تنشر"الحياة"مقاطع من كتاب DANGER AND OPPORTUNITY"الخطر والفرصة"للديبلوماسي الأميركي ادوارد دجيرجيان الذي عمل في سفارة بلاده في بيروت، وكان سفيراً في دمشق ثم في تل أبيب في عهدي حافظ الأسد واسحق رابين، قبل أن يتولى مسؤوليات في وزارة الخارجية تتعلق بالشأن العراقي وسائر شؤون الشرق الأوسط. هنا حلقة خامسة: توفي الرئيس حافظ الأسد عام 2000 وخلفه ابنه الرئيس بشار الأسد. التقيت بشار مرة في إحدى المناسبات في دمشق وكان صغياً ونشطاً ومتعلماً ويتحدث بإيقاع متقطع. وهو نجح في تدعيم وضعيته عقب موت أبيه مباشرة ويبدو أنه تخطى التبعات السياسية التي تمخض عنها انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005. وفي مناقشاتي مع المؤسسة الإسرائيلية وقادتها فهمت أن لديهم شعوراً بنجاحه في تخطّي العديد من التحديات السياسية، إذ كان ولا يزال يسيطر على الأمور في البلاد. في كانون الثاني يناير 2002 تقدمت إلى الرئيس بشار الأسد باقتراح لبدء حوار أميركي - سوري في رعاية معهد بيكر في جامعة رايس، حيث إنني وددت تأسيس حوار بين الموظفين الرسميين السابقين والحاليين في البلدين، فضلاً عن أكاديميين وممثلين للقطاع العام والخاص. وكنت أعتقد دوماً أن الأجواء غير الرسمية توفر جواً ملائماً لاكتشاف أصعب القضايا في العلاقات بين الخصوم والأعداء وللتحاور معهم بصراحة. وأيقنت أن التوقيت كان مناسباً لإسداء النصح لحكومتينا بالنسبة الى مشاوراتنا ومداولاتنا والكيفية التي يمكننا بها حسم خلافاتنا. وافق الأسد على الترخيص للمشاركين من السوريين في الانخراط بكل حرية في هذا الشكل من الحوار. وكانت هناك مقابلات في كل من هيوستن ودمشق. عقدت الجولة الأولى من الحوار في معهد بيكر من 20 إلى 22 أيار مايو 2002. وعلى رغم بعض العقبات البيروقراطية من الجانب السوري، إلا أن حوارنا كانت بدايته جيّدة، وكانت هناك عروض افتتاحية لجوانب العلاقات والمشاكل، وكانت كلها بناءة، من جانب وزير الخارجية بيكر والسيناتور أرلين سبكتر عن ولاية بنسلفانيا ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى وليم بيرنز ونائب وزير الخارجية السوري وليد المعلم. كان تبادل الأحاديث والأفكار بين أعضاء مجموعة العمل السورية - الأميركية والتي تناولت العلاقات الثنائية وموضوع الإرهاب، يتم بأسلوب مباشر لا يكتنفه أي جدل عنيف. وعلى رغم أن الفوارق في التعريفات بين ما يطلق عليه المقاومة ضد دولة محتلة وماهية الإرهاب على سبيل المثال، إلا أن مناقشتنا المفصلة بالنسبة الى الأسلوب الذي يجب أن نتبناه في منأى عن هذه التعريفات، وبناءً على تبادلنا للمعلومات الاستخباراتية الحالية والتعاون الحالي بين الدولتين في ما يخص تنظيم القاعدة والمجموعات الإرهابية الأخرى، كان ذلك يتم في جو من التفهم التام. وكان للتصريحات العامة التي كانت إدارة بوش تطلقها بخصوص التعاون في هذا المجال الاستخباري أثر كبير في إنقاذ حياة عدد من الأميركيين وخدمة المصالح الأميركية. هذه التصريحات لقيت تقبّلاً من الطرف السوري. وفي الوقت نفسه علقت الإدارة"بأن المزيد من التعاون نتوقعه من سورية"بخصوص جماعات مثل"حزب الله"و"حماس"و"الجهاد الإسلامي"والتنظيمات الفلسطينية الجهادية الأخرى، وأدى ذلك إلى الكثير من المناقشات المرتبطة بهذه