مثّل قرار مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء السلطنة ثم الخلافة في العقد الثاني من القرن العشرين، وتحديداً في العام 1922 ثم 1924، حدثاً تاريخياً مفصلياً، أثار ردود أفعال هائلة على امتداد جغرافية العالم الإسلامي، لما حمله من مدلول وضع نهاية لتجربة تاريخية امتدت من إقامة دولة المدينة، وأضفى على أنظمة الحكم في التجربة الإسلامية التاريخية الشرعية الدينية المطلوبة، على تنوع أنماط هذه الأنظمة من الخلافة الراشدة إلى الحكم العضوض، إلى الممالك والطوائف، فالإمبراطوريات، ما دامت تتحرك في إطار الفكرة العامة، على اعتبار أنها دولة الإسلام، وحامية بيضته. ولئن تباينت ردود الأفعال من مسألة إلغاء الخلافة، وعبّرت عن نفسها بأشكال مختلفة، إلا أنها انصبت كلها على محاولة استعادة الإسلام مرجعية لنظام الحكم، وبالتالي إعادة وصل ما انفصل بين الدين والدولة، وبين الشريعة ونظام الحكم، ومن ثمة إعادة تثبيت الإسلام في قلب الحكم، هوية ومرجعية وأساساً للشرعية. ولم تمض على حدث إلغاء الخلافة سنوات قليلة لا تزيد عن أربعة أعوام حتى جرى إطلاق جماعة الإخوان المسلمين في العام 1928، التي تكافح منذ مرحلة التأسيس لإعادة الإسلام مرجعية لنظام الحكم، وهي الهدف والمقولة الأساسية التي يمكن أن نلخص بها سبب انبعاث تلك الجماعة. ولم يكن مستغرباً أن يعتبر الكثير من المهتمين والدارسين للحركات الإسلامية أن واحداً من الأسباب الرئيسة إن لم يكن السبب الوحيد وراء انبعاث الحركة الإسلامية الحديثة هو الانفصال الذي حصل بين نظام الحكم من جهة والشريعة الإسلامية من جهة أخرى عقب الإعلان عن إلغاء الخلافة في العام 1924. بيد أن قرار إلغاء الخلافة عام 1924 لم يكن يعني بالضرورة وضع حد لاعتماد الإسلام مرجعية لجل الدول العربية عقب إعلان استقلالها ووضع حد لحقبات الاستعمار. إذ نصت كل الدول العربية بل وحتى الإسلامية - باستثناء تركيا طبعاً - عقب استقلالها على أن الإسلام دين الدولة وأن الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس أو المصدر الأساس للقوانين. إلى جانب طبعاً تثبيت أن الإسلام دين الدولة أو أن دين الدولة الإسلام في ديباجات كل الدساتير العربية التي وضعت بعيد الاستقلال. ونورد هنا نصاً للقانوني التونسي عياض بن عاشور من كتاب له تحت عنوان"الضمير والتشريع"يقول فيه:"أما على المستوى الديني، فقد نص الدستور على أن الإسلام دين الدولة. وهكذا يبدو من الوهلة الأولى أن الأشياء لم تتغير وأن تونس تهتدي بالمنوال العتيق في تاريخ الإسلام، المنوال الخلافي الذي نظّر له الماوردي والغزالي وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية وغيرهم. وجوهر هذا المنوال هو الآتي: الشريعة الإسلامية السنية وأحكامها التشريعية هي التي تنظم السلوك الاجتماعي، والسياسة سياسة شرعية، والدولة في خدمة الإسلام، فهي حينئذ دولة الإسلام بأتم معنى الكلمة". بيد أن ابن عاشور يستدرك ليوضح، فيقول:"ولكن لست أبالغ إذا قلت ان أكبر ثورة حققتها تونس وعملت من أجلها باستمرار من منتصف القرن التاسع عشر، تتمثل في قلب الوضع الذي ذكرناه سالفاً. فبفضل التوحيد القضائي، والإصلاحات في قانون العائلة، والسياسة التربوية، وتونسة التاريخ وتجديد العلاقة المعنوية بين التراب والأشخاص والدولة، وفوق كل شيء باحتكار المنظومة القانونية، فقد تحوّل التركيب الدستوري من منوال دولة الإسلام إلى منوال إسلام الدولة، وشتان ما بينهما"، ليضيف:"وهذا