من الطرائف الفقهية التي ضمنها جلال الدين السيوطي كتابه" كوكب الروضة"موضوع إباحة إفطار الصائم المسافر في السفن ضمن فصل طريف عنوانه"ذكر المراكب والسفر"وقد أفتى السيوطي بإفطار المسافر بحراً بالسفينة، ثم انتهز المناسبة فأورد الحديث الشريف الخاص بركاب السفينة التي حاول أحدهم فتح ثقب فيها وضرورة أن يضرب المسافرون على يديه حتى لا يغرقوا جميعاً. وحول حرمة هدم المساجد وقطع الشجر المثمر والنخل يورد السيوطي في الكتاب نفسه الذي أصدرته أخيراً"الدار المصرية - اللبنانية"في القاهرة ان الملك الصالح أيوب عندما بنى القلعة في"الروضة"وهي جزيرة في وسط نهر النيل تقع جنوبالقاهرة، قطع من الموضع الذي أنشئت فيه ألف نخلة مثمرة كان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه، وخرب قصر المختار وقصر الهودج، وهدم ثلاثة وثلاثين مسجداً، ثم عاد وأمر بهدم مسجد كبير لكي يبني مكانه قاعة فخمة، وبالفعل هدم المسجد وعمرت القاعة مكانه وكملت، ثم قدم الفرنج الى الديار المصرية، وخرج الملك الصالح مع عساكره إليهم فتوفي في المنصورة، فلم يدخل القاعة حياً وجعل جثمانه في مركب وجيء به إلى الروضة، فوضع في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدة إلى أن بنيت له التربة التي دفن فيها، ولعل السيوطي بإيراده الخبر على هذا النحو كان يحذر الحكام من العدوان على بيوت الله، مذكراً إياهم بسوء العاقبة . على أن السيوطي لم يكتف بذلك وإنما لجأ إلى تشجيع الملوك والحكام على بناء المساجد فأعطى عناية خاصة لأخبار ركوب السلاطين إلى جزيرة الروضة لبناء المساجد وتعميرها. واهتم السيوطي في كتابه الذي حققه الباحثان مصطفى الشكعة ومجدي عاشور بذكر الجوانب المعمارية والمباني الأثرية في الجزيرة مثل الجوامع والمدارس والقصور والقلاع، فتحدث عن كل واحد من هذه الآثار حديثاً يضفي ملمحاً أثرياً على الكتاب، ولعل من الأمور الطبيعية في هذا المقام ألا يهمل المؤلف الحديث عن الجوانب الأثرية في الجزيرة ما دام ذلك مرتبطاً بها ارتباطاً عضوياً بحسب التعبير الحديث فمن الجوامع التي بنيت في الجزيرة يذكر السيوطي جامع المقياس، وجامع غب - وكان غب هذا واحداً من خدم الحاكم بأمر الله الفاطمي - وجامع الرئيسي وجامع الفخر، نسبة إلى القاضي فخر الدين، ناظر الجيش أيام الناصر محمد بن قلاوون، ويعرف أيضاً بالمقسى، وجامع الأشرف قايتباي . ومن المدارس ذكر السيوطي قصر المختار الذي بناه الاخشيدي ليفاخر به قصور بغداد، وقصر الهودج الذي بناه الخليفة الفاطمي الآمر لمحبوبته البدوية التي عافت سكنى القصور بالقاهرة، وقصر المنتهي الذي كان يتردد عليه الخلفاء الفاطميون، وقصر ومنتزه الروضة الذي بناه الأفضل ابن أمير الجيوش، وباسمه سميت الجزيرة. كذلك ذكر السيوطي القلعة التي بناها الصالح أيوب ومراحل بنائها وما عاصرته من أحداث أو شهدته من وقائع، كما ذكر حصن الطولونيين بالجزيرة، وأورد قصيدة فريدة رثاهم بها سهيل بن العامري. وركز المحققان على عنصر مهم، وهو أن السيوطي إذا كان استهدف من تأليفه" كوكب الروضة" أن يجعل منه مصدراً تاريخياً أدبياً للجزيرة فإنه لم يكن من الجمود بحيث وقف عند الأخبار التاريخية المحدودة والاستشهاد بالنماذج الأدبية المتنوعة، وإنما استطرد في نطاق التزامه المنهج، ما كان الاستطراد قانعاً غير ضار، وتوسع في إيراد النص والخبر، ما كان التوسع بريئاً من شبه الإضرار بالكتاب أو التقليل من قيمته، ولعله في هذا الطراز من التأليف أقرب ما يكون إلى الجاحظ في عدد من ذخائره النفيسة.ويشير محققا الكتاب إلى أن السيوطي يعد من أكثر المؤلفين أمانه من حيث نسبة كل خبر إلى مصدره وكل معلومة إلى صاحبها، لقد عابه في ذلك كثير من الدارسين، فقالوا إنه مجرد ناقل مصنف، وأطراه للسبب نفسه فريق أخر من الباحثين فقالوا إنه عالم أمين وحتى لو صح ما ذهب إليه الفريق الأول لكان مذهباً من جانب السيوطي وليس ضده لأن لولا السيوطي لما سمعنا بمراجع ولا وصلت أسماؤها إلى أذاننا تلك واحدة، وأما الثانية فإنه نقل لنا مادة علمية ثمينة في هذا الكتاب وفي غيره من كتبه الأخرى الكثيرة التي وصلت إلينا أسماؤها ولم تصل إلينا مادتها. ومهما كان الأمر فليس الموقف هنا مخصصاً لمحاسبة السيوطي ونقده سلباً أو إيجاباً وإنما الذي نهدف إليه هو التنبيه إلى المصادر التي اغترف منها مادة كتابه وهي كثيرة من حيث العدد، متنوعة من حيث الموضوع، نفيسة من حيث القيمة، إنها من حيث العدد تقترب من 150 مرجعاً، ومن حيث الموضوع تتنوع بين التاريخ والحفظ والآثار والطبقات والتراجم والسير والتفسير والفقه والسنن والأصول والرحلات والأقاليم والحيوان والأدب ودواوين الشعر ومجموعات النثر، هذا فضلاً عن كتب ذات موضوعات متنوعة، ولأن موضوع الكتاب هو جزيرة الروضة، والجزيرة بدورها قطعة من أرض مصر، فإن عدد كبيراً من مراجع السيوطي ينضم تحت قائمة الكتب التاريخية والأدبية التي اهتمت بتاريخ مصر وآدابها، فضلاً عن كتب اللغة والفقه وكتب السنن. إن"كوكب الروضة"طبقاً لما استهدفه السيوطي من تأليفه هو كتاب تاريخ وأدب تناول كل ما اتصل بجزيرة الروضة، فقد سكنها السيوطي أكثر من عشرين سنة وأحبها وأرتبط بها بحيث لم يكن يفارقها أو يعبر إلى الشاطئ الآخر إلا نادراً ومن ثم كانت له سكناً بالمعنيين المادي والعاطفي لكلمة"السكن"فألف عنها ذلك الكتاب وفاء منه لتلك البقعة الجميلة من أرض مصر، ولم يدخر وسعاً حتى في التألق في اختيار عنوانه، وهو الكتاب الوحيد الذي ألفه باحث على ما نرجح عن تلك الجزيرة التي لا تزال حتى أيامنا هذه تحمل مسحة من السحر وسعة من الجمال. ومن الزاوية التاريخية يبدأ السيوطي بالحديث عن دور جزيرة الروضة أثناء الفتح الإسلامي، ذلك أن الروم ظلوا متحصنين فيها محاولين الصمود في مواجهة الجيش الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص الذي ضرب حصاراً حولها، ثم لا يلبث المقوقس وجيشه أن لاذوا بالفرار، فخرب عمرو بعض أبراجها وأسوارها، واستمرت على تلك الحال إلى أن قام أحمد بن طولون بتعمير حصونها عام 263 ه. ويعمد السيوطي إلى الوقوف عند ذلك الحوار التاريخي المهم الذي جرى بين المقوقس وعمرو بن العاص وقد حاول الأول من خلاله تخويف المسلمين وأن يفت في عضدهم حتى يعودوا أدراجهم من حيث جاءوا، ثم ذكر الردود الحاسمة التي تلقاها من الثاني حتى كتب الله النصر للمسلمين . ويذكر السيوطي أن"الجزيرة"كانت متصلة بالجيزة بجسر، وبالفسطاط بجسر آخر، وكان من سكن الجيزة