الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بداية الدولة الفاطمية ونهايتها . الخلاف بين المؤرخين على أصل النسب والعصب 1 من 2
نشر في الحياة يوم 10 - 07 - 2000

لا يملك الباحث في حركة التغيير والانتقال الغنية في التاريخ الإسلامي أن يمر مرور الكرام على تواريخ تشكل مفترقات طرق للأمة المسلمة كالهجرة التي أقامت أول دولة إسلامية وحروب الردة التي أثبتت قوائم الدولة الإسلامية والفتوحات التي أخرجت الدعوة من المحلية العربية الى العالمية لتؤثر في مسار الحضارة الإنسانية نفسها ودخول الأندلس الذي ولد حضارة استطاعت المزج ما بين الشرق والغرب لتتفوق في كل الميادين البشرية المعروفة يومها وسقوط بغداد الذي حدث كسقوط جبل له دوي صم الآذان وأدى الى حال من الانحطاط ما زلنا نعاني آثاره إلى اليوم. ومثل هذه المفاصل يكثر الكلام فيها لخطورتها وأهميتها في تحديد مسار التاريخ الإسلامي خصوصاً والبشري عموماً.
ولفتت نظري منذ عهد الطفولة شخصية الملك الناصر، وملأت عقلي وقلبي بقصص الشجاعة والإقدام والتضحية. وحرك سقوط القدس في يد الإسرائيليين في 30 صفر 1387 ه 7/6/1967م - وكنا يومها على مقاعد المرحلة المتوسطة - كل ما في النفس من توق الى قيادة شبيهة تجمع الكلمة وترص الصف وتحيي معاني العزة وتستعيد الحقوق الضائعة. والظروف بين القرنين السادس والرابع عشر الهجريين تتشابه الى درجة التطابق من حيث يُتْم الأمة بتفتتها الى دويلات متناحرة، وطمع الغرب، واحتلال ساحل الشام الفلسطيني، وخسارة بيت المقدس.
ولم أملك دموعي أول مرة زرت فيها مقام صلاح الدين بجوار المسجد الأموي في دمشق وتذكرت إسفاف القائد الفرنسي غورو الذي وضع قدمه على القبر الشريف فور دخوله دمشق عقب الحرب العالمية الأولى وقال: "ها قد عدنا يا صلاح الدين".
فصلاح الدين لم يكن في يوم من الأيام - لا في الوعي العربي والإسلامي ولا الغربي - شخصية عادية، ولا زعيماً محلياً عابراً، بل هو رمز من رموز القيادات التاريخية التي تظهر لتبقى في الوعي والضمير الشعبي تلهم كل القيادات اللاحقة من المعاني ما لا تقوم الدول من دونها.
وانتقال مصر من الحكم الفاطمي الى الحكم الأيوبي مفصل أساسي في تاريخنا، لأكثر من سبب، على رأسها أنه أعاد للأمة لحمتها، فقد التحمت الشام بمصر تحت الحكم الأيوبي، في حال من التواصل والانسجام مع بقية العالم الإسلامي تحت ظل الخلافة العباسية في بغداد، بعدما كانت مشتتة الولاء والانتماء السياسي، بل إن الفاطميين للحفاظ على خصوصية دولتهم لم يتورعوا عن الاتصال بالصليبيين والتفاهم معهم ضد الأمة.
والتحول الذي نتحدث عنه لم يكن تحولاً سياسياً فحسب، بل كان في أحد وجوهه استعادة الأمة لهويتها بعدما حاول الإسماعيليون فرض عقيدتهم الدينية وفقههم التعبدي ورؤيتهم السياسية الخاصة لتحل مكان منهج السلف وفقههم مخالفين في ذلك العهد الذي وقعه قائدهم جوهر السقلي للمصريين باحترام دينهم وفقههم وقوانين الأحوال الشخصية، وجاء فيه: "إقامتكم على مذهبكم، وأن تتركوا على ما كنتم عليه من أداء الفروض في العلم، والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة" رضي الله عنهم" والتابعين من بعدهم، وفقهاء الأمصار الذين جرت الأحكام بمذاهبهم وفتواهم. وأن يجري الأذان، والصلاة، وصيام شهر رمضان وفطره وقيام لياليه، والزكاة، والحج، والجهاد، على أمر الله وكتابه، وما نصه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته. وإجراء أهل الذمة على ما كانوا عليه".