المنوال في حقيقته: لا دين فوق الدولة، بينما يعني الأول: لا دولة فوق الدين"انتهى. ونود هنا أن نسلط الضوء على التجربة التحديثية للدولة في تونس في علاقتها بالفقه الإسلامي خصوصاً، والإسلام عموماً. هذه العلاقة التي قد غطى على حقيقتها التنازع الأيديولوجي بين العلمانيين والإسلاميين. ويمكن هنا الإشارة إلى محاولات محمد الشرفي الذي درّس القانون في الكثير من الجامعات التونسية، بل وشغل أيضاً منصب وزير التربية، ودأب على التأكيد في مؤلفه المعروف"مدخل لدراسة القانون"أن القوانين التونسية علمانية، وأنها سُنّت في قطيعة مع الشريعة الإسلامية، منوّهاً بهذا التمشي، بل وداعياً الدولة، كأهم عامل للتحديث إلى مزيد من فرض القوانين التي تتماشى مع روح العصر. وقد حاول الشرفي لاحقاً أن يطرح رؤية كاملة في سياق التحديث العلماني والقطع مع الفقه الإسلامي من خلال طرحه كتاباً آخر تحت عنوان"الإسلام والحرية، سوء التفاهم التاريخي"عمل من خلاله على إثبات تاريخية الأحكام الواردة في الفقه الإسلامي بما في ذلك أحكام الحدود، داعياً بجرأة إلى تجاوزها وعدم العمل بها. وقد اعتبر الشرفي أن لا خيار أمام التمدد الأصولي وعدم استجابة المجتمع لنداء التحديث وقيمه، إلا بأن تتحول الدولة كلها محركاً أساسياً في عملية التحديث على كل الصعد، لا سيما عملية إصلاح التعليم وتنقيته من كل ما من شأنه أن يشوش على مسيرة التحديث وبث قيم العقلانية والعلمانية. كما يعتبر أساتذة القانون من أحفاد العلاّمة البارز محمد الطاهر بن عاشور، لا سيما عياض بن عاشور صاحب كتاب"الضمير والتشريع"، وسناء بن عاشور، ورافع بن عاشور، إلى جانب رجالات قانون آخرين على غرار علي المزغني رواداً في الدعوة إلى رفض فكرة الارتباط بين الشريعة أو الفقه الإسلامي من جهة والقانون من جهة ثانية. بيد أن هذا النزوع"التحديثي"الإحلالي التوجه، والذي لا ينظر إلى القانون التونسي إلا بقطيعة مع الفقه الإسلامي، لئن كان يجد له القليل من البراهين والحجج عند التأمل في المدونة القانونية التونسية في مختلف مجالاتها، إلا أن هذه الرؤية لا تصمد أمام الدارس الفاحص لقوانين المدونة، والتي جاءت في روحها العامة منسجمة، بل ومستلهمة من الفقه الإسلامي والمدونة الفقهية، سواء تعلق الأمر بتلك القوانين التي سنّت في مرحلة ما قبل انتصاب الحماية الفرنسية، أو تلك التي سنّت خلال الحماية أو حتى تلك التي صدرت بعيد الاستقلال وهي الأكثر. ولم يكن ذلك غريباً وقد كان معظم القائمين على عملية التقنين في مرحلة ما قبل الاستقلال هم أبرز علماء الديار التونسية، على مختلف مذاهبهم، من مالكية وحنفية وشافعية. وقد حاول أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة الزيتونية محمد بوزغيبة في كتاب صدر له قبل أعوام تحت عنوان"تقنين الفقه الإسلامي"رصد عملية الاستلهام هذه التي قام بها المشرّع التونسي للقوانين من الفقه الإسلامي، رافضاً فكرة الانفصال الكامل للقوانين عن أصولها الفقهية. فبعد حال من الجمود والتخلف استمرت لبضعة قرون، بدأت مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حال من الحراك في صفوف العلماء، بعد أن أدركوا التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي، مستجيبين بذلك لصيحات المصلحين. وقد كانت لكثير من رواد الإصلاح في تونس مواقف إزاء القوانين، مظهرين حرصاً على أن تكون مستلهمة من الفقه الإسلامي ومتماشية معه. ويعتبر خير الدين باشا أحد رواد الحركة الإصلاحية، وهو صاحب