تتجاوز أبعاد العدوان على غزة، أردنياً، مسيرات الشارع وهتافاته أو السجال السياسي الداخلي حول طرد السفير الإسرائيلي ومعاهدة السلام. فلدى"مطبخ القرار"حسابات وقراءات تتجاوز الموقف الحالي إلى استنطاق المرحلة التالية له، وهي الهواجس التي عبّر عنها الملك بوضوح، متحدثاً خلال العدوان عن"مؤامرة"على القضية الفلسطينية". أول ما استثار العدوان على غزة هاجس"الخيار الأردني"، وهو السيناريو الأسوأ المسكون فيه مطبخ القرار، وقد تعززت هذه القراءة بصدور أصوات أميركية وإسرائيلية تتحدث عن خيار"الدول الثلاث"إسرائيل، إلحاق الضفة بالأردن، وغزة بمصر باعتباره الأفق الوحيد الممكن لحل القضية الفلسطينية. على الجهة المقابلة، فإنّ إحدى أبرز تداعيات أحداث غزة هي عودة السياسة الخارجية الأردنية إلى مشروع"المحاور الإقليمية"، وهو ما ظهر جلياً في المرحلة الأخيرة من الحرب. العودة إلى"محور الاعتدال"تمثل انعطافة أخرى للسياسة الأردنية، خلال فترة زمنية قياسية، لا تتجاوز شهور قليلة، قام حينها مطبخ القرار بإعادة هيكلة المواقف الأردنية بعد الشعور بخيبة أمل كبيرة من الرهان على اجتماع أنابولس، وما قد يتمخض عنه من نتائج يمسك بها"محور الاعتدال العربي"، تبقي الباب مفتوحاً أمام مشروع الدولة الفلسطينية باعتباره أولوية للسياسة الخارجية الأردنية. كان صانع القرار يأمل بأن يترك بوش على الأقل"تركة"أو وديعة تلزم الإدارة الجديدة وتدفع التسوية إلى الأمام. ولأن ذلك لم يحدث، بل على النقيض من ذلك بدت مؤشرات مغايرة، فبدأت عملية إعادة تقييم لحسابات الأردن منذ تلك الفترة. عزز تلك المراجعات عقد اتفاق التهدئة بين حماس وإسرائيل حينها، واتفاق إطلاق سراح أسرى حزب الله، مع بروز أزمة حركة فتح وضعف تماسكها وتراجع شعبيتها. المحصلة تمخضت عن قيام الأردن باستدارات هادئة في رهاناته الخارجية ومواقفه دون أن يخرج مباشرة عن مربعه الاستراتيجي أو يصطدم بصلاته بمحور الاعتدال العربي. فأعاد مطبخ القرار فتح الحوار والقنوات مع حركة حماس، لاختبار مواقفها من العديد من السيناريوهات المحتملة، بالتزامن والتوازي مع الانفتاح مع جماعة الإخوان، التي تشكل الواجهة السياسية الرئيسة للشارع الأردني من أصول فلسطينية. توسّعت عملية المراجعات، أيضاً، إلى استعادة الهدوء في العلاقة مع سورية والعودة إلى بناء العلاقات الديبلوماسية مع قطر، وتخفيف حدة التوتر مع كل من إيران وحزب الله. من الواضح أنّ الهدف الاستراتيجي من هذه المراجعات، التي أطلق عليها"تنويع سلة الخيارات"، كان الخروج من حقبة"الخنادق الإقليمية"التي كانت ترتبط لدى مطبخ القرار بتوقع مواجهة كبيرة على خلفية البرنامج النووي الإيراني، وهو ما لم يحدث في مرحلة بوش، فأراد مطبخ القرار الخروج من كلفة تلك المرحلة واستحقاقاتها بدلاً من دفعها مجاناً، إلى حين تجلي صورة المشهد الإقليمي مع الإدارة الأميركية الجديدة. لم تحدث المراجعات الأردنية من فراغ، فقد بنيت على فرضيات صحيحة وقراءة دقيقة للمرحلة الانتقالية ضبابية بين إدارتين أميركيتين، بل تمكن الأردن من القيام بالاستدارة المطلوبة بهدوء وبسرعة شديدة. ما كان خارج حسابات المطبخ الأردني أنّ إسرائيل قامت بقلب المعادلة الإقليمية مرة أخرى بالعدوان على غزة، وأعادت الروح لسياسات التخندق الإقليمي، بصورة أكثر حدية من المرحلة السابقة. وعلى رغم أن الأردن كان يتوقع الهجوم الإسرائيلي على غزة، إلاّ أنه لم يكن يدرك انه سيكون هذا حجمه ولا درجة عنفه. وعلى الأغلب أن"مطبخ القرار"ميّز بين ثلاثة سياقات في السياسات الأردنية في التعامل مع التداعيات"السياق الأول وهو الشعبي، وكان التوجه الواضح بفتح المجال لكافة أشكال التعبير وعدم نقل الكرة الملتهبة إلى الملعب الأردني، أما السياق الثاني فهو الديبلوماسي وتمثل بالتركيز على إنهاء العدوان وتجنب التلاوم مع حركة حماس، بينما ركز السياق الثالث على تسليط الضوء على الجانب الإنساني والمساهمة في تخفيف المعاناة عن سكان القطاع. النجاح الأردني كان بادياً، أثناء العدوان، في تحسين الصورة الإعلامية عن الأردن، التي تضررت خلال السنوات الأخيرة، وفي تجنب الأزمة الداخلية مع عدم الانجرار وراء هتافات الشارع ومطالب المعارضة، إلاّ أنّ الفجوة بين هذا التموضع وبين معسكر الاعتدال العربي كانت واضحة. وإن لم تكن هنالك معلومات مؤكدة، بقدر ما توجد تسريبات وتحليلات، حول رسائل استفهام وضيق من الحلفاء والأصدقاء العرب من الصورة الأردنية الجديدة، إلاّ أنّ المؤشرات العديدة تؤكد أن هنالك مسافة بدت بين الموقفين الأردني والمصري تحديداً. هذا الاختلاف برز في البداية، إلاّ أنّ مطبخ القرار عمل على ردمه سريعاً، وإرسال برقيات عالية الأهمية للجانب المصري وكذلك للسلطة الفلسطينية ولدول الاعتدال العربي بأنّ الأردن لا يزال على"خط الاعتدال"، وأنّ"مشهد الشارع"لا يعكس بالضرورة تحولاً في المواقف الاستراتيجية بقدر ما يعكس درجة كبيرة من الحساسية يمنحها صانع القرار للمعادلة الداخلية وللصورة الإعلامية. الموقف من قمة الدوحة مثّل الرسالة الأبرز، وقد حدد المطبخ السياسي موقعه بوضوح بلا لبس، وهو ما يؤشر أنّ العدوان على غزة كان في الوقت نفسه إيذاناً بنهاية مرحلة المراجعات الجديدة والعودة إلى الرهانات القديمة، فهي وإن لم تلبِّ طموح صانع القرار فإنّها أقل مجازفة وأكثر أماناً. * كاتب أردني. نشر في العدد: 16728 ت.م: 21-01-2009 ص: 26 ط: الرياض