أربعة أيام إلى اليوم التاريخي عندما يقف الشاب الأسود الوسيم أمام العالم ليقسم اليمين بكامل اسمه، باراك حسين أوباما، الرئيس ال44 للولايات المتحدة الأميركية. أربعة ايام، لربما يموت فيها أربعون أو أربعمئة طفل آخر في غزة قبل موافقة إسرائيل و"حماس"والفصائل الفلسطينية الأخرى على وقف اطلاق النار. أربعة أيام إلى تلك اللحظة التي يتلهف إليها العالم وكأنها لحظة الحسم أو لحظة الخلاص أو لحظة السحر، التي ترافق تنصيب أوباما رئيس المعجزة والقدرة العملية في آن. إنما إلى تلك اللحظة، ما زالت هناك أربعة أيام أمام الذين يهرولون إلى فرض أمر واقع من نوع أو آخر قبل تولي أوباما السلطة، منهم بسياسات تجميلية، ومنهم بشد عضلات عسكرية. العالم لم يبدأ بغزة ولن ينتهي بغزة. لكن غزة ليست مجرد قطاع ممزق ولا هي"ذلك المكان"حيث سقط خلال 18 يوماً أكثر من ألف قتيل فلسطيني بينهم 315 طفلاً، وجرح أكثر من 4 آلاف. غزة اليوم موقع انقسام واستقطاب عربي وإسرائيلي وإيراني وتركي، وقد اصبحت تشكل منعطفاً مهماً في مصير موازين المنطقة وخياراتها. إنها أيضاً تُستخدم - وبكلفة مدنية باهظة - مكاناً لجذب انتباه الرئيس الأميركي المنتخب كي يُعجب بطرف، أو انذار من طرف آخر في رسالة فحواها أن أياديه تبقى مربوطة، وأن القرارات تأتي بما يُملى على الساحة. وما يحدث في خضم المبادرات والزيارات والاجتماعات، ليس مجرد صراع الأمم وصراع القمم، وإنما ينطوي على معارك جذرية بين قوى الاعتدال وقوى الممانعة والقوى التي تريد امتلاك مفاتيح التأثير في قوى التطرف لتقول لواشنطن بالذات إنها العنوان الأهم لها في المنطقة في عهد باراك أوباما. ولأن الرئيس الجديد سيضطر إلى التعاطي مع منطقة الشرق الأوسط بكل تعقيداتها، لعل أفضل ما يمكن أن ينطلق به في هذا الصدد هو ايضاح"التغيير"الذي اصبح يقترن به وبوعوده بدءاً بايضاح أسس وهوامش انخراط الإدارة المقبلة مع محور إيران - سورية -"حماس"-"حزب الله"، وبجانبه قطر وإلى حد أدنى تركيا، اللتين تريدان الحفاظ على علاقاتهما بهذا المحور كل لأسبابه. عليه ايضاً ايضاح نوعية الشراكة التي يتوخاها مع صفوف الاعتدال التي تضم أمثال المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودولة الإمارات والمغرب والسلطة الفلسطينية. وبين أفضل خدمة للولايات المتحدة وللعالم ليت الرئيس الجديد يقدم تصوراً لكيفية التوفيق بين ما تقتضيه المصلحة الوطنية الأميركية، وبين ما تفرضه إسرائيل كأمر واقع على حساب المصلحة الأميركية في المنطقة. الرئيس المنتخب كان محقاً في رفض الانجرار إلى أحداث غزة بإصراره على أن في أميركا رئيساً واحداً في آن واحد. فلا داع له إلى الاسراع للانزلاق في الدهاليز الشرق أوسطية التي تنتظره على أي حال. إنما، بالتأكيد، لم يغلق أوباما نفسه وراء أبواب حديدية، وبالتأكيد إنه شاهد مآسي العمليات العسكرية في غزة وكيف دفع المدنيون، رجالاً ونساء وأطفالاً، ثمنها. ولا شك أنه تقطّع قلبه قليلاً لدى مشاهدة صور الأطفال بأشلاء مقطعة وبأجساد نصف مدفونة في الركام. وهذا لا بد أن يترك أثره على قرارات الرئيس الآتي إلى البيت الأبيض، لا سيما إذا وصل إليه قبل اتفاق الأطراف على وقف النار، علماً بأن الإطالة في رفض الالتزام بوقف النار إلى ذلك الموعد مستبعدة. باراك أوباما لن يلقي اللوم حصراً على إسرائيل مهما أفرطت في استخدام القوة العسكرية، على رغم أن عدد الضحايا الفلسطينيين من قتلى وجرحى فاق خمسة آلاف، فيما ضحايا اسرائيل نتيجة صواريخ"حماس"وصل إلى 15 شخصاً. إذا لامها فإنه سيلوم بالقدر نفسه"حماس"أولاً، لأنها بادرت إلى إعلان انتهاء"التهدئة"، وثانياً لأن اختباء المسلحين في مواقع المدنيين