القضايا. أما بالنسبة الى المفاوضات العربية - الإسرائيلية، فقدم وليد المعلم تاريخ التفاوض على المسار السوري بدءاً من مؤتمر مدريد الذي وفر لنا الكثير من التبصر من وجهة النظر السورية وما تم إنجازه وضياع الفرص في التوصل إلى اتفاق. وكان هناك إجماع بالنسبة الى 80 في المئة من القضايا الرئيسية المتعلقة بالأرض والسلام والأمن والمياه والتي تم التعامل معها في المفاوضات السابقة، ومن ثم فإنّ المفاوضات يمكن لها أن تستأنف من حيث انتهت بحضور الأطراف المعنية إذا توافرت الإرادة السياسية لذلك. وكرر المشاركون السوريون على نحو مضجر أحياناً التزامهم المفاوضات مع إسرائيل والمبنية على إرث المفاوضات السابقة والمتضمنة وديعة رابين التي تنص على الانسحاب إلى الخطوط الرابع من حزيران يونيو 1967. أما فريق ممثلي القطاع الخاص الذي ناقش القضايا المتعلقة بالتجارة والاقتصاد فركّز على الحاجة الملحة للإصلاحات الاقتصادية وتحديث وتبسيط البيروقراطية في سورية، ووضع كل من القطاع العام والخاص على قدم المساواة للدفع بالاقتصاد السوري إلى الأمام. ولقد كانت شكوى الوفد السوري قوية من العقوبات التي تفرضها الولاياتالمتحدة على بلده، أما بالنسبة الى الطريق المختص بالحوار الثقافي والصحافة والإعلام، فركزت المناقشات على ما يمكن أن يقوم به الطرفان لتحسين الاتصالات بين البلدين على كل المستويات، مع التأكيد على التبادل الطلابي والأكاديمي. وفي لقاء على انفراد سأل أحد أعضاء الجانب السوري عما يمكن فعله لتحسين التمثيل الديبلوماسي وزيادة فعاليته في واشنطن. نظرت إلى الدكتور عماد مصطفى وهو واحد من التكنوقراطيين الشباب عبر المائدة التي نتجاذب أطراف الحديث حولها، وأخبرت وليد المعلم أنه يتوجب عليهم أن يختاروا شخصاً مثل الدكتور مصطفى الذي يتسم بالذكاء والديناميكية والطلاقة في اللغة الإنكليزية لتمثيل سورية. وفي وقت لاحق، اختار بشار الأسد الدكتور مصطفى وعيّنه سفيراً لسورية في واشنطن. وعقب ذلك كان الدكتور مصطفى يعتبر أنني والرئيس بشار عيّناه سفيراً لدمشق. عقدنا الجولة الثانية من الحوار الأميركي - السوري في دمشق في كانون الثاني يناير 2003، وكان ذلك قبل شهرين من حرب الولاياتالمتحدة على العراق. كان وفدنا يتكون من 22 شخصاً وكان لدى السوريين عدد مماثل من القطاعين العام والخاص ومن الأكاديميين. تكوّن لديّ انطباع عام من هذه الاجتماعات بأن السوريين استمروا في تعليق أهمية كبيرة على علاقاتهم مع الولاياتالمتحدة. وبالنسبة الى قضية الإرهاب سألنا السوريين عما إذا كانوا يدركون ما يريدون فعله لحذف سورية من قائمة الدول الإرهابية وما إذا كانوا يرغبون في الدخول في مفاوضات حقيقية وجادة حتى النهاية. وبالرجوع إلى اجتماعنا الأول في هيوستن حيث أوضح السوريون لنا الفرق بين"المقاومة"و"الإرهاب"ووجوب التمييز بينهما، أردف أحد أعضاء الوفد السوري معلقاً ومعبراً عن الحق الشرعي للشعوب المحتلة في أن تقاوم الاحتلال وأن هذا العمل شرعي عندما تكون هناك هجمات على المدنيين العزل، وأنه من المستحيل على الولاياتالمتحدة أن تتغاضى عن دعم منظمة من المنظمات للسبب الأول عندما تقوم المنظمة نفسها بعمل الشيء الثاني. وأكد هذا العضو أن الأساس في الأمر هو أن الهجمات الإرهابية التي تقوم بها فصائل أو منظمات