهذا لا يلوث الهواء الخارجي فقط، بل الهواء داخل البيوت أيضاً. المياه عماد الزراعة، وهي ليست متوافرة في كل مكان، خصوصاً في المنطقة العربية. لذا يعتبر حصاد الأمطار أمراً حيوياً. وفي جنوب المغرب، استطاع مشروع ناجح للسدود الصغيرة تعزيز صحة السكان والزراعة والنظام الايكولوجي. فبفضل توافر المياه، تحسن وضع النظافة الصحية والمنزلية، وارتاحت النساء من عبء اجتياز مسافات طويلة لاحضار الماء الى المنازل، وازدادت محاصيل الزراعة المروية. ودعم المشروع رؤية المجلس الاقليمي لاحياء فكرة السدود الصغيرة كاستراتيجية فعالة لمواجهة الجفاف في المناطق الجبلية والتكيف مع تغير المناخ وتحسين الصحة العامة، على أن تخطط أي سدود جديدة وتبنى وتدار بمشاركة المجتمع المحلي. داء شاغاس في غواتيمالا ومقالع الحجارة في الهند داء شاغاس هو التهاب خطير ينتقل من الحيوانات الى البشر عن طريق بقّة ماصة للدم. وهو يمثل في أميركا الجنوبية عبئاً مرضياً أكبر من كل الأمراض الاستوائية الأخرى مجتمعة. إنه التهاب مزمن قد يدوم عقوداً، فيوهن المصاب وربما أدى الى موت مبكر. في غواتيمالا، تولى فريق من الباحثين استطلاع أوضاع 600 عائلة فقيرة في منطقة جوتيابا التي ابتلتها غزوات متكررة من البق. بحث الفريق عن عوامل تفسر وجود البق حتى بعد عمليات رش متعددة بالمبيدات الحشرية. فوجد أن المنازل المعرضة لخطر كبير تعاني عادة من سوء النظافة الصحية، ووجود أرضيات ترابية، ودواجن حية في الداخل، واختباء البق في شقوق الجدران المبنية بطوب طيني خشن. وتبين أن كثيراً من السكان لا يعلمون أن داء شاغاس ينتقل عن طريق هذه الحشرات. حدد الباحثون طريقتين للوقاية في المنازل المعرّضة لخطر كبير: إما الاكتفاء برش المبيدات الحشرية كما جرت العادة، وإما اتباع مقاربة إيكولوجية تجمع بين الرش وتنفيذ تحسينات في المنازل وتدابير أخرى تقلل من الخطر. وشارك المجتمع المدني في تحديد الأدوات التي يتوجب استعمالها. وقد خفضت الطريقتان من انتشار البق المصّاص، فأجبر البق على ايجاد مصادر أخرى للغذاء خارج المنازل، حيث يمتص دم الحيوانات على مسافة مأمونة من الناس. وفي ولاية ماديا براديش الهندية، يعمل كثيرون في المقالع والكسارات. لكن هذا العمل يكتنفه الغبار والضجيج والخطر، ويعاني العمال عادة من أمراض تنفسية ومشاكل في السمع وإصابات. كما تتأثر المجتمعات المجاورة بالغبار والضجيج، فوق ما ابتليت به أصلاً من سوء التغذية المزمن والافتقار الى الخدمات الصحية. وقد عمل فريق من باحثي الصحة البيئية مع المعنيين لتقييم الأخطار ووضع حلول. فساعدوا في تعزيز قدرة مقدمي الخدمات الصحية على تشخيص الأمراض التنفسية ومراقبتها، مقدمين التدريب والمعدّات. ووافق أصحاب المقالع والكسارات في المنطقة على استعمال تقنية لتخفيف الغبار طوّرها فريق المشروع. الدراجة تنظف الهواء وتعزز الصحة جميع الناس معرّضون لتنشق أول أوكسيد الكربون، الناجم أساساً عن الاحتراق غير التام للوقود. لكن مزاولي بعض المهن، مثل شرطة السير وسائقي الحافلات وسيارات الأجرة والباعة المتجولين، هم أكثر تعرضاً لهذا الغاز السام، الذي يخلّ بهيموغلوبين الدم ويعيق تدفق الدم والأوكسيجين في عضلة القلب ويسبب أمراضاً في الشرايين التاجية، فضلاً عن حالات اختناق. كما تبين أن التدخين يزيد خطر الاصابة بهذه الأمراض المهنيّة. لقد تبدلت المسببات الرئيسية للمرض والوفاة، خصوصاً في البلدان الصناعية، من أمراض معدية الى أمراض غير معدية. وارتفعت منزلة الأمراض المزمنة في أولويات السلطات، خصوصاً تلك المرتبطة بالبدانة ونوعية الهواء. ويساهم التمدد السكاني في تفاقم هذه الأمراض، خصوصاً بالاتكالية على وسائل النقل، علماً أن 40 في المئة من الرحلات بالسيارة هي لمسافات أقصر من ثلاثة كيلومترات، و25 في المئة هي أقصر من كيلومتر ونصف، يمكن اجتيازها بسهولة مشياً أو على دراجة. وقد أجرى فريق من الباحثين دراسة في مدينة ماديسون بولاية وسكونسن الأميركية. فتبين لهم أن استبدال السيارة بالدراجة في 20 في المئة من هذه الرحلات القصيرة يخفض الانبعاثات بنسبة 20 في المئة، ويقلل النفقات الصحية الناجمة عن التلوث بالجزيئات والأوزون بملايين الدولارات، ويزيد الفوائد الصحية نتيجة انخفاض الوزن بمعدل أربعة كيلوغرامات في سنة. واستنتج الباحثون أن ترويج ركوب الدراجات في المدينة، ضمن نظام نقل متنوع ومستدام، يعود بفوائد متعددة على صحة الناس والبيئة.