فور اعلان"حماس"وقف اطلاق النار، بادر أمين عام"حزب الله"السيد حسن نصرالله، الى تهنئة الشعب الفلسطيني"بالانتصار الذي حققه في مواجهة العدوان الصهيوني الغاشم في قطاع غزة". وكانت صحيفة"نيويورك تايمز"قد أعربت عن موقفها يوم السبت الماضي، بالاعتراف ان فشل الهجوم الاسرائيلي في كسر إرادة"حماس"يعتبر انتصاراً للمقاومة الفلسطينية، خصوصاً ان التظاهرة الشعبية التي ملأت شوارع غزة يوم الثلثاء الماضي، جددت تصميم المئات من رافعي اعلام"حماس"و"الجهاد الاسلامي"على استئناف القتال. وكانت هذه التظاهرة التي شارك فيها أنسباء وأصدقاء 1300 قتيل بينهم 400 طفل وامرأة، بمثابة دليل قاطع على تأكيد قيادة"حماس"والاعتراف بسلطتها. المحللون العسكريون في الصحف الغربية يميلون الى الاعتقاد بأن الانسحاب المفاجئ للقوات الاسرائيلية يخفي وراءه اعترافاً غير معلن بفشل عملية"الرصاص المسكوب"، والسبب ان الدبابات التي طوقت مدينة غزة لمدة اسبوعين تقريباً، لم تحدث الذعر الجماعي المطلوب لاستسلام عشرين ألف فدائي كانوا ينتظرون العمليات الاستشهادية. وقد اعترض وزير الدفاع ايهود باراك على"تدخل وزيرة الخارجية تسيبي ليفني التي حصرت مطالبها بضرورة اكتشاف مخبأ الجندي المخطوف جلعاد شاليط وتحريره من الأسر، وكانت بالطبع تتمنى الظفر بهذه"الجائزة"كي توظفها في الحملة الانتخابية المقبلة". يدعي ايهود اولمرت ان أعضاء المجلس الأمني المصغر اتفقوا على سحب القوات يوم الاحد الماضي، من أجل منح الرئيس الاميركي الجديد فرصة التدخل قبل تنفيذ الخطة العسكرية المتفق عليها. وكانت الخطة تقضي بتدمير منشآت"حماس"ومصادرة معداتها وملاحقة مقاتليها بحيث تتم تصفية المنظمة كقوة مسلحة وابعادها عن الحكم. والثابت ان هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر اصطدمت بممانعة بعض الضباط الذين اتخذوا من حرب لبنان 2006 حجة للتشكيك بنجاحها داخل الأزقة المكتظة بالسكان. لذلك وجدت الحكومة في موعد تنصيب أوباما فرصة مناسبة للتخلي عن خطتها المكلفة لعل الرئيس الجديد يستبدلها بخطة ديبلوماسية تفرض التهدئة، خصوصاً انه أعطى اسرائيل الحق في الدفاع عن سيادتها وأمنها يوم زار المنطقة لمدة 36 ساعة التقى خلالها شمعون بيريز وايهود اولمرت وتسيبي ليفني وايهود باراك. وقد عاتبه في حينه محمود عباس وسلام فياض لأن زيارته للضفة الغربية لم تستغرق أكثر من ساعة واحدة. علماً بأنه وعدهما بتجديد دور الشريك في عملية السلام، وبأنه لن يبدأ من نقطة الصفر. ولكنه برر للاسرائيليين حق الرد على صواريخ"حماس"، معتبراً ان الذي يروع ابنتيه بالقذائف القاتلة لا يجوز ان يقابل باللامبالاة! تحت عنوان"نجاح حماس"كتب تسفي برئيل في صحيفة"هآرتس"مقالة شدد فيها على إظهار السلبيات التي انتجتها سياسة العنف المدمر في غزة. وعدد المعلق سلسلة الخسائر التي مني بها الجانب الاسرائيلي، مؤكداً ان اولمرت خسر تركيا، البلد المحايد الذي عبّد الطريق لاستئناف المفاوضات حول الجولان. وكان رئيس وزراء اسرائيل قد زار انقرة قبل مدة قصيرة من الغارات الجوية على غزة، حاملاً لأردوغان عرضاً بضرورة الانتقال الى المحادثات المباشرة مع سورية. وهكذا اكتشف اردوغان ان العرض لم يكن أكثر