المشروع الإسماعيلي
لم يكن مشروع الدولة الفاطمية مشروعاً سياسياً فحسب، ولكنه مشروع ينطلق من خصوصيات العقيدة الإسماعيلية، التي تنتسب - في ما تعلن - الى اسماعيل بن الإمام جعفر الصادق" رضي الله عنه ت 148ه/ 765م. وأطلق أهلها على دعوتهم التي أسست دولتهم الأولى في المغرب الأقصى سنة 297ه/ 909م ثم انتقلت الى مصر سنة 358ه/ 968م، اسم الدعوة الهادية ودعوة الحق وكانوا - في فترة الستر والتقية - يدعون للرضا من آل محمد.
وسماهم خصومهم الفاطميين لانتسابهم الى السيدة الزهراء، فاطمة، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو السيدة فاطمة والدة الإمام اسماعيل، زوجة الإمام جعفر الصادق" رضي الله عنه.
ويرى عارف تامر أن كلمة فاطميين تسمية وقعت على الأئمة الذين حكموا الاسماعيليين، وتحديداً الدولة التي أنشأها عبيدالله فعرفت كذلك بالعبيدية، ويدعو المؤرخين والباحثين الى عدم الخلط بين المصطلحين لما يسببه ذلك من أخطاء.
- وفي كل الأحوال طعن خصوم الدولة الفاطمية في نسب حكّامها، واعتمدوا على ما أورده المؤرخون من أن المعز لدين الله الفاطمي لما دخل القاهرة سأله أشرافها عن نسبه، فسل سيفه وقال: "هذا نسبي". ونثر الذهب وقال: "هذا حسبي".
وينقل ابن العماد وابن كثير عن ابن خلكان أن المهدي الذي أعلنت خلافته لم يكن سوى خادم للمهدي الإسماعيلي الذي قتل في سجن إليسع صاحب سجلماسة "فخاف أبو عبدالله أن ينتقض عليه ما دبره من الأمر إن عرفت العساكر بقتل المهدي، فأخرج هذا الرجل، وقال: هو المهدي. وهو أول من قام بهذا الأمر من بيتهم، وادعى الخلافة بالمغرب".
وفي عام 402ه/ 1011م أصدر العباسيون في بغداد، مَحْضراً يطعن بنسب الفاطميين، وقّع عليه الشريف المرتضى نقيب أشراف الطالبيين. وروى المقريزي أن الشريف أبا الحسين، محمد بن علي ت375ه/ 968م ألف مجلداً يشتمل على بضع وعشرين كرامة في الطعن على أنساب الخلفاء الفاطميين، وفي جملتها أن المؤسس الحقيقي للفرقة الإسماعيلية والجد الأول للفاطميين العبيديين هو ميمون القدّاح، وكان مولى لبني مخزوم، وأحد تلاميذ الإمام الباقر" رحمه الله، غير أنه خالف طريق الإمام الباقر ومنهجه.
وعلى رغم ذكر المقريزي فشل محاولة القاضي الإسماعيلي علي بن النعمان ت 374ه/ 967م الالتفاف على ذكر النسب الواضح للفاطمي نزار فإنه يورد الروايات الأخر التي تتبنى دعوى الفاطميين في انتسابهم لآل بيت النبوة، فينقل عن ابن الأثير، وابن خلدون ما يشير الى وهن روايات الخصوم.
ثم يدعو القارئ الى الابتعاد عن العصبية والهوى وإعمال العقل وحقائق التاريخ، لقبول ادعاء انتساب الفاطميين لآل البيت، مستخدماً أسلوب مدرسة الإخباريين في "أن الله تعالى لا يمدّ الكذّاب المفتعل بما يكون سبباً لانحراف الناس إليه، وطاعتهم له على كذبه".
ويذكر المؤرخ ابن واصل أنه التقى بالقاسم، أحد أحفاد العاضد الفاطمي وكان ما زال حياً في سجن القلعة، وقد بلغه خبر كتاب ابن واصل في التاريخ وأنه ذكر قول النسّابين فيهم، فقال له: "أنت ذكرت أن نسبنا يرجع الى اليهود"؟ فخجل منه ابن واصل، ولكنه ما أمكنه إلا الاعتراف بما كتبه وأحال الرواية الى أقوال المؤرخين، فسكت القاسم الفاطمي ولم يعلّق بشيء.