لا تتبع الدولة ضد المدنيين الأبرياء هي أعمال إرهابية، وهو أمر غير مقبول من جانب الولاياتالمتحدة. كانت هذه نقطة هامة أثيرت لاختراق الجدل حول ما نسميه"التعريفات". وعندما جرى التركيز على"حزب الله"والجماعات الفلسطينية في سورية مثل"حماس"و"الجهاد الإسلامي"و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة"، كرر السوريون قولهم إن سورية تستضيف 400000 فلسطيني لم تتم دعوتهم وأنهم يشكلون عبئاً اقتصادياً على البلاد. وكانت مجادلتهم تدور حول قوة العلاقات بين السوريين والفلسطينيين وتاريخها وأن كسر شوكتهم ليس أمراً سهلاً من الناحية السياسية. أعطى حافظ الأسد عام 1978 توجيهات بألا يتم شن أية هجمات أو عمليات من الأراضي السورية. ولهذا السبب أمرت الحكومة السورية أبو نضال بمغادرة سورية بعد أن طلب ذلك جيمي كارتر. وكرر المعلم القول إن أي شاهد يشير إلى أن عملية قد يخطط لها من الأراضي السورية سيتم التعامل معها، ونحن ننصت إليكم بعناية. أما بالنسبة الى الفرص والآمال المعقودة على المفاوضات بين السوريين والإسرائيليين، فلقد دأب السوريون على تكرار عبارة"الخيار الاستراتيجي للسلام. تذكرت في هذا السياق بأن الأسد قال لي مرة عندما كنت أتحدث معه لحضه على إبداء حسن النية تجاه إسرائيل:"أنتم أيها الأميركيون تدفعوننا دائماً إلى المغازلة والعناق قبل حفل الزفاف". وكان السوريون يرون أنهم انخرطوا مع الإسرائيليين بأسلوب يحقق المتطلبات اللازمة للتفاوض، وكانوا ينتقدون دائماً الولاياتالمتحدة لعجزها عن التقدم بمقترحات واقعية ملموسة لتضييق الفجوة بين الطرفين وذلك أثناء حكم إدارة كلينتون. كما أنهم كرروا القول إن الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلت في الرابع من حزيران يونيو 1967 هو أمر ضروري ولا بدّ منه، وكانوا يشيرون دائماً إلى وديعة رابين في آب أغسطس 1993. أما بالنسبة الى العلاقات الثنائية، فكان قانون المحاسبة الذي يقضي بفرض العقوبات يلوح في الأفق بدرجة كبيرة، على خلفية ما قدم الوفد السوري من اقتراحات. وأجبنا على كل الأسئلة التي طرحت وكان ذلك بلسان مجموعة من الأميركيين يعملون في القطاع الخاص. ومارسنا ضغوطاً على السوريين، للحاجة الماسة الى الإسراع في وتيرة الإصلاحات الاقتصادية، وأكدنا على التوقيت والتسلسل اللازمين لإصلاحات السوق، علاوة على التصدي للإجراءات التي يجب أن تتخذ لمحاربة الفساد. كلّ هذه الأمور أساسية، إذ أريد للاستثمار الأجنبي أن يكون ذا معنى، إلا أننا أصبنا بخيبة أمل عند اكتشافنا درجة الحذر الشديد التي أبداها السوريون في تأييدهم للإصلاحات في دمشق قياساً بما أبدوه من حماسة لهذه الإصلاحات في هيوستن، إذ ربما كانوا يشعرون بالقيود المفروضة على أفكارهم وآرائهم في دمشق مقارنة بهيوستن. بشار الأسد قابلت الرئيس بشار الأسد مرة أخرى في آب أغسطس 2003 في دمشق، وأشرت إلى العمل الذي كنت أقوم به في المنطقة كرئيس للجنة الاستشارية المفوضة من الكونغرس والتي يُستشار أعضاؤها بالنسبة الى سياسة الولاياتالمتحدة العامة في العالم العربي والإسلامي. وعلق الأسد على كلامي قائلاً"إن مبادرة الديبلوماسية العامة أمر في غاية الأهمية، وأكد أنها تخص كلاً من الطرف السوري والطرف الأميركي". ليس من المستحسن أن تقدم الولاياتالمتحدة