منذ انتهاء عصر الحرب الباردة بين القطبين في نهاية ثمانينات القرن العشرين لم تتوقف مساعي الولاياتالمتحدة لتكثيف وجودها في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن وشمال غرب المحيط الهندي ذات الأهمية الجيو - استراتيجية القصوى، التي تطل ليس فقط على قناة السويس ولكن أيضاً على منابع النيل في شرق أفريقيا ومنابع النفط في الجزيرة العربية، وتلامس إسرائيل التي تراها واشنطن حليف الماضي والحاضر والمستقبل، وتتوسط الجسد العربي والإسلامي الذي تعتبره واشنطن مصدراً لخطر"الإرهاب". وفي إطار هذه المساعي وبدعوى مكافحة القرصنة في المنطقة بدأت رسمياً مع انتصاف شهر كانون الثاني يناير لعام 2009 عملية دولية كبرى تنفذها قوات بحرية متعددة الجنسيات تحت القيادة الأميركية وبعضوية عشرين شريكاً من دول حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وإسرائيل التي انتزعت لنفسها دوراً إضافياً مميزاً في العملية بموجب مذكرة التفاهم الموقعة في واشنطن بين وزيرتي الخارجية الأميركية والإسرائيلية في منتصف كانون الثاني 2009 أيضاً بدعوى منع التسليح البري والبحري والجوي للجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى شريك مميز آخر هو أثيوبيا التي أكملت في منتصف كانون الثاني 2009 سحب قواتها البرية من الأراضي الصومالية، بعد احتلال دام عامين تكبدت خلالهما الكثير من التكاليف المالية والخسائر البشرية مقابل إزاحة"المحاكم الإسلامية"عن السلطة التي كانت قد استلمتها عام 2006 وتعيين حكومة موالية لأثيوبيا تضم بعض أمراء الحرب العشائريين الذين سبق لهم أن دفعوا بالصومال نحو الانهيار عام 1991 بما خاضوه في ما بينهم من حروب أهلية وانفصالية. وقد يفيد هنا التذكير أن الصومال الذي شكل في بعض العصور الفرعونية القديمة امتداداً للأراضي المصرية تحت اسم"إقليم بونت"أعاده محمد علي باشا إلى الأحضان المصرية بعد نجاحه في انتزاعه بالتراضي من الحكم العثماني عام 1846 إذ كان اسمه"ولاية الحبش"ليتغير الاسم عام 1865 إلى"محافظة سواحل البحر الأحمر المصرية". وقد يفيد هنا أيضاً التذكير بأن مصر سحبت وجودها القانوني من هناك خضوعاً لقرار غير مشروع أصدرته سلطات الاحتلال البريطاني لمصر عام 1884، ليعقب ذلك مباشرة إعادة احتلال الصومال ثم تقسيمه بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأثيوبيا وكينيا. وفي عام 1960 اتحدت الأجزاء التي كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني والإيطالي وأعلنت استقلالها في الحدود الجغرافية المعروفة حالياً لدولة الصومال، ومنذ ذلك الحين أصبح تحرير الأجزاء الأخرى الممزقة وتوحيدها هو القضية الوطنية والقومية الأولى للشعب الصومالي سواء داخل حدود دولة الصومال أو في الأجزاء المنتزعة والواقعة داخل حدود الدول الإقليمية المجاورة. أولئك الجيران الذين حرصوا على الاحتفاظ بالأراضي الصومالية التي يحتلونها بشتى الوسائل اللئيمة، وفي مقدمها إضعاف الصومال بتفتيت وحدته الوطنية والقومية عبر تأليب العشائر ضد بعضها ودفعها نحو الصراع المسلح الذي أسفر في عام 1991عن انهيار شامل للدولة وفوضى شاملة في المجتمع. وكما تجذب رائحة الدم المراق الكواسر والجوارح نحو فرائسها فقد انجذب حلف شمال الأطلسي نحو الفريسة الجريحة، إذ قادت الولاياتالمتحدة الأميركية تحالفاً استعمارياً أطلسياً لاحتلال الصومال والسيطرة على أراضيه في عام 1992، إلا أنهم فوجئوا بالمقاومة الشرسة التي ظهرت كرد فعل طبيعي عنيف للوجود الاستعماري فأفقدته حوالى مئتي قتيل بينهم حوالى عشرين أميركياً الأمر الذي أجبرهم على الفرار عام 1994، ليعاودوا المحاولة مرة أخرى اليوم بحراً بالإخراج الساذج لمسرحية قراصنة البحر الصوماليين والافتعال الساذج لأحاديث حول خطوط بحرية لتهريب الأسلحة للإرهابيين. وعلى رغم أن المستقبل سيكون أصعب على الشعب الصومالي ، نظراً الى أن التحالف الاستعماري الأطلسي تحت القيادة الأميركية قد استفاد كثيراً من تجاربه الدموية خلال ال 15 سنة الماضية في فلسطين والعراق وأفغانستان وغوانتانامو، فإن تحالف"فصائل المقاومة الصومالية"قادر على تكرار النصر لو أنه نجح بدوره في الاستفادة من دروس الشعوب الحية الأخرى التي قاومت وانتصرت على الاستعمار والاستبداد والفساد، ولو أنه نجح في الحفاظ على المصالح الحقيقية للشعب الصومالي في مجمله من خلال احترام التنوع العشائري ومراعاة تمثيله في مختلف المواقع القيادية للتحالف، تأكيداً لطابع المقاومة الوطني والقومي الذي يمنحها المدد البشري المطلوب ويكفل لها الاستيعاب الديناميكي لأبناء العشائر الصومالية المتعددة ويزيل المخاوف تجاهها من قبل بعض قادة العشائر سواء داخل حدود دولة الصومال أو في الأراضي الصومالية التي يحتلها الجيران، ومن خلال إعلاء الرايات السياسية للمقاومة على خلفياتها الوطنية والقومية الحقيقية مع تهدئة الخطاب الديني المباشر قليلاً، الأمر الذي يكفل استيعاب مختلف القوى المدنية داخل صفوف المقاومة بما في ذلك المقاومون الذين يرغبون في تحاشي شبهة التطرف الديني والمخلصون من أمراء الحرب والمخدوعون في أوساط الحكم، كما يجلب للمقاومة الصومالية تعاطفاً جماهيرياً واسعاً من قبل الشعوب التي تتنوع دياناتها على امتداد العالم. وإذا كان ذلك الخطر المحدق بحياة عشرة ملايين صومالي يتم على خلفيات استعمارية أميركية وأطلسية وإسرائيلية وأثيوبية تتناقض في شكل جذري مع اعتبارات الأمن القومي المصري على صعيدي المصالح والمخاطر، ليس فقط بالنظر إلى الأخوة التاريخية والإنسانية أو إلى اختيار الصوماليين للهوية العربية بانضمامهم طوعاً عام 1974 إلى الجامعة العربية باعتبارهم من العرب، ولكن أيضاً لأن الصومال يمثل عمقاً استراتيجياً ومجالاً حيوياً وأهمية ميدانية للأمن القومي المصري في شكل مباشر، من حيث موقعه الجيو - استراتيجي في الدوائر العربية والأفريقية والإسلامية على مقربة من منابع النيل في شرق أفريقيا ومنابع النفط في الجزيرة العربية، ومن حيث إطلالته على المعبر الجنوبي الوحيد للبحر الأحمر وقناة السويس في باب المندب. فهل يجوز للمسؤولين المصريين أن يستمروا في استخفافهم بالخطر حتى بعد اقترابه لدرجة الالتصاق مع مطلع 2009، أم آن الأوان لكي تسعى القاهرة حثيثاً لترتيب الأوضاع المحلية والإقليمية والعالمية بهدف انتشال الصومال من محنته مع الحفاظ على وحدة الشعب الصومالي وسلامة أراضيه ودعم حقوقه الوطنية والقومية المشروعة، ولكي تستخدم القاهرة الوسائل العلنية والسرية المتاحة لديها ولدى العرب المعنيين بالشأن الصومالي بهدف إفشال المخططات الاستعمارية المعادية لاعتبارات الأمن القومي المصري والعربي. * كاتب مصري