وأكثر مراحل التأريخ الإسماعيلي غموضاً فترة الانطلاقة، فقد ابتدأ عملها في صمت مطبق - اتباعاً لمبدأ التقية نتيجة الظروف السياسية والخوف من السلطة الأموية ثم العباسية، ومراعاة للفرق الشيعية الأخرى - حتى إذا ما توفي الإمام الحسن بن علي العسكري، رحمه الله، سنة 260ه/ 873م، وهو الإمام الحادي عشر عند أبناء عمومتهم الإمامية الاثني عشرية، وأعلن شيعته غيبة ولده المهدي محمد بن الحسن وانقطاعه عن العامة، ظهرت الإسماعيلية كحركة ثورية، استخدمت الفلسفة والعنف جنباً الى جنب، وولدت عدداً من الفرق والحركات خلال التاريخ الإسلامي كإخوان الصفا وخلان الوفا، والقرامطة. وبقي منها اليوم فرق، منها: البُهرة، والآغاخانية، والدروز. وتأثرت بها فرق ومذاهب اندثر أكثرها. وكان لعقيدة الإسماعيلية ورموزها الدينية وفلسفتها الخاصة أثر بعيد في بنية الهرم التنظيمي والسياسي الفاطمي وشرائح المجتمع ونظم الإدارة والضرائب المالية وسبل التعامل مع بقية المسلمين وأبناء الأديان الأخرى.
والفاطميون في مسيرتهم التاريخية من انطلاقتهم السرية وحتى إقامة الدولة والتمكن في أرض مصر وبناء القاهرة" ثم انطلاقتهم للتوسع في الشام واليمن والهند" لم ينفصلوا قط عن دعوتهم، وعن الهرم التنظيمي الدعوي، لأنها كانت مبرر انطلاقتهم والسلاح الفكري لحركتهم، ولم يخفوا هدفهم في نشر مذهبهم وسلطتهم على العالم الإسلامي كله. غير أن هذا الهدف لم يتحقق أبداً. وكانت نهاية الحلم على يد الناصر صلاح الدين الذي قطع الخطبة للفاطميين وجعلها للعباسيين في السابع من المحرم سنة 567ه/ 1171م، وأعاد لبس السواد، شعار العباسيين بعدما اتخذ الفاطميون البياض شعاراً لهم وفرضوه على الخاصة في عهدهم.
وشهد مولد الدولة واستمرارها حروباً ضارية مع خصومها، ومؤامرات دامية في أروقة القصور ودهاليزها، سالت فيها دماء وجرت وقائع تقشعر منها الأبدان. قال أبو الحسن القابسي صاحب الملخص: إن الذين قتلهم عبيدالله وبنوه، أربعة آلاف في دار النحر في العذاب، من عالم وعابد، ليردهم عن الترضّي عن الصحابة، فاختاروا الموت. فقال سهل الشاعر وأحل دار النحر في أغلاله من كان ذا تقوى وذا صلوات. ودفن سائرهم في المنستير، وهو بلسان الفرنج: المعبد الكبير.
ووضع المنصور الفاطمي أبا يزيد، مخلد بن كيداد ت336ه/ 947م وكان قد خرج عليه وقاتله، وضعه وهو مجروح "في قفص عُمل له، وجعل معه قرْدين يلعبان عليه وأمر بسلخ جلده، وحشاه تبناً".
وكان عرض رؤوس الخارجين على طاعة الفاطميين من القادة والعامة مشهداً مألوفاً في شوارع عواصمهم المهدية ثم القاهرة، وقال المهدي يوماً وقد جيء له برؤوس الخارجين عليه من كُتامة والبربر في قفة: "ما أعجب أمور الدنيا" قد جمعت هذه القفة رؤوس هؤلاء، وقد كان يضيق بهم فضاء المغرب".
وفي سنة 359ه/ 970م ضرب الحاكم العسكري جوهر الصقلي أعناق جماعة من المصريين وصلبهم في السكك. وضرب أعناق عدة من الإخشيدية وصلبهم حتى دخل المعز من المغرب. وفي سنة 360ه/ 971م وردت الرسل من المغرب برأس محمد بن خزر ومعه ثلاثة آلاف رأس. وفي سنة 363ه/ 974م طيف في مصر بنحو مئتي رأس قُدم بها من المغرب. وفي سنة 364ه/ 975م وردت رؤوس من المغرب عدتها ثلاثة آلاف فطيف بها، وبعث في عاشر شعبان بسبعة آلاف رأس طيف بها في القيروان إلى مصر. وفي ذي الحجة من العام نفسه 364ه/ 975م طيف برؤوس على رماح بلغت عدتها اثنا عشر ألف رأس وردت من المغرب فيها رأس خلف بن جبر وكان قد ثار بالمغرب واجتمع عليه البربر فظفر به يوسف بن زيري وقتله مع جماعة من أهله.