من الصحابة يعبرون يوم الجمعة جسراً إلى الجزيرة ثم يعبرون الجسر الآخر من الجزيرة إلى الفسطاط. ويؤكد السيوطي أن ألف صحابي دخلوا مصر مع عمرو وبعده، وكان منهم مئة ممن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، ويقرر أن عددا منهم اختص بدور بالجزيرة. ولما كانت الجزيرة قد صارت مركزاً لبناء السفن منذ عهد مبكر وعلى وجه التحديد عام 54 ه فقد تابع السيوطي تاريخ هذه الصناعة التي استمرت الجزيرة مركزاً لها حتى كان عصر الاخشيدي فانتقلت عام 325ه إلى ساحل مصر, أي ساحل النيل على الفسطاط وبنى الاخشيدي آنذاك القصر والبستان اللذين عرفا بالمختار. ويتناول السيوطي تاريخ ملكية الجزيرة في فصل لطيف كان محوره الأساسي منصرفاً إلى المدرسة التقوية نسبة إلى الملك تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب، فقد كانت الجزيرة ملكاً لبيت المال، وكان الملك تقي الدين اشترى ما يسمى منازل العز وجعلها مدرسة لفقهاء الشافعية، فرأى بعد ذلك أن يشتري الجزيرة كلها، وقام بوقفها على المدرسة المذكورة عام 506ه. وظل السيوطي يتابع تاريخ المدرسة ومن ولي أمرها من القضاة والمدرسين، كما تابع ما صارت إليه ملكية الجزيرة بعد أن ضاعت وثيقة الوقفية فتملكها بعض الناس بوضع اليد ثم عاد بيت المال فاستولى عليها. وكان سلاطين مصر يركبون إلى الروضة بين الحين والآخر، وكان عبورهم إليها محل اهتمام السيوطي وهو يؤرخ للجزيرة، ذلك أن ركوبهم إليها كان مرتبطاً على الأغلب ببعض الأحداث التاريخية، كما كان متصلاً بالإصلاح العام أو بالحياة العامة. فممن اهتم المؤلف بركوبهم إلى الجزيرة الخليفة المنتصر العباسي، والظاهر بيبرس، والسلطان الأشرف شعبان بن حسن بن الناصر، والسلطان المؤيد شيخ، والملك الأشرف أبو النصر قايتباي الذي يطلق المؤلف عليه لقب سلطان العصر، فقد كان السيوطي يعيش في زمانه وكانت بينهما مودة، ومن الطريف أن كثيرا من هؤلاء السلاطين كانوا يعبرون إلى الجزيرة لتعمير المساجد أو لأمر بترميم ما تهدم منها. وينتقل السيوطي المؤرخ إلى الحديث عن المقياس، فكما عرفت الجزيرة بالروضة، فإنها عرفت كذلك بجزيرة المقياس، وكان أول مقياس بناه المسلمون للنيل حين دخلوا مصر جعلوا مكانه أسوان، وظلت مصر الاسلامية منذ ذلك التاريخ البعيد إلى يومنا هذا حاضنة لمقياس النيل بغير انقطاع، وهذا المقياس هو الذي يحدد وفاء النيل اذا فاض، ويبين خطره إذا زاد، وينذر ببلائه إذا غاض، وكانت مصر إلى عهد قريب، وعلى وجه التحديد إلى عام 1966م، تحتفل بمقدم النيل ووفائه احتفالاً شعبياً عظيماً. ويذكر السيوطي أن خراج مصر كان يجبى تبعاً لمقاييس الفيضان، وكانت الغاية القصوى في الفيضان 18 ذراعاً في مقاييس الروضة، وهذه تساوي 22 ذراعاً في الصعيد الأعلى وإذا زاد النيل عن 18 ذراعاً نقص من الخراج مئة ألف دينار بسبب ما يستبحر من الأراضي المنخفضة. وخصص السيوطي فصلاً طويلاً لذكر يوم الوفاء وكسر الخليج يستهله بذكر أعياد الفاطميين ومواسمهم نقلاً عن المقريزي. وتنبغي الإشارة إلى أن المادة الأدبية في هذا الكتاب تمثل الجانب الأكبر منه، وكثيراً من النصوص وردت لتوثيق الأحداث أو لإضفاء مزيد من الأضواء عليها، وقد وازن السيوطي بين جناحي المادة