ساهم في قتل الأطفال والنساء والرجال. قد يعارض استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض الذي يحرق الناس، وقد يوافق مع منظمة"هيومان رايتس واتش"لمراقبة خروقات حقوق الإنسان في مطالبتها إسرائيل احترام التزاماتها بموجب القانون الدولي، لكنه قد لا يتبنى الدعوات الصادرة من"مجلس حقوق الإنسان"في جنيف لايفاد فرق للبحث عن الحقيقة لإثبات خروقات إسرائيل للقانون الدولي في عملياتها في غزة. السبب يعود إلى العلاقة الأميركية - الإسرائيلية ذات الطيّات المتعددة والعمق النوعي والراضخة لضغوط مرئية وباطنية. وكل من يعتقد أن الرئيس الجديد سيمزق العلاقة الأميركية - الإسرائيلية يجهل خلفيات ومقتضيات تلك العلاقة. واقع الأمر أن لا حاجة بباراك أوباما إلى اختراع علاقة جديدة للولايات المتحدة مع إسرائيل ولا إلى التخلي عن علاقة التحالف معها. كل ما عليه أن يقوم به هو تطبيق المبادئ الأساسية وأعراف العلاقات الثنائية بين الولاياتالمتحدة وأكثر الدول الأخرى أهمية لها. كل ما عليه ان يفكر به من"تغيير"هو أن يكون الدعم الأميركي لإسرائيل مبنياً على احترام إسرائيل للمصلحة الأميركية الوطنية. وهذا مهم جداً في هذا المنعطف لأن التوقعات من أوباما هي أن يكون، على الأقل، واعياً وعادلاً وصادقاً وجريئاً على التغيير الايجابي. فإذا أوحى بجديد من هذا القبيل عبر التأكيد على أن لا تراجع عن علاقة التحالف مع إسرائيل إنما بدعم أميركي مشروط لها، يبعث رسالة مهمة إلى الجميع تردع عن المغامرات البائسة وتبلغ الجميع ان رجلاً جديداً وصل إلى الحكم في الولاياتالمتحدة. أما إذا أحاط الرئيس الجديد نفسه بالفريق القديم الذي انصب على مجرد"إدارة"الأزمات و"إدارة"عملية السلام، فإنه سينتهي بمفاجآت قد لا يمكن له أو فريقه أن ينجح في"إدارتها". ولذلك، هو ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، مطالبان بألا ينسخا ما فعله فريق الرئيس السابق بيل كلينتون، حتى وإن قررا تسليم هذا الفريق ملف الشرق الاوسط. وقد يكون في مصلحة أوباما وهيلاري كلينتون أن يفكرا بأميركيين عرب ليسوا من أنواع التمركز من أجل المنصب وإنما من الجريئين على طرح الحقائق على الطاولة. هذه الحقائق ليست من نوع واحد ولا هي"حقائق دائمة". فالمنطقة تتغير والناس تتغير. صحيح ان المستشارين الأميركيين العرب قالوا للرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش ونائبه ديك تشيني: لا تبال بالشارع العربي، فهو عملاق نائم لن يستيقظ، فلا تخف استفاقته عند غزو العراق واحتلاله. وصحيح أن التاريخ أثبت انهم كانوا على حق لأن الرأي العام العربي كان يحتج على الحرب قبل وقوعها لفظياً فقط، ولم يخرج إلى الشارع لا قبل الحرب ولا خلالها ولا بعدها بما يخيف صنّاع القرار أينما كانوا. إنما الأمر أكثر تعقيداً من مجرد مراقبة التظاهرات الشعبية. فما يحدث من انقسام ومعارك استقطاب للاعتدال أو عكسه يحدث على مستوى قيادات دول تملك الأموال الباهظة والجاهزة للاستثمار، إما في قوى التطرف أو الاعتدال أو للتلاعب على أوتار التنافس والتصادم بين التطرف والاعتدال. أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني جدد للمرة الرابعة خلال أسبوعين دعوته إلى عقد قمة عربية طارئة لاستصدار قرارات بشأن غزة، من بينها"تعليق مبادرة السلام العربية ووقف كل اشكال التطبيع مع إسرائيل وإقامة جسر بحري تشارك فيه الدول العربية لنقل ما تحتاجه غزة من مساعدات"، بحسب قوله أمس. قال ذلك مستهجناً عدم اكتمال النصاب القانوني لانعقاد القمة الطارئة التي دعا إلى عقدها في الدوحة اليوم الجمعة. قطر لها أعمق علاقات تجارية مع إسرائيل على رغم أن لا سلام بينهما