ومثل هذه الأخبار عن الفاطميين وما فعلوه بمعارضي حكمهم كثير في بطون كتب التأريخ. ولم تقتصر التصفية الجسدية على خصوم الدولة بل طاولت قادتها الكبار، فقد تخلص عبيدالله الفاطمي من داعيته وممهد ملكه أبي عبدالله الشيعي، ومثله عبدالله بن القديم وكان من رجال بني الأغلب ملوك تونس في المغرب الأوسط ثم عمل لأبي عبدالله الشيعي وأخلص للدولة واستعمله عبيدالله في ديوان الرسائل، ثم أبعده وقتله.
ومنهم حباسة بن يوسف الكتامي، عينه عبيدالله على برقة وعهد إليه بالحملة الأولى على مصر سنة 300ه/ 912م وما لبث أن أعدمه بعد عودته بتهمة التآمر بالتعاون مع أعوان أبي عبدالله الشيعي.
ومنهم عروبة بن يوسف الكتامي عهد إليه عبيدالله قتل أبي عبدالله الشيعي، ثم ولاه على تاهرت. خدم الدولة وواجه ثورة زناتة في تاهرت، وكان جزاؤه كجزاء أخيه حباسة.
الفاطميون في المغرب الأقصى
قسم الإسماعيليون العالم الإسلامي الى اثنتي عشرة جزيرة، بكل منها داع مطلق يرأس التنظيم الإسماعيلي في جزيرته، وكانت اليمن من أخصّ البلاد عند الإسماعيليين وآثرها إليهم. ومنها انطلقت دعوتهم - بعدما تمكنت فيها بسبب وعورتها وبعدها عن مركز الخلافة العباسية - الى المغرب بعدما التقى الداعية الإسماعيلي، الحسين بن أحمد، المعروف بأبي عبدالله الشيعي، بعض حجاج المغرب من قبيلة كُتامة البربرية، فاستمالهم إليه، وانتقل الى بلدهم بأمر من آخر الأئمة المستورين، محمد بن أحمد. وكان المغرب مهيأً لاستقبال فرع جديد من فروع آل البيت، وقد استجاب للأدارسة العلويين من قبل، وأقام لهم دولتهم عام 173ه/ 789م بعدما نجحوا في تجييش عواطف المغاربة وحبهم لآل بيت النبوة.
وفي هذا الوقت انتقل الإمام المهدي المستور الى سَلَمية قرب حمص، فلما أحس بخطر العباسيين عليه خرج الى المغرب ماراً بمصر بعدما أشاع أنه يقصد اليمن. ويظهر أن نجاح مهمة أبي عبدالله الشيعي واستمالة كتامة وظهوره على الأغالبة كان على رأس الأسباب التي دفعت المهدي الإسماعيلي للتوجه الى المغرب لا اليمن. ودخل الى رقّادة في 21 ربيع الآخر 297ه 6/1/910م بعدما خلصه أبو عبدالله الشيعي من سجنه في سِجِلْماسة، وأركبه بشعار الخلافة وجعل يشير الى القبائل ويقول: "هذا مولاكم".
وكانت نهاية أبي عبدالله على يد الفاطميين كنهاية أبي مسلم الخراساني على يد العباسيين، كلاهما مهّد للدولة، وكلاهما تم التخلص منه ومن الأسرار التي يعرفها. ولم يستقر الوضع للإسماعيليين في المغرب، فابتنى المهدي مدينة المهدية بعيداً عن رقّادة والقيروان، مركز النفوذ والمقاومة السنية، وراعى في اختيار موقعها وبنائها مواصفات المقاومة العسكرية، "وجعلها دار ملكه وقرار سلطانه وقال بعد تحصينها وعند انتقاله إليها: اليوم أمنت على الفواطم". يعني نساءه وبناته.
الفاطميون في مصر
بقيت أنظار الفاطميين متجهة نحو مصر، موقعاً وسطاً في العالم الإسلامي، وممراً لتجارة الغرب والشرق، فمن امتلك مصر امتلك المال والحضور السياسي في العالم الإسلامي. ويصف المهدي مؤسس الدولة الفاطمية مصر بصدر الطائر وبغداد برأسه فيقول: "والله" لا أزال حتى أملك صدرَ الطائر ورأسه إن قدرتُ، وإلا أهلك دونه"، كناية عن موقع كل منهما في العالم الإسلامي. فمصر هي القلب الذي فشل المؤسسون الأول في الاستيلاء عليه وتحقق ذلك للمعز على يدي خادمه جوهر.
باءت محاولات الفاطميين بالاستيلاء على مصر بالفشل الى عهد خليفتهم الرابع المعز لدين الله، الذي وظف حركة الدعاة، وتململ المصريين من سوء الأوضاع السياسية والإدارية والاقتصادية بعد وفاة كافور الإخشيدي ت357ه/ 968م، ليحقق الحلم، فلم يخلف كافوراً شخصية قوية، وكان يعقوب بن كلّس، وهو أحد يهود العراق المقيمين بمصر، وكان وكيلاً عن بعض التجار، اعتنق الإسلام في زمن كافور، وهرب من سجن الوزير ابن الفرات الذي صادر أمواله بعد وفاة كافور، ولجأ الى المعز الفاطمي في المغرب وأطلعه على وضع مصر وشجعه على غزوها، فوافق ذلك خطط المعز وأكد صحة ما وصله من رسائل بعض القواد المصريين الناقمين على الفوضى الحاصلة فيها يدعونه لدخول مصر وامتلاكها. وقد كافأ المعز ابن كلّس لاحقاً عندما أوكل اليه تنظيم إدارة الدولة والإشراف على شؤون الدعوة الفاطمية نفسها.
ومهد المعز لدخول مصر منذ عام 355ه/ 966م بحفر آبار الماء على طول الطريق، ثم جمع عام 358ه/ 969م جيشاً من مئة ألف جلهم من البربر الموالين له وعلى رأسهم كُتامة وزويلة، أمّر عليه جوهر الصقلي، الذي دخل مصر "بلا ضربة ولا طعنة ولا ممانعة". يوم 17 شعبان 358ه 5/7/969م.
ومهّد لملك الفاطميين في مصر، واختط القاهرة شمال شرقي الفسطاط، ولم تكن مدينة سكنية كبقية المدن، بل كانت قلعة عسكرية تجمع قصور الأسرة الحاكمة، وثكنات الجيش من المرتزقة والعبيد، ودواوين الحكم، بالإضافة الى مراكز الدعوة كدار داعي الدعاة وبيت العلم وخزائن الكتب.
كانت القاهرة ممنوعة على العامة، لا يدخل إليها أحد إلا بإذن الحاكم الفاطمي، ولأداء عمل محدد، ولم يسمح لأحد بالبناء فيها إلا في عهد أمير الجيوش بدر الجمالي سنة 466ه/ 1073م، فقد "أباح للناس من العسكرية والملحية والأرمن وكل من وصلت قدرته الى عمارة أن يعمر ما يشاء في القاهرة" بعدما رأى من خراب الفسطاط.
كانت سنوات حكم جوهر الصقلي قبل قدوم المعز 358- 362ه 968- 972م مرحلة التأسيس الحقيقية للفاطميين في مصر، فاتبع سياسة إقرار الوضع على ما هو عليه، واستمالة الخاصة والعامة، والتغيير البطيء من داخل الإدارة ومراكز القوى الرئيسة في البلاد "لم يدع عملاً إلا جعل فيه مغربياً شريكاً لمن فيه". وقطع جوهر الخطبة للعباسيين، وحذف اسمهم من النقود، وأحل محلها اسم المعزّ، وأمر الخاصة بلبس البياض محل السواد شعار العباسيين.
ثم تنكّر لعهده مع المصريين بالتدرج في ما يعنى بشؤون الدين كالتماس هلال رمضان وشوال، فالفاطميون يصومون ويفطرون على الحساب لا على الرؤية. كما تنكر لنظام المواريث السائد عند جمهور المسلمين، فمنع العمل بفقه أهل السنة في مسألة توريث البنت إذا انفردت، والشيعة الإسماعيلية يعتبرون عدم توريث البنت التي لا أخوة لها كلّ الميراث عداوة للسيدة فاطمة الزهراء، رضي الله عنها.
وفي يوم الجمعة 8 جمادى الأولى 359ه 19/3/970م أمر المؤذنين بإدخال حي على خير العمل في الأذان، وبالجهز بالبسملة، وزيادة القنوت في الركعة الثانية من صلاة الجمعة، والدعاء لآل البيت عقب الخطبة.
وبعد أن استقرت الأوضاع بمصر، توجه الفاطميون تجاه الشام، أقرب البلاد الى مقر الخلافة العباسية، العقبة التي تقف في وجه حلم سيطرة الفاطميين على العالم الإسلامي.
وتم للفاطميين فتح الرملة ثم دمشق سنة 359ه/970م، حيث أقيمت الخطبة باسم المعز. ودخل الحمدانيون حكام حلب تحت لواء الفاطميين عام 360ه/ 971م. ولكن الصدام المبكر بين القرامطة والقاهرة أدى الى تراجع المشروع الفاطمي التوسعي، ووأد حلم القضاء على الخلافة العباسية واحتلال عاصمتها بغداد.
* كاتب وأكاديمي لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.