كتاب"أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"والذي دعا فيه حكام البلاد التونسية إلى الأخذ بما سنّته تركيا بوضعها كتاب"التنظيمات الخيرية"، إلى جانب وضع نصوص محددة واضحة، وسنّ مدونة فقهية شاملة يعرف بها الناس ما لهم من حقوق، وما عليهم من التزامات. وقد شكلت الدولة العثمانية في العام 1868 لجنة مكونة من سبعة علماء فقه برئاسة أحمد باشا جودت ناظر ديوان الأحكام العدلية، واستمر عمل اللجنة سبع سنوات لتنتهي بوضع مجلة"الأحكام العدلية". وكانت المجلة التي تم تعميم العمل بها في كل البلاد الخاضعة للامبراطوية، تمثل فتحاً جديداً في تاريخ تدوين الفقه الإسلامي. فقد كانت المجلة محاولة ناجحة وعملاً رائداً في تقنين أحكام الشريعة بكل ما يحمله التقنين من عناصر وخصائص. أما في تونس، فإن مما لا شك فيه أنه عندما يجري الحديث عن القوانين، لا سيما خلال تجربة الإصلاح، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو"عهد الأمان"الذي صدر في العام 1857، وهو قانون كثيراً ما يحتفي به رجالات القانون في تونس، ويعتبرونه القانون الذي جعل من تونس رائدة وسباقة في عملية وضع القوانين في العالم العربي. بيد أن الدارس للحيثيات والملابسات التي حفت بإصدار"عهد الأمان"سيبدي قدراً كبيراً من التحفظ على القانون المذكور، الذي تشير غالبية التاريخية إلى أنه صدر في ظل ضغوط خارجية واضحة، بل لم يقطع التردد لمصادقة الباي عليه إلا رسو الأسطول الفرنسي في المياه التونسية، إلى جانب تدخل بريطاني مماثل، لا سيما بعد إعدام يهودي بأمر من الباي بعد أن كان قد سبّ الدين الإسلامي علانية. بيد أنه وعلى رغم هذه الحيثيات فإن"عهد الأمان"كان وضع بإسهام من العلماء والفقهاء الكبار الممثلين لمختلف المذاهب الفقهية في البلد، بينهم شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع، ومحمد بن الخوجة ومحمد البنا، إلى جانب طبعاً أحمد بن أبي الضياف، محرر القانون. علماً أن جل الفقهاء الذين كانوا يساهمون في تفسير القانون المذكور، قاطعوا فجأة وفي شكل جماعي جلسات تفسير"العهد"من دون أن تتضح على وجه الدقة الأسباب أو الدوافع التي دفعتهم إلى ذلك الموقف الرافض. أما بعد انتصاب الحماية الفرنسية على تونس في العام 1881، فإن المستعمر الفرنسي ولئن بسط سيطرته على البلاد، إلا أنه في العلاقة بوضع القوانين المنظمة لمعاملات الناس، قد تجنب بحسب بوزغيبة أي صدام مع سكان البلاد، وقد صدرت مجلة"القانون المدني"والتي تعرف باسم"مجلة الالتزامات والعقود"في العام 1906 بمضامين اعتبرها جل الدارسين مستوحاة فعلاً من المدونة الفقهية، استفادة من المجلة المصرية والسورية في هذا الصدد. وتأكيداً لذلك، فقد اقتبست كل من المغرب في العام 1913 ثم موريتانيا في العام 1973 قوانين مجلة"الالتزامات والعقود"بعدما أدركتا أنها مجلة تنسجم تماماً، بل هي تقنين بديع للفقه الإسلامي. كما لم يكن ممكناً لموريتانيا اقتباس قانون يتعارض مع الفقه الإسلامي، وهي التي أعلنت نفسها عقب الاستقلال جمهورية إسلامية، ونص دستورها على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للقوانين. علماً أن بعض الدارسين يعتقدون أن المجلة المدنية الفرنسية نفسها مستوحاة من فقه المعاملات في المدونة الفقهية، وقد حصلت عملية الاستفادة الفرنسية من المدونة خلال حملة نابليون بونابرت على مصر في العام 1798. بقي أن أصحاب الرؤية العلمانية في قراءة القوانين التونسية يجدون في مجلة وحيدة بعض ما يسند