على تفسير القيم والسياسات الأميركية من دون الوعي والفهم الأكبر للعالم الذي تتعامل معه. ويتوجب على الولاياتالمتحدة أن تبذل مجهوداً لفهم الجمهور الأجنبي الذي تسعى إلى التواصل معه وإيصال رسائلها بطريقة يفهمها هذا الجمهور. واختتم الأسد كلامه بالقول:"إن السياسة العامة للولايات المتحدة تواجه تحدياً حقيقياً وذلك للتصور السائد بأن هناك ضرورة في تنفيذ تلك السياسات وقيم ومصالح الشعب الأميركي. إني منبهر ومعجب بتطور المجتمع الأميركي وبعلومه وتكنولوجياته والكثير من الأمور، إلا أن السلوك الأميركي وتصرفات الساسة أديا إلى كثير من المشاكل". وساق الأسد مثالاً على ما يقول مشيراً إلى سياسة الولاياتالمتحدة في العراق وأثر هذه السياسة في العلاقات الأميركية - السورية. علقت قائلاً:"أعرف أن الرئيس الأسد يتلقى النصائح من مستشاريه والتي تفيد بالانتظار والتريث توقعاً لفشل سياسات أميركا في العراق والسياق الإسرائيلي - العربي. كما نصحوه أيضاً أنه يتوجب عليه أن يختار الانخراط مع الولاياتالمتحدة بالنظر إلى الموقف الاستراتيجي في المنطقة. فكل من الولاياتالمتحدة وسورية لهما مصالح مشتركة كما ثبت في الماضي عندما قمنا بما قمنا به في إنهاء الحرب الأهلية في لبنان، وتعاوننا السياسي والعسكري وإطلاق سراح الرهائن الأميركيين في لبنان، إضافة إلى التعاون ضد"القاعدة"وأخيراً الاستثمار الأميركي المحتمل في سورية للدفع بالاقتصاد السوري، وفي النهاية التسوية الشاملة بين إسرائيل وسورية". استرسل الأسد في تأملاته وأفكاره بالنسبة الى العراق وقال:"لا نظن أن الولاياتالمتحدة ستنسحب من العراق مبكراً". والسياسة السورية تجاه العراق هي سياسة واقعيّة"فنحن لا نعيش على التوقعات. فنظرتي إلى الولاياتالمتحدةوالعراق تكون من خلال مصالح سورية والعراق معاً. ونحن في حاجة إلى رؤية، إلا أنه ليس هناك أمر واضح الآن والجو يتسم بالضبابية، ومن ثم فنحن في حاجة إلى الأمل والطريق الواضح. وعلق الأسد قائلاً:"هناك فراغ سياسي في العراق الآن، ومن ثم سيكون من الخطأ اتخاذ أي قرار يتعلق بالعراق عندما تكون الأحوال والظروف من دون أهمية عملية"وعلى أي حال فنحن لا ننتظر من الولاياتالمتحدة أن تفشل أو تنجح في العراق. لدينا علاقة طويلة الأمد مع العراق ولدينا وجهة نظرنا، وعلى الجانب الأميركي أن يبذل جهداً لفهم من أين نجيء". أما بخصوص ال500 كيلومتر من الحدود مع العراق فلقد كرر قوله:"ليس لدى سورية القدرة على السيطرة تماماً على الحدود كافة، إلا أنني طالبت ببذل أقصى الجهد لتأكيد السيادة السورية على الحدود والسيطرة عليها في هذا الوقت الحرج". ثم أضاف الأسد أن سورية تسيطر على حدودها في واقع الأمر بما يشمل المخافر ونقاط التفتيش"إلا أن عمليات التهريب على طول الحدود لا يمكن ضبطها والسيطرة عليها، وأن على الولاياتالمتحدة وبحضورها في العراق أن تلعب دورها في السيطرة على الحدود من خلال الأعداد الهائلة من القوات الموجودة. ثم تطوع الأسد وقام بطرد عدد من أتباع صدام حسين من سورية، بمن فيهم عدي وقصي، الذين أتوا للاحتماء في أنحاء البلاد، ثم أردف مختتماً حديثه:"لن ننسى الدور الذي لعبه العراقيون في الثمانينات عندما قاموا بدعم انتفاضة الإخوان المسلمين في سورية ضد نظام الحكم". ثم أشار إلى تعاون سورية مع الولاياتالمتحدة بالنسبة الى تنظيم"القاعدة"الذي استمر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر. كانت الاجتماعات أقل من ذي قبل إلا أن استمرار هذا التعاون كان ملحوظاً. ثم قال إن لدى سورية الخبرة في التعامل مع المتطرفين الإسلاميين والإرهاب، ولا بد للولايات المتحدة أن تقدر الخبرة التي يمكن أن تقدمها سورية في هذا المجال. سألت الأسد عما إذ كان قد أغلق بالفعل مكاتب حماس في دمشق كما طلبت منه الولاياتالمتحدة ودول أخرى، أو ما إذا كان تم نقلها إلى مكان آخر؟ أجاب الأسد:"سنغلق هذه المكاتب لكننا لن نطرد أتباع هذه المجموعات من سورية فمن دونهم لا يمكننا أن نحصل على وقف لإطلاق النار في الأراضي الفلسطينية". وأردف قائلاً إن المكاتب تم إغلاقها، إلا أنه يتوجب على الولاياتالمتحدة فهم أنه طالما بقي الجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي فإن ما يمكن أن يفعله السوريون أمر محدود في المكان والزمان. وبالإشارة إلى الفرص المتاحة بالنسبة إلى محادثات السلام السورية - الإسرائيلية، قلت:"إني أفترض أن التزام الأسد السلام هو خيار استراتيجي لسورية وما زال هذا الخيار قائماً وأن موقف سورية يتلخص في العودة إلى بدء المفاوضات من حيث انتهت". وأكد الأسد أن التزامه ما زال قائماً وهو التزام ثابت ومحدد وذلك من منطلق الخيار ببدء المفاوضات مرة أخرى من حيث انتهت إليه. وجدت أن هذا الموقف يتسم بالمهارة، وكان الأسد يصر دوماً على ذلك عندما انقطعت المفاوضات بناءً على مطلب السوريين، والآن فهو خيار مهم ويتسم أيضاً بالمرونة. دمشق 2005 زرت دمشق مرة أخرى في كانون الثاني يناير 2005 وقابلت بشار الأسد، وراجعت الكثير من القضايا التي ناقشناها في اجتماعاتنا السابقة، فقد أصبحت العلاقات السورية - الأميركية جادة. وكانت واشنطن عانت الإحباط، على وجه الخصوص بالنسبة الى عدم استجابة سورية مطالبها بفرض سيطرتها على الحدود العراقية - السورية، حيث كان المحاربون الأجانب يعبرونها إلى العراق للالتحاق ب"القاعدة في أرض الرافدين"، علاوة على تدفق البعثيين العراقيين والقادة المنفيين الذين اختلفوا مع صدام حسين ولجأوا إلى سورية لسنوات واستمروا في مساعدة أهل السنة وتحريضهم على التمرد ومدهم بالدعم المادي والمالي. ولقد أمدت واشنطن السوريين بقائمة أسماء بعض الأفراد الأكثر نشاطاً ودعماً للمتمردين وطالبت بإيقاف نشاطهم على الأراضي السورية وترحيلهم وتسليمهم للسلطات العراقية. سألت الأسد عما إذ كان يخطط لاتخاذ إجراءات ضدهم، فاسترسل في حديث مطول عن مطالب الإدارة الأميركية ومعارضتها سورية. ثم ذكر في معرض حديثه عن الحاجة إلى مناظير ليلية كانت سورية طالبت الولاياتالمتحدة تزويدها إياها للمساعدة في حراسة الحدود ولم تتسلمها سورية على الإطلاق. ثم بدأ يظهر تذمره من الولاياتالمتحدة لعدم توفير فرق فنية من وزارة الخزانة الأميركية لتساعد السوريين على مراقبة التدفقات المالية التي تصل إلى المتمردين، ثم قال إن المعلومات التي زودتها الولاياتالمتحدة لسورية عن المنفيين العراقيين في سورية كانت في أغلب الأحيان غير صحيحة وغير كاملة. وعند مغادرتي دمشق كان يساورني الشعور بأن العلاقات الثنائية بين الولاياتالمتحدة وسورية آخذة في التدهور. وفي الشهر التالي