غابت شمس عام 2008، ولكنه خلّف وراءه ذلك الزلزال الاقتصادي العظيم الذي ضرب اقتصادات العالم، الذي كان من نتائجه ذلك الكساد الكبير الذي انتشر كالمرض العضال في الجسد الاقتصادي الدولي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وتوابع ذلك الزلزال لا تزال مستمرة تضرب بعنف غير مسبوق هنا وهناك منذ بدأت شرارته الكبرى في بلاد العمّ سام بكارثة الرهن العقاري وإفلاس عدد كبير من المؤسسات المالية العملاقة في ذلك البلد، ومنها مصرف"ليمان براذرز"والمجموعة الأميركية الدولية للتأمين التي تعد أكبر شركة تأمين، فتركت أثرها على الاقتصاد الأميركي الذي يعتمد حوالي ثلثيه في نشاطه على عمليات الإقراض. لم تتوقف آثار الطامة المالية على الضربة القاسية التي تلقاها الاقتصاد الأميركي، بل انتشرت العدوى إلى معظم دول العالم التي كانت تسير وراء الولاياتالمتحدة مطبقة النظام الرأسمالي نصاً وروحاً على اقتصاداتها، الأمر الذي جعلها تُمنى بخسائر مالية كبيرة لا عهد لها بها، بسبب تأثّرها بإفرازات الأزمة المالية الطاحنة التي ضربت الاقتصاد الأميركي ومؤسساته، ما أجبر بوش الذي اعتبر أسوأ رئيس يحكم أميركا خلال الخمسين عاماً الماضية، على الاعتراف علناً بأن اقتصاد بلاده دخل بالفعل مرحلة كساد كبير بعد أن أحجم الرجل مرات ومرات عن إعلان هذا النبأ الأسود على شعبه! واهتزت أركان البورصات الأميركية التي تقود أسواق الأوراق المالية، وما أن بدأ الهبوط المريع في أسعار الأسهم الأميركية وغطى اللون الأحمر مؤشرات"داو جونز"و"نازداك"وغيرهما حتى انتشر الذعر في معظم أسواق الأوراق المالية في قارات العالم كلها، من الغرب إلى اليابان والصين شرقاً، ولم تَنْجُ الدول العربية أمام كارثة اقتصادية لم تُبْقِ ولم تذر. إن أثر الأزمة الاقتصادية لم يستثن دولة دون دولة ومنها الدول العربية بالطبع التي يصرّ بعض المسؤولين فيها أنها لم تتأثر، فهناك تقديرات كثيرة تؤكد الخسائر الكبيرة للدول العربية، على رغم أن الأزمة الاقتصادية في بدايتها ولم تنته، ومنها تقدير متحفظ لأحد مسؤولي الأممالمتحدة بأن أكثر من 350 بليون دولار من الأموال العربية قد ذهبت مع الريح، ومعظم هذه الأموال الطائلة خسرتها الصناديق السيادية في دول مجلس التعاون الخليجي، فهي التي تستثمر مبالغ كبيرة في سندات وأسهم في أميركا وأوروبا وغيرهما، على رغم أن معظم الاستثمارات ليست عالية المخاطر كما كان يعتقد البعض، لكن الانهيار الذي حدث في أسواق الأسهم كان كبيراً لم يستثنِ استثمارات من دون أخرى. من المهم بيانه أن بعض الخسائر التي لحقت بالصناديق السيادية أو حتى بالمستثمرين الآخرين في أسواق الأسهم هي في حقيقة أمرها تعد في مفهوم الاستثمار خسائر ورقية، ولكنها تصبح خسائر حقيقية إذا قامت الصناديق السيادية أو المستثمرون - بنوك أو مؤسسات أو مستثمرون آخرون - ببيع الأسهم بسعرها وقت انهيار الأسعار أو بعدها والأسعار لا تزال متدنية. وإذا كان هذا هو جزء مما لحق بالدول والمصارف وحيتان المستثمرين من خسائر، فإن المستثمرين الصغار وهم السواد الأعظم في الوطن العربي ويمثلون أكثر من 90 في المئة من المستثمرين في البورصات العربية، هؤلاء أكل انهيار أسعار الأسهم الأخضر واليابس بالنسبة إليهم، فذهبت مدّخراتهم مع الريح. هذا يصبح واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار إذا عرف أن أسواق الأسهم الخليجية شهدت خلال عام 2008 أسوأ أداء لها في تاريخها، بعد أن تكبّدت خسائر فادحة بلغت قيمتها 575 بليون دولار، حيث تراجعت قيمتها السوقية من 1.14 تريليون دولار أوائل العام الماضي لتنخفض إلى 565.1 بليون دولار طبقاً للمؤشر المركب لصندوق النقد العربي مع نهاية العام، أي أن تلك الأسواق فقدت أكثر من 50 في المئة من قيمتها السوقية، بل إن خسائر سوق الأسهم الإماراتية بلغت 460.7 بليون درهم، حيث تراجع مؤشرها 57.5 في المئة، والسوق السعودية بلغت خسائرها 1.02 تريليون ريال لتبلغ نسبة الخسائر للعام الماضي 56.5 في المئة، وتفوّقت دبي على كل أسواق الخليج في خسائرها لتبلغ حوالي 73 في المئة عام 2008. إذاً ودّع المستثمرون عامهم الماضي بتكبّدهم خسائر فادحة غير مسبوقة في تاريخ البورصات العربية، وكثيرون هم الذين يندبون حظهم لدخول هذه الأسواق التي سيطر عليها هوامير كبار لم تترك إلا الفتات لصغار المستثمرين، لكن هذا الفتات ضاع مع الريح عندما هبطت أسعار أسهم شركات عدة تحت قيمتها الاسمية، فانتهى قطار المستثمرين إلى خسائر أتت على معظم تحويشة العمر، فتحولوا من طبقة وسطى لينضموا إلى قافلة طبقة الفقراء الواسعة التي تفتح فمها الواسع لتستقبل القاصي والداني. وإذا كانت هذه هي حال الأسهم والمستثمرين خصوصاً صغارهم، فإن الكساد الكبير الذي ضرب اقتصاد العالم امتدّ أثره إلى النفط، صاحب الأيادي البيضاء في دفع عجلة النمو الاقتصادي في الدول العربية، خصوصاً دول الخليج العربي، فبعد أن كسرت أسعاره حاجز 147 دولاراً للبرميل في تموز يوليو من العام الماضي هوى سعره خلال الأشهر الستة الأخيرة من العام نفسه ليبلغ 37 دولاراً، لينخفض بأكثر من 70 في المئة قبل نهاية العام 2008، وعلى رغم خفض"اوبك"انتاجها بحوالي 4.2 مليون برميل دولار في اليوم من دون العراق، إلا أن تحسن الأسعار كان بطيئاً جداً، فقد كانت تدور بين 40 و 42 دولاراً للبرميل، وقد حركها ارتفاعاً الهجوم البربري الإسرائيلي على غزة ليبلغ السعر الخميس الماضي 46 دولاراً للبرميل. ولا شك أن هذا الانهيار في أسعار النفط سيترك أثره الواضح على إيرادات مجلس التعاون الخليجي، وإذا استمرت الأسعار عند مستوياتها الحالية فقد تشهد موازنات تلك الدول عجوزات محققة وزيادة الدين العام، على رغم أن هذه الدول حققت فوائض مالية كبيرة خلال طفرة أسعار النفط على مدى السنوات الخمس الماضية، لكن بعض تلك الفوائض، خصوصاً المستثمر منها خارج الحدود، تعرض لخسