أمسكت فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، أمعاءها المتدليّة خارج بطنها، وضغطت عليها بيديها، ودخلت مستشفى الشفاء في غزة، من دون أن يرف لها جفن، ومن دون أن تبكي، أو تشكو. نظرتُ الى وجه هذه الفتاة، وصرختُ:"يا... الله... فعلاً هو شعب الجبّارين". هذا ما قاله طبيب أردني. عاد أخيراً من غزة، لإحدى محطات الإذاعة المحلية في عمان. بكت الفتاة فقط، كما يقول الطبيب، عندما انتهت الجراحة، سألها الأطباء عن عائلتها، فأجابت بأن بيت أهلها دمّرته الطائرات الإسرائيلية، وأنها لا تعرف شيئاً عن عائلتها. هذه هي إذاً،"ديموقراطية"باراك وأولمرت وتسيبي ليفني، الذين رسمهم أطفال لبنان على هيئة مصاصي الدماء، أو دراكولات إسرائيل، ولم يكن ذلك مجرد خيال. بدأت المذبحة، كما نعرف، يوم السبت في 27/12/2008، بعد أيام قليلة من خديعة المؤتمر الصحافي، الذي عقدته تسيبي ليفني في القاهرة، وهدّدت فيه بمحو حركة"حماس"من الوجود. وكانت المذبحة يوم السبت برموزه في الثقافة اليهودية، خديعة أخرى، والحرب خدعة كما قال العرب. هكذا كانت الضربة الأولى موجعة. تُرى من المسؤول عن هذه المفاجأة؟ هل كان يليق بمسؤول فلسطيني، أن يُصرّح فوراً:"حماس شريكة في الجريمة"، انطلاقاً من الانشقاق الفلسطيني؟ ولماذا الارتباك في المواقف العربية في بدايات الحرب على غزة؟ ولماذا اختصار هذه المواقف في موقف مصر بالتحديد؟ أما المفاجأة الإسرائيلية الثانية، فتمثّلت في وثيقة رايس - ليفني، التي تستدعي قوات حلف شمال الأطلسي، لإشعال حرب جديدة في المنطقة من مضيق هرمز حتى شاطئ غزة، أو على الأقل، للتمهيد لذلك. وحدثت كذلك المفاجأة الثالثة، حين أعلنت إسرائيل وقف إطلاق النار من جانب واحد، وما تلاه، أي الانسحاب من جانب واحد، أي أنها لا تريد الاعتراف بأنها تفاوض حركة"حماس"بوساطة مصر، على رغم أن الشمس لا تغطى بغربال. ومن جهة أخرى، أشاعت إسرائيل مساحة من الغموض حول أهدافها، فادّعت أنها قسّمت الحرب الى ثلاث مراحل، حيث تكون المرحلة الثالثة، كما هو مفترض، مرحلة الدخول في قلب البلدات والمدن الغزّية، ولكن تبين أنها عاجزة تماماً عن ممارسة حرب المدن. أما مفاجآت العرب، فهي لا تسرُّ البال، لأنها لم تفاجئ أحداً: تأجيل مؤتمرات القمة الى ما بعد المذبحة، ومحاولة فصل حركة"حماس"الفلسطينية الإسلامية عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتجاهل المقاومة، التي قادتها حركة"حماس"خلال الحرب. ترافق ذلك مع ضعف إعلامي واضح لدى المقاومة، حيث لم تستطع إيصال تفاصيل الرسالة: فالشهداء 1350 شهيداً، والجرحى 5350 جريحاً، من بينهم: 570 شهيداً من الأطفال ولنساء، والجرحى 2150 جريحاً من الأطفال والنساء. كل هؤلاء، ليسوا مجرد أرقام، تُحصيها الفضائيات، بل هناك وراء كل رقم، سردية تراجيدية، لا تعرفها وسائل الإعلام. هكذا تحوّلت الفضائيات العربية الى فريق إحصائي، وتحوّل الرأي العام الى"عدّاد"أرقام. وفي المقابل، استغلت إسرائيل، خبرتها العالمية في التزوير والكذب لإقناع العالم بأن المسألة، تتعلق بحركة"إرهابية"، مُستغلة أفكار ما بعد 11 أيلول سبتمبر الأميركية. وفي المقابل، كشفت مذبحة غزة، التيارات العربية الفكرية والسياسية، كافة، وأظهرت المذبحة كما يأتي: أولاً: أظهرت مذبحة غزة، أن ما قبل مذبحة غزة حصار غزة، لم يكن عادلاً، بل كان مرفوضاً تماماً، حتى لو كان هناك"انشقاق فلسطيني"، وأظهرت أن الانشقاق، تمّ بفعل فاعل فلسطيني، وبفعل انحيازات عربية، وتواطؤ إسرائيلي وأميركي. آنذاك، كنت أرى الآتي، وقد أكون مصيباً أو مخطئاً: نجحت حركة"حماس"في انتخابات ديموقراطية، شهدت بنزاهتها حركة"فتح"وأوروبا، وحتى أميركا، لكن شريحة قيادة اتفاق أوسلو في السلطة الفلسطينية، وهي غير حركة"فتح"، لم تعترف بنتائج الانتخابات من الناحية الفعلية، على رغم التصريحات اللفظية لرموز شريحة أوسلو في الفضائيات. تلى ذلك، محاولة انقلاب الجنرال دايتون على نتائج الانتخابات، والتحضير لحرب أهلية فلسطينية - فلسطينية. وهنا حدث انقلاب حركة"حماس"في قطاع غزة، ضد انقلاب دايتون. هنا ارتكب الطرفان، أبشع المآسي ضد أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة، وغزة معاً. وقد اتخذ الصراع شكل الانشقاق بين تيار المقاومة، وتيار المفاوضات. هنا حدثت نكبة الانشقاق حول مفهوم المقاومة نفسها، بتحريض إسرائيلي - أميركي. وكنا نقول إن حركة"حماس"قد أخطأت أصلاً، حين دخلت لعبة الانتخابات، إذ لا يمكن أن تكون وزيراً وهمياً، ومقاوماً معاً. وأخطأت حركة"فتح"، حين توهمت أن المفاوضات البائسة، قد تقود الى الدولة الفلسطينية المستقلة، لأن تجارب الشعوب في مرحلة التحرر الوطني، أثبتت أنه لا مفاوضات من دون مقاومة. ثانياً: أظهرت مذبحة غزة، أن على المثقفين العرب أن يُراجعوا أفكارهم، سواء تيار المقاومة، أو تيار المفاوضات، وعليهم ألا يكونوا على يمين زعمائهم، بل أن يلعبوا دور الطليعة في علاقتهم بالسلطة، أي كما قال إدوارد سعيد:"وظيفة المثقف، هي قول الحقيقة للسلطة، وهذا لم يحدث قبل المذبحة، فقد تمّت عملية شراء ضمائر المثقفين، إلا ما ندر، بثمن بخس، ولدينا الكثير من الأدلة على ذلك. واسوأ ممارسة ثقافية ديكتاتورية، هي تلك التي مارسها للأسف، ما أُسميه"تيار التبعية الليبرالي"، تمييزاً له عن"التيار الليبرالي الوطني"التقليدي، وذلك بفعل لهاثه وراء العولمة المتوحشة، متوهماً أنه قد أصبح شريكاً، وليس مجرد مُستهلك كسول. ثالثاً: أظهرت مذبحة غزة، أن الحساسية الشعبية، والمقاومة الشعبية، تجاوزتا في تفكيرهما المصرّح به في التظاهرات، كل الأفكار التقليدية السائدة قبل المذبحة، وبالتالي، فالمقاومة الشعبية في غزة، والتظاهرات في معظم البلدان العربية والأجنبية، وصمود غزة وأهلها، في مواجهة دولة الاحتلال النووية، كل ذلك، هو الذي أعاد قضية فلسطين الى الواجهة العالمية، بعد أن كادت تُنسى في ظل المفاوضات من أجل المفاوضات، والمفاوضات الى الأبد! التي مارستها شريحة أوسلو، وتيار ثقافة السلام، التي هي كلمة حق، أُريد بها باطل. رابعاً: ذات مرة، اعترضتُ، في حوار تلفزيوني، على زيارة بعض المثقفين العرب إسرائيل، وكان على الخط مثقف عربي يؤيد التطبيع الثقافي، حيث اتهمني بأنني أمارس"ثقافة المهاترات"، فهل أصبح التطبيع، مجرد وجهة نظر؟! وأصبحت ثقافة المقاومة جريمة لا تغتفر؟! ذلك ما قلته لذلك المثقف. وذات مرة، عندما عُدت من مهرجان الشعر العالمي في هولندا 2003، بعد أن كانت إدارة المهرجان، قد نصبتْ لي فخاً، نجوتُ منه، وذلك بمحاولة إقناعي بالمشاركة مع شاعرة إسرائيلية في ندوة ثقافية، حينذاك، اتصل بي المرحوم محمود درويش من منزله في عمّان، يسألني عن الضجة التي أثيرت، في الصحف الهولندية، فذهبت إليه في بيته، حين كان البعض يحاول تعكير صفو صداقة العمر بيني وبين درويش، ودار بيننا حوار، بعد أن رويتُ له بأمانة ما حدث، فسألته السؤال الآتي: أنت تعرف يا محمود أنني شخصياً ضد الحوار معهم، ولا أزال، وأريد منك أن تجيبني بصراحة: هل تعتقد أن الحوار معهم، مفيد لقضيتنا المشتركة، فأجابني بالحرف: أنت تعرف أنني كنت مجبراً على الحوار معهم، بسبب الظروف الخاصة بي، وأنا شخصياً ضد زيارة المثقفين العرب الى إسرائيل، لأنني ضد التطبيع المجاني، أما نتيجة الحوار معهم، فكانت محبطة. كلهم عنصريون، ويكذبون. وسمّى محمود لي بعض الكتّاب الإسرائيليين من مشاهيرهم، وحكى لي بعضاً من حواراته معهم. أقول ذلك، لأن بعض المثقفين العرب، تجاوزوا الخط الأحمر في تعذيبهم للمثقف الفلسطيني المقاوم، بل إن مجلات وصُحفاً عربية، تنشر مقالات الكتّاب الإسرائيليين ضد الشعب الفلسطيني وثقافته، وتمنع أي وجهة نظر معارضة لمثقف فلسطيني، بل وصل الأمر الى حد التعتيم على نصوصنا، وأسمائنا! وما زلنا نكظم شعورنا بالقهر، ونحاول على رغم ذلك، إقناعهم بأن لا جدوى من الحوار مع مثقفي الاحتلال. قلت عام 2003، لمديرة مهرجان الشعر العالمي في هولندا: عندما كانت ألمانيا الهتلرية، تحتلُّ بلادكم، هل كنت توافقين على الظهور جنباً الى جنب مع مثقف الاحتلال، فأجابتني: بطبيعة الحال لا. قلت لها إنني مستعد للظهور مع شاعر هولندي يهودي، يقف مع قضيتي، على المسرح غداً. فأجابت، بأنها تتفهم موقفي تماماً، أما الذين لم يتفهموا موقفي آنذاك، فهم بعض الشعراء العرب، الذين لم يقولوا الحقيقة عندما عادوا الى صحفهم... وشعرت آنذاك، بالحزن، إذ تأكد لي أن بعض المثقفين، لا يريد أن يفهم مشاعر الفلسطيني، أو أنه يفهمها جيداً، لكن مصلحته أن يتظاهر بعدم الفهم، لئلا يخسر الدعوات الى مهرجانات أوروبا. وهنا أقول: ما قبل المذبحة، لا يشبه ما بعد المذبحة، حيث لا يستطيع أي مثقف عربي أن يزور إسرائيل، بغطاء من سياسي فلسطيني، أو مثقف فلسطيني، لأن"الواحة الديموقراطية"في الشرق الأوسط، ثبت كذبها، وزيفها، ولأن الاحتلال هو نقيض الديموقراطية، ولا حوار مع مثقفي الاحتلال، لأنهم ضد الحداثة الحقيقية. خامساً: هل يكفي الدم المسفوك في غزة الصامدة، كي يتغير بعض المثقفين العرب، فنحن حريصون على أن يظلوا مع قضية الشعب الفلسطيني، شعبهم، وأن لا ينحازوا مع طرف فلسطيني، ضد طرف آخر، لأن حركة"حماس"الأصولية، هي ابنة الشعب الفلسطيني، وهي حركة مقاومة، ونحن نقف مع مقاومتها، لا مع أصوليتها، التي قد نتفق ونختلف معها. لقد قال أحد المثقفين العرب ذات مرة، إنه ليس منزعجاً من الأصوليين، قدر انزعاجه من بعض العلمانيين الفلسطينيين، الذين يرغبون في جمع حركة"حماس"مع حركة"فتح"، وأشاع ذلك المثقف أنه يقصد بلال الحسن وعزمي بشارة وعبدالباري عطوان وعز الدين المناصرة. إن الوحدة الوطنية الفلسطينية الحقيقية، هي مطلب إجماع من الشعب الفلسطيني، الذي طالما اكتوى بنار الانشقاقات، ونار ثقافة الفساد. وليس لنا إلا العودة الى بيت منظمة التحرير الفلسطينية المُهدّم مثل بيوت غزة، وذلك، بإعادة بنائها من جديد، وبحجارة جديدة، لأننا نعيش مرحلة التحرر الوطني وفلسفته. وما دام هناك احتلال، هناك مقاومة، وما دام هناك احتلال، فالسلطة تحت الاحتلال، سلطة وهمية، ولا يمكن للشعب الفلسطيني أن يقبل بأن يكون الفلسطينيون، حراساً لحماية أمن الاحتلال. فهل نظلُّ نتذكر بطولة تلك الصبية الجريحة في غزة، وسردية الطفل، الذي أفقدته القنابل الإسرائيلية عينيه، ولم تفقده بصيرته، وهو يسرد مأساته، بلغة الحكماء! وهل نظلّ نتذكر أن الولاياتالمتحدة، التي اعترفت بعدم وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، لخّصت القتل الذي لا تزال تمارسه في العراق، بثقافة: I am sorry! وهل ستتم جرجرة عصابة الفاشلين الثلاثة الى المحاكم الدولية، كما وعدنا عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية؟