وبالتحديد في 14 شباط فبراير 2005، اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في بيروت، وكان أصبع الاتهام موجهاً مباشرة إلى سورية، ومن ثم قررت أن حوار معهد بيكر السوري - الأميركي يحتاج إلى فترة من الراحة، فالطريق إلى الأمام أصبح ملغماً بالصعاب والمشاكل. وفي العام الذي تلاه التقيت أنا وبيكر وليد المعلم وزير الدولة للشؤون الخارجية السورية ومعه عماد مصطفى في مدينة نيويورك، كجزء من أعمال المجموعة العراقية لدراسة الأوضاع. وافتتح بيكر النقاش موضحاً مهمة هذه المجموعة وولايتها، وذلك بهدف إلقاء نظرة على الوضع في العراق واتخاذ التوصيات ورفعها إلى الكونغرس والإدارة. ثم روى كيف أصبحت سورية عضواً في تحالف مع الولاياتالمتحدة عام 1990 في حملة"عاصفة الصحراء". وكان الرئيس حافظ الأسد يثق بنا وكانت حساباته الاستراتيجية صائبة حيث استفادت الولاياتالمتحدة وسورية وإسرائيل من قرار انضمامه إلى التحالف الذي أفاد أيضاً المنطقة برمتها، من ثم فنحن في حاجة إلى منحى استراتيجي نسلكه تجاه المنطقة، وإذا كانت هناك فوضى في العراق فسيكون الأمر عسيراً بالنسبة لسورية والمنطقة. كان رد المعلم على هذه التوضيحات للمواقف التي أشرت إليها بالقول إنّ سورية على استعداد لاستعادة الحوار مع الولاياتالمتحدة إذا قررت الإدارة الأميركية الانخراط معها في هذا الحوار عوضاً عن سياستها التي تهدف إلى عزل سورية، وهو يعتقد أن الولاياتالمتحدة في حاجة إلى فتح صفحة جديدة والابتعاد عن مناقشة"السياسات القديمة". وتذكر مجيئي إلى دمشق في أوائل عام 2001 قبل العمل العسكري في العراق عام 2003 وتحذيره لي بأنه في حال إقدام الولاياتالمتحدة على غزو العراق، فإن العراقيين سيعتبروننا غير صادقين. كان بيكر يسأل أسئلة واضحة عن إيران وما يمكن لسورية أن تكون على استعداد لفعله حتى يتحسن الوضع في العراقولبنان وحتى يمكن استئناف مفاوضات السلام الإسرائيلية - السورية. كانت ردود أفعال المعلم إيجابية بالنسبة الى كل القضايا الرئيسية، ولقد عكسنا هذه الحال في تقريرنا الذي أرسلناه إلى واشنطن. وفي واقع الأمر أوضحنا بالتفصيل ما يجب أن يكون عليه إطار المفاوضات والالتزامات التي يجب أن تضطلع بها كل من سورية وإسرائيل بالنسبة الى عدد من القضايا، وذلك بهدف الوصول إلى سلام إسرائيلي - سوري قابل للحياة. وأخبرنا المعلم أن سورية على استعداد لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل على أساس مؤتمر مدريد"واختتم قائلاً:"الكثير من الأعمال قد أُنجزت في السنوات العشر الأخيرة ويمكن الانتهاء منها في بضعة أشهر". وديعة رابين على رغم الكآبة التي اتسمت بها الآمال في السنوات الأخيرة، لا تزال هناك فرصة لتحقيق تسوية سلمية شاملة بين إسرائيل وسورية. وقد لاحت هذه الفرصة من خلال التقدم في المفاوضات السابقة، إضافة إلى تصور كل منهما أن الآخر قد قام بتطبيق اتفاقيات فك الارتباط بأسلوب لا تشوبه عيوب، وأخيراً من خلال تحليل كامل لمصالحهما الحالية والمستقبلية. ومن الواضح أن تحقيق أي تسوية يتطلب الإرادة السياسية القوية من جانب القيادة السياسية لكل من إسرائيل وسورية والولاياتالمتحدة. ولعل هذا من الأمور الحاسمة لمستقبل الشرق الأوسط والولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. كانت