من خدعة لتطمين سورية و"حزب الله"و"حماس"الى رغبة اسرائيل في التهدئة. وكان من الطبيعي ان يرفض اردوغان الرد على مكالمته الهاتفية، تاركاً لوزير العدل مهمة اعلان تجميد نشاطات السفير الاسرائيلي. وكان من نتائج هذا الخلاف ان هدد الشارع التركي الهائج فريق كرة السلة الاسرائيلي، الأمر الذي فرض على حكومة اولمرت وقف الرحلات السياحية الى اسطنبول. ولأول مرة يحذر الأردن رسمياً من عواقب الإرهاب الاسرائيلي، بدليل ان رئيس الوزراء نادر الذهبي ألقى خطاباً في البرلمان لمح فيه الى احتمال اعادة النظر في العلاقات إذا استمرت حملة التنكيل بسكان غزة. ومع ان قطر تقف سياسياً في محور الرفض مثل ايران وسورية، إلا أنها ديبلوماسياً مسجلة على محور الاعتدال بسبب الممثلية التجارية التي تركتها قائمة في الدوحة. ولكن الشيخ حمد بن خليفة أعلن من قمة الكويت، عن تجميدها بانتظار ما تسفر عنه الاحداث. وبعد ان وصف برئيل دولته بأنها المصدرة الأولى للارهاب في العالم، اعترف بأن مغامرتها العسكرية فرضت على تركيا تجميد علاقاتها والانتقال من موقع الاعتدال الى موقع الخصومة. كذلك توقع من قطر وقف وساطتها مع"حزب الله"و"حماس". وفي المحصلة النهائية رأى ان تداعيات الهجوم على غزة أبعد عنها مصر والاردن، الدولتين اللتين ترتبطان معها باتفاقات سلام. كما أبعدت الشريك الفلسطيني محمود عباس الذي تخلى عن اعتداله وطالب بحكومة وفاق وطني تضم كل الفصائل بما فيها"حماس". واستناداً الى هذه المتغيرات، فإن"حماس"تكون قد ربحت سياسياً من الحملة العسكرية الاسرائيلية، شرط ان توظفها لكسب مزيد من الصداقات الاقليمية والدولية، خصوصاً انها متهمة بإقحام القضية الفلسطينية في صراع النفوذ على الشرق الأوسط، بطريقة جعلت القضية التي تمثلها طرفاً لمحور معين. ومثل هذا الخطأ اقترفه ياسر عرفات في حرب الخليج الثانية، الأمر الذي دفع الكويتيين الى طرد أكثر من ثلاثمئة ألف فلسطيني. كلمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في قمة الكويت، شكلت مفاجأة غير متوقعة حتى لكبار المسؤولين في الخارجية السعودية. وقد قرأ فيها أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى، رسالة سياسية توافقية دعا للالتزام بمضمونها باعتبارها تمثل الروحية التي تأسس بموجبها دستور الجامعة. كذلك قوبلت بالارتياح في الأوساط السياسية اللبنانية لأنها تلتقي مع معادلة التقارب والتوازن التي حددها رئيس المجلس نبيه بري بقاعدة"س - س"أي باختصارها في أول حرفين من"سورية - سعودية". وذلك بهدف إحياء المعادلة التي أطلقت في مؤتمر الاسكندرية من قبل: السعودية وسورية ومصر. وقد ركز العاهل السعودي في كلمته على القول إن مبادرة السلام العربية - أي مبادرته - لن تبقى على الطاولة الى الأبد. واعتبر هذا التهديد بمثابة رسالة سياسية للدول المعنية بموضوع السلام - وفي مقدمها الولاياتالمتحدة - كأنه يعطي الفرصة الأخيرة للإدارة الأميركية الجديدة. وفي مناشدته زعماء الدول العربية، جدد الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الدعوة لنبذ الخلافات العربية - العربية، لعل الموقف الموحد يشكل سلاح المقاومة في وجه العدو الاسرائيلي. وكان بهذه المفاجأة