عندما أعلنت وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني، من القاهرة، نيات حكومتها في شن عدوان واسع على غزة، أرادت رسم أبعاد لعمليتها، أوسع من مجرد استهداف القطاع المحتل والقوى المهيمنة عليه، خصوصاً حركة"حماس". قبل بعض الوقت، وعشية انتهاء شهور التهدئة بين"حماس"وإسرائيل، كانت التصريحات الاسرائيلية تركز على الجبهة الشمالية، وسمعنا في محطات متلاحقة تهديدات موجهة الى لبنان والى"حزب الله"فحواها أن أي تحرك للحزب ضد اسرائيل سيواجه بحملة تدميرية شاملة ضد لبنان، وقيل في شرح النيات الاسرائيلية الكثير: ستتحول قرى الجنوب الى ملاعب لكرة القدم وستدمر البنى التحتية اللبنانية، ولن يتم التفريق بين مقاومة وحكومة، فالحكومة ستعتبر مسؤولة لأنها ضمنت بيانها الوزاري الذي نالت ثقة مجلس النواب استناداً اليه فقرة عن حق الشعب اللبناني بالمقاومة... الخ. وفي الأثناء كانت المفاوضات غير المباشرة دائرة على الجبهة السورية، وهي أُرجئت في انتظار تسلم الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما مهماته في العشرين من كانون الثاني يناير، إلا أن الآمال المعقودة عليها لم تتراجع، فالرئيس السوري لا يمانع في تحولها الى مفاوضات مباشرة عندما يكتمل بنيان عملية السلام، والاسرائيليون لا يمانعون بدورهم، وهم يركّزون على اكتمال هذا البنيان، الذي لن يتخذ شكله الأخير من دون تضمنه بنوداً تتعلق بالعلاقات السورية ? الإيرانية والموقف السوري من"حزب الله"وپ"حماس"... اختارت تسيبي ليفني مصر منصة لإعلان حربها على غزة ليس من دون سبب. كان يمكنها الانتظار حتى عودتها الى تل أبيب لتقول ما قالت في القاهرة، أو إرجاء كل الكلام الى ما بعد اجتماع مصغر أو موسع للحكومة الإسرائيلية، إلا أنها قامت بفعلتها عن سابق تصور وتصميم: حددت الهدف، وهو تدمير غزة وإرهاب شعبها، وفتح الأبواب أمام كل ما يُحرج السلطات المصرية، وفي الوقت نفسه توجيه رسائل متنوعة، تحذيرية في جوهرها، الى"حزب الله"في لبنان، ولبنان كله، والى النظام السوري. تقول الرسالة الى"حزب الله"واللبنانيين ان ما ينتظركم هو نموذج غزاوي كالذي تشهدون، بعد أن تمت الاستفادة من تجربة حرب تموز يوليو، والى سورية إن ما جهدت يا دمشق في بنائه من أوراق قوة، في غزة وفي لبنان استعداداً للقاء أوباما، قد شلت فعاليته، وما ينتظرها في النهاية هو اللقاء وجهاً لوجه مع اسرائيل، ولن تكون النتائج إلا سِلماً بالشروط الإسرائيلية. أما الإحراج الذي سيصيب مصر، فعناوينه لم تتأخر في الظهور: تحول معبر رفح على الفور الى معبر للمطالبة بانتفاضة على السلطات المصرية، وانطلقت المطالبة في خطاب للسيد علي خامنئي مرشد الثورة الإيرانية، أعقبه خطاب السيد حسن نصرالله الذي يحض المؤسسة العسكرية المصرية على التحرك، لتشعر مصر بقوة ان نظامها مُستهدف بقدر استهداف القطاع المنكوب، ولتبدأ فيها حملة مضادة لم يسبق ان شهدتها منذ حرب تموز ضد مواقف"حزب الله". هذه الحملة ليست الأولى من نوعها تتعرض لها مصر بسبب الموضوع الفلسطيني. وكانت إعادة بناء التضامن العربي تستغرق وقتاً طويلاً، والكثير من الدماء يذهب هدراً. وكانت دورية اجتماعات القمة العربية نقطة إيجابية في مسيرة العمل العربي المشترك، تُوجت بإطلاق المبادرة العربية للسلام، إلا أن سياسة الانقسامات استمرت، فكان على قوى عربية أساسية أن تلجأ الى مبادرات عربية - عربية للسلام في لبنان وفي فلسطين، من دون أن يتاح للعالم العربي السير خطوة جدية في فرض رؤيته الموحدة للسلام. لهذا السبب ستكون هذه الرؤية الموحدة مرة أخرى ضحية للحرب الإسرائيلية على غزة، فمصر غير المرتاحة لما يجري على حدودها ستنتظر وقتاً تستغرقه في مداواة الأذى الذي لحق بها، وحسابات سورية ستكون أضعف في ملاقاة المفاوض الاسرائيلي أو الراعي الأميركي، والسعودية ستنشغل مرة أخرى في مداواة الجرح الفلسطيني مثلها مثل مصر، أما إيران فهي على الأرجح ستعتقد أنها ربحت مزيداً من الوقت، مع انشغال إسرائيل في دك القطاع، تستهلكه في متابعة مشروعها النووي استعداداً لتسوية ما. انطلق العدوان على غزة، وليس محسوماً أن تحقق فيه إسرائيل نصراً. هي ستحقق الكثير من الدمار وستقتل الكثير من الأبرياء، لكنها لن تتمكن من إبادة حقيقة عارية مفادها أن الفلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال وانها دولة معتدية. لكن الخروج من نفق الدم سيبقى مسؤولية فلسطينية بالدرجة الأولى. والذين يقارنون اليوم بين حرب تموز ضد لبنان والعدوان على غزة يتجاهلون نقطة أساسية وفرت صمود اللبنانيين، وهي لجوء الجميع الى عباءة الشرعية اللبنانية التي خاضت، ممثلة بحكومة فؤاد السنيورة،"مقاومة ديبلوماسية"كما أطلق عليها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، أدت في النهاية الى جانب صمود المقاومة العسكري الى انتاج النقاط السبع والقرار 1701. لذلك لا نرى مخرجاً لمأساة الشعب الفلسطيني من دون عودة الى اتفاق وطني فلسطيني تحت عباءة السلطة، إلا إذا كان البعض يعتقد أن برنامجه السياسي أهم من حياة شعبه وحقه في الدولة المستقلة. ولا شك في أن لبنان"بجناحيه"الفلسطينيواللبناني، استفاد من التجربتين: تجربة تموز وتجربة غزة، ولعل مبادرة السلطات اللبنانية بدءاً من رئيس الجمهورية مروراً برئاسة الحكومة وصولاً الى رئاسة المجلس النيابي، الى احتضان لقاء فلسطيني - لبناني شامل ومفتوح بهدف إنتاج موقف مسؤول، يحفظ أمن لبنان ويوفر ما أمكن من دعم لسكان غزة والضفة، يشير الى نُضج على مستوى الطاقم السياسي اللبناني الذي كانت تحوله مناسبات مماثلة في السابق الى أطراف متناحرة على جلد دب لم يتم اصطياده، وهو نضج يشارك فيه على نحو خاص أيضاً"حزب الله"، الذي رفض بلسان أمينه العام نصب صواريخ في الجنوب، وذهب أبعد من غلاة خصومه في اتهام مفتعلي ذلك الحادث بوصفهم عملاء اسرائيل. * صحافي من أسرة "الحياة"