كما بين مصر والأردن بموجب اتفاقات سلام رسمية. القادة الإسرائيليون زاروا قطر، والعكس حصل ايضاً. قطر الغنية جداً لها ايضاً علاقات عميقة مع"حماس"و"حزب الله"وسورية وإيران، وهي تود أن تكون في موقع القيادة عربياً وراعية لمصالحات واتفاقيات واتفاقات رسمية وغير رسمية. قطر تستمتع بلعب هذا الدور وتعتبر نفسها بارعة في الجمع بين استضافة أكبر قاعدة عسكرية أميركية وأكثر المحطات التلفزيونية تحريضاً للشارع العربي وأفضل العلاقات التجارية مع إسرائيل، وأحسن العلاقات مع سورية وإيران و"حماس"و"حزب الله". ولأنها غنية وسخية وغير اعتيادية في تحالفاتها وسياساتها، قد تكون قطر مؤذية بقدر ما يمكن أن تكون مفيدة. العلاقات بين القيادتين في المملكة العربية السعودية وقطر تحسنت بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة وسط دعوات أن يكون الصلح بينهما مدخل خير لطي صفحات المنافسة أو الخلاف. أحداث غزة يبدو أنها أوقفت مسيرة التوافق، وهذا مؤسف ومهم، إنما المشكلة الرئيسية تكمن في رئاسة سورية للقمة العربية. المملكة العربية السعودية قادت جهداً في مقر الأممالمتحدة لاستصدار قرار المجلس الأمن الدولي دعا إلى وقف النار وانسحاب اسرائيل وإلى وسيلة مراقبة لوقف النار والمعابر وإلى مصالحة فلسطينية وطنية، وإلى احياء العمل الفعلي من أجل حل الدولتين. مشكلة الديبلوماسية السعودية، على رغم براعتها وتأثيرها وتركيز تحركها على مستوى وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، هي أن اعضاء الوفود السعودية يمارسون نمطاً من السرية ما يحجب عن الناس ما تقوم به الديبلوماسية السعودية فعلاً. ببالغ البساطة والتبسيط، واقع الأمر هو التالي: ان معسكر الاعتدال يعرف تماماً ان الداعين الى خيار مقاومة الاحتلال والتفاوض السلمي مع اسرائيل ولحل الدولتين، انما يبيعون الشعب الفلسطيني كلاماً فارغاً. فيما تدير سورية"منطق المقاومة"حتى آخر فلسطيني وباستخدام الفصائل الفلسطينية في فلسطين ولبنان لتحويل الأنظار الشعبية الى مجرد هتافات مع"المقاومة". في ذهنها التظاهر في الشارع العربي في حوزتها، وانها تتصرف بمسوؤلية في عدم فتح الجبهة مع اسرائيل، وذلك كي يعتمدها أوباما كالعنوان الأهم والأكثر فعالية له في سياساته نحو فلسطينوالعراق ولبنان. وتلقى سورية في ذلك دعم قطروتركيا واسرائيل، وكذلك عدداً من الذين يتمركزون لنيل مناصب مهمة في إدارة أوباما. الأمر عائد الى الرئيس باراك أوباما ليقرر اذا كانت دمشق تستحق المكافأة على سياسة الترغيب والتهديد، أو اذا كان خطابه معها يجب ان ينطلق من"كفى"، كفى استخدام الدول المجاورة والشعب الراضخ تحت الاحتلال أدوات في مقولة منطق المقاومة بموازاة منطق المفاوضات. الأمر عائد الى اوباما ليقرر مدى ما سيسمح لنفسه بأن يفهمه ويراقبه شخصياً لجهة ما تريده اسرائيل حقاً وماذا ستفعل من أجل تحقيق ما تريده. فإذا كانت تريد حقاً السلام، فإن حل الدولتين أمامها ويجب على الرئيس المقبل دفعها اليه بحزم وبجرأة. أما إذا كان الخيار هو الاردن كوطن بديل كي تقوم بالتنظيف العرقي وانشاء دولة يهودية محضة في اسرائيل، فالأمر عائد الى أوباما ليقول لنا ان كان يرضى أو يعارض حقاً حدوث ذلك في عهده. ان غزة نافذة الى واقع مؤلم لن ينتهي ما لم تتم انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة لأن المصالحة الفلسطينية لا تبدو على الأفق لا سيما ان اللاعبين الاقليميين يشجعون"حماس"ضدها. اسرائيل لن تنتصر في غزة وكذلك"حماس"لن تنتصر كي ترضيا بمخرج مؤقت، انما الحل الحقيقي أو التصعيد سيرثه باراك أوباما، شاء ذلك أم أبى. نشر في العدد: 16723 ت.م: 2009-01-16 ص: 15 ط: الرياض