يكرر مفاجأة أخيه المغفور له الملك فيصل، الذي اعطى قمة الخرطوم، الدعم المعنوي والمادي الذي يحتاجه الرئيس عبدالناصر للخروج من حال الإحباط التي سببتها نكسة 1967. ومع أن المقارنة بين حرب 1967 وحرب غزة 2009 غير متجانسة في حجم الخسارة وآثارها السلبية، إلا أن قمة الكويت، أثبتت مرة أخرى ان الخلافات الجانبية تتضاءل أمام الموقف المركزي الممثل بتكامل المواقف تجاه العدو الاسرائيلي المشترك. وهذا ما عبّر عنه السفير عبدالعزيز خوجه الذي رأى في مبادرة التصافي ونبذ الخلافات استنهاضاً لاظهار قدرة الموقف العربي الموحد. أجمع المراسلون في قمة الكويت على القول، إن الرئيس حسني مبارك وجد الفرصة السانحة للرد شخصياً على كل الاتهامات التي وجهت اليه قبل احداث غزة، وخلال المعارك، وبعد وقف اطلاق النار. وحمل على مروجي الشعارات الجوفاء، معتبراً أن مصر حملت القضية الفلسطينية في السلم والحرب، طوال ستين سنة. وانتقد دور ايران من دون أن يسميها، وأدوار الدول العربية"التي تسمح باستغلال مأساة غزة لاختراق عالمنا العربي بقوى من خارجه تتطلع للهيمنة وبسط النفوذ وتتاجر بأرواح الفلسطينيين ودمائهم". وكان بهذا الانتقاد يؤشر الى سورية وقطر باعتبارهما من الدول العربية المساندة لدور ايران في المنطقة. وفي ضوء ما أعلن من خطب كانت مضامينها أقوى من القنابل، إرتأت لجنة صوغ البيان الختامي الاكتفاء بمهاجمة اسرائيل، والابتعاد عن كل الأمور الحساسة التي تزيد عوامل التفرقة والتشرذم. ولكن"صمت"البيان الختامي لم يسكت الصحف المصرية التي تناوبت على مهاجمة المشككين بدور مصر، خصوصاً أن الرئيس مبارك عرف كيف يستغل الهجوم عليه لتحويله الى هجوم ضد مصر، الدولة والشعب. واعترف بعضها أن القاهرة تدخلت ثلاث مرات لمنع اسرائيل من ضم غزة إليها. ولم يخف بعض المعلقين رغبة مصر في رعاية المسيرة السياسية في الشرق الأوسط، بدلاً من أن تكون تحت رعاية سورية - ايرانية. وكان لافتاً التذكير بأن المداخلات الخارجية أجهضت دور مصر في لبنان، مثلما أجهضته في غزة. وأجمعت صحف الموالاة على القول بأن مجزرة غزة، وقعت لأن"حماس"أصغت الى نصائح سورية وايران بدلاً من أن تصغي الى نصح الدولة المصرية التي كلفت رئيس الاستخبارات عمر سليمان بتحذير قيادة"حماس"في دمشق من مغبة اطلاق الصواريخ. جميع هذه السيناريوهات الخارجية والداخلية لن تمنع الرئيس مبارك من القيام بدور الوصي العربي على مشكلة المعابر في غزة، خصوصاً أن وضع مصر الجغرافي لا يختلف كثيراً عن وضع سورية بالنسبة للحدود اللبنانية. ويقول المسؤولون في القاهرة إن الحكم في غزة حالياً مفرغ حتى من سلطة"حماس"، وان دور مصر يستدعي القيام بمهمة ملء الفراغ، ولو على الصعيد الانساني. لذلك تنتظر الحكومة المصرية نتائج الانتخابات الاسرائيلية 10 شباط/ فبراير كي تقرر في ضوء نتائجها حجم التدخل والنفوذ الفاعل. وهي تخشى من نجاح بنيامين نتانياهو الداعي الى إعادة احتلال غزة، لأن حملة الثلاثي: اولمرت - باراك - ليفني، لم تحقق أهدافها العسكرية أو السياسية، وانما أفسحت المجال بالانسحاب المرتجل، لعودة"حماس"الى حكم القطاع! * كاتب وصحافي لبناني نشر في العدد: 16731 ت.م: 24-01-2009 ص: 17 ط: الرياض