الأدبية والمادة التاريخية. وبالنسبة إلى النصوص الشعرية أورد السيوطي نصوصاً كثيرة وطريفة في وصف الجزيرة والمقياس جرت على ألسنة عشرات الشعراء، فضلاً عن تلك النصوص التي أوردها من دون أن يذكر أسماء أصحابها. ولعل حماس السيوطي للجزيرة بخضرتها ورياضها، وحبه للنيل وسحره، قد دفعا به بعيداً بعض الشيء عن موضوع كتابه، إذ لم يلبث أن صنع فصلاً لشعر الطبيعة بكل فروعه، ما كان قيل منه في الجزيرة، وما أنشئ في غيرها من رياض الأقطار العربية والإسلامية، وما كتب منه في النيل وما صنع في غير النيل من أنهار وبرك وغدران. وأورد السيوطي أخباراً تتحدث عن خيرات مصر وجمالها ورخائها مثل قول عبدالله بن عمرو بن العاص:"من أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتثور ثمارها". لقد أسهم السيوطي إسهاماً قليلاً في مواكب الشعر المتزاحمة التي حفل بها الكتاب، وذلك موقف منطقي لأن السيوطي وإن قال الشعر فهو ليس بذي مكانة في عالم الشعراء إذا ما أريد تصنيفه كشاعر، وأما في ميدان النثر فقد كان كاتباً مرموقاً ذا آثار بارزة في نطاق الزمان الذي عاش فيه، فهو صاحب رسائل كثيرة ومناظرات غزيرة ومقامات وفيرة، ومن ثم كان إسهامه في"كوكب الروضة"بفنونه النثرية واضح المعالم بارز القسمات. والحديث عن الفنون النثرية في"كوكب الروضة"تعالج كثيراً من العناصر الموصولة الأسباب بجزيرة الروضة والنيل، كذلك موضوعات كثيرة عالجها السيوطي بفنه وأبدعها بقلمه تتمثل في عدد من المقامات ومجموعة من الرسائل إذ اشتملت النصوص النثرية على خمس موضوعات أساسية: هي رسائل البشارات بوفاء النيل، ورسائل لبعض الأدباء في وصف طوفان النيل حين يتعدى معدل وفائه فيغرق البلاد، ومقطوعات نثرية فنية في وصف نهر النيل وبهاء منظره وسحر شطآنه ومجراه، مع بعض الألغاز التي تجمع بعض صفاته مظهراً ومخبراً، ثم المقامات التي أنشئت في وصف الجزيرة والنيل وما يتصل بهما، وأخيراً المفاخرات أو المناظرات التي أنشأها الأدباء في موضوعات متنوعة وإن اتصلت كلها بموضوع الكتاب وهو الروضة ونيلها. ولقد احتل فن المقامات مكاناً رحيباً في"كوكب الروضة"وأخذ نصيبه من مساحة الفنون النثرية بنصيب، فقد أورد السيوطي 8 مقامات أسهم هو نفسه بثلاث منها، هي المقامة البحرية، ومقامة بلبل الروضة، ومقامة الرياحين، كما أسهم برسالتين طريفتين من إنشائه هما"الباحة في ذكر السباحة"وپ"الجهر في منع البوز على شاطئ النهر". وأما المقامات الأخرى فهي"المقامة الزعفرانية"لشهاب الدين بن أبي حجلة في وصف طوفان النيل، ومقامة الشيخ البزاعي، كتبها في وصف رحلته البحرية الطويلة من مصر إلى عدن عام 694ه، وكانت سنة غلاء وأمراض لانخفاض النيل، ومقامة القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر يذكر فيها مصر ونيلها، ومقامة محيي الدين بن قرناص يرد فيها على القاضي ابن عبدالظاهر، ومقامة ضياء الدين ابن الأثير التي أطلق عليها رسالة الأزهار، وهي وإن كانت في ظاهرها تشكل مفاخرات بين ستة أزاهير هي النرجس والأقحوان والشقيق والزهرة والبنفسج والورد، إلا أنها من حيث مضمونها وهدفها الأخير تنتهي بمدح السلطان الأشرف مظفر الدين موسى. نشر في العدد: 16717 ت.م: 10-01-2009 ص: 29 ط: الرياض