دعاويهم. إذ وعلى رغم تنصيص المشرع على أن مجلة"الأحوال الشخصية"مستلهمة من الفقه الإسلامي، وهو موقف أكده حتى العلاّمة البارز الشيخ محمد الفاضل بن عاشور الذي قال مشيراً إلى المجلة إنها"إسلامية وهي مبنية على الاستمداد من أحكام الحكم الشرعي المنطبقة على الأحوال الوضعية الجارية على هذه الأحكام تطبيقاً للأحكام الإسلامية"، فإن الكثير من الفقهاء وفي مقدمهم العلاّمة البارز الشيخ محمد العزيز جعيط سجل تحفظات على مجموعة من المواد الواردة في مجلة الأحوال الشخصية، مؤكداً أن بقية المواد مأخوذة من الفقه الإسلامي. موقف قد لا يتفق مع رأي أعضاء المحكمة الشرعية آنذاك والذي عبر عن نفسه في فتوى جماعية وقعها 13 مفتياً وعالم دين. الخلاصة أن الدارس في المدونة القانونية التونسية يجدها في عمومها تتفق مع روح الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي. ووجود بعض المواد المثيرة للجدل على ما تثيره من رفض في صفوف المدافعين عن الإسلام مرجعية للدولة ولقوانينها، فإنها تبقى مواد محل اجتهاد تأويلي من جهة، وهامشية من جهة أخرى بالنظر إلى الروح العامة للمدونة القانونية. كما أن إسهامات العلماء والفقهاء بل وقيادتهم لعملية التقنين تجعل دعاوى انفصال عملية التقنين عن الفقه الإسلامي والشريعة دعاوى لا أساس لها. فمن تجربة الحركة الإصلاحية قبيل الاستعمار ثم خلال انتصاب الحماية، وحتى بعده كان حضور العلماء بارزاً وواضحاً، ما يجعل القوانين في مجملها منضبطة بروح الشريعة الإسلامية، لا سيما أن ذلك من صميم احترام الدستور الذي ينص فصله الأول على أن"تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، كما يشترط الفصل 38 من الدستور التونسي في الرئيس أن يكون مسلماً، إذ ورد فيه"رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ودينه الإسلام". ويبقى إذاً التحدي الأساس هو سبل حسم التدافع الأيديولوجي التأويلي لهذه المدونة علمنة وأسلمة، وهو موقف لا شك لن يحسم حتى من جانب الدولة التونسية الحديثة نفسها، والتي ستظل تغذي شرعيتها من هذا التناقض، إسلامية ومحافظة أحياناً وحداثية وتقدمية أحياناً أخرى، وكل ذلك وفق السياقات التاريخية التي تجد فيها نخبة الحكم نفسها. بقي أن نشير إلى أن عملية التقنين نفسها كآلية لضبط قواعد يخضع لها الأفراد في تنظيم أحوالهم الشخصية، انسجاماً مع منطق الدولة الحديثة بتنظيم كل المجالات وإخضاعها للمشرع، تظل لا تخلو من مآخذ وتحفظات، لا سيما أنها تضع الأفراد تحت رحمة تشريع تحتكره الدولة، التي لن تكون دوماً معبرة بالضرورة عن إرادة الأفراد، وهي عموماً دولة قهرية في العالم العربي، كما أنها تضيّق مجال المعالجات لقضايا، كان يمكن فيها سعة في النظر. إذ ان عملية التقنين كثيراً ما تتجه الى التنميط والجمود. لا سيما في مجال هو أصلاً يتعلق بالأحوال الشخصية، يبحث فيه المتقاضي عن الأيسر من الحلول. بيد أن الدولة الحديثة التدخلية لا تترك شاردة ولا واردة إلا وأخضعتها للتقنين، مختزلة بذلك وفي شكل متعسف مدونة فقهية تضم أكثر من خمسة مذاهب فقهية يحتفى فيها بالتنوع والتعدد وتغير مناط الأحكام بتغير الأفراد وأوضاعهم. وضع يؤكد أن الدولة الحديثة قد تكون في بعض وجوهها أكثر قهرية وتسلطاً من الدولة التقليدية، لما يطبعها من نزوع نحو احتكار كل شيء، لا سيما الضغط المسلح والتشريع. * باحث في شؤون المغرب العربي، مدير"المركز المغاربي للبحوث والتنمية" نشر في العدد: 16710 ت.م: 03-01-2009 ص: 24 ط: الرياض