إسرائيل وسورية أقرب بكثير من الوصول إلى اتفاق في مناسبتين فريدتين آب/ أغسطس 1992 وتشرين الثاني/ نوفمبر 1995، إلا أن المفاوضات لم تستكمل للوصول إلى نهاية ناجحة. وأدت هذه المفاوضات إلى توقع عام لملامح اتفاق وكانت هذه الملامح معروفة في شكل واضح. ونتجت من المفاوضات سلسلة من"الدروس"عن الخبرة التي مر بها الطرفان على رغم أن هذه الدروس لم تكن إيجابية بالضرورة. كان ينظر إلى كل طرف من الأطراف الثلاثة إسرائيل والولاياتالمتحدة وسورية على أنّه فشل من جانبه في ما كان يجب عليه فعله بالنسبة الى القضايا الأساسية في المفاوضات"فكل طرف كان ينظر إليه بأنه طرف تنقصه الإرادة السياسية أو العزيمة. ومن الأمور التي لا تدعو الى الدهشة أن كل ما يقوله الطرف الإسرائيلي يختلف تماماً عما يقوله الطرف السوري. ومثال ذلك تفسير كل منهما لوديعة رابين"فإسرائيل تؤكد أن رابين في عام 1993 قام بإيداع شهادة فرضية وشرطية تضمنت فكرة التبادل بالانسحاب من الأراضي المحتلة في الجولان في مقابل قبول سورية متطلبات إسرائيل المتعلقة بالأمن وتطبيع العلاقات في سياق منظومة للسلام. وتضمنت هذه الصيغة جدولاً على مدى خمس سنوات وتطبيقاً مرحلياً يتسم بدرجة عالية من التطبيع الممكن من الجانب السوري مقابل انسحاب محدد للمرحلة الأولى. ومن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن تعبير رابين عن رغبته في الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967 لم يكن التزاماً مطلقاً وغير مشروط. وعلى رغم كل ذلك، فإن سورية تفسر هذا التعهد من جانب رابين كالتزام ثابت بالانسحاب الكامل إلى خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967 والتي يقول السوريون إنه تم التصريح به من خلال المتحدث الأميركي والإسرائيليين مباشرةً. وعلى رغم الاعتراف بالدور الضروري للولايات المتحدة كوسيط نزيه، إلا أن الإسرائيليين والسوريين أشاروا إلى أن الولاياتالمتحدة ارتكبت الكثير من الأخطاء أثناء المفاوضات ولم تقم بدور فعال. وتشير سورية وإسرائيل على وجه الخصوص إلى انعدام القيادة والعزم على تتبع فرص في المفاوضات في مراحل أساسية مهمة على سبيل المثال عندما صرح رابين بوديعته المذكورة أعلاه في آب/ أغسطس 1993 وتشرين الثاني/ نوفمبر 1995 عندما كان شمعون بيريز رئيساً للوزراء. فقد وصلت المباحثات إلى طريق مسدود وكذلك في آذار/ مارس 2000 في مؤتمر القمة بين كلينتون وحافظ الأسد الذي انتهى فجأة. وفي العام 2008، بعدما كفّت إدارة بوش عن لعب هذا الدور النزيه، اتّجهت أنظار كل من سورية وإسرائيل إلى تركيا، حتى تلعب هذه الأخيرة دور الوسيط. أما محادثات الكواليس الخلفية من خلال وسطاء بين سورية وإسرائيل أثناء ولاية رئيس الوزراء نتانياهو فقد أحرزت بعض التقدم، إلا أنها لم تؤد إلى نتيجة ناجحة وتركت كل جانب يشكك في نيات الجانب الآخر. ومع ذلك فقد تحقق الكثير من التقدم في المحادثات الإسرائيلية - السورية منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وبعد التفاوض على أمور أساسية كالأرض والسلام والأمن والمياه والعلاقات المتداخلة لهذه العوامل. * تصدر الترجمة العربية للكتاب أوائل الشهر المقبل عن دار الكتاب العربي في بيروت. نشر في العدد: 16723 ت.م: 2009-01-16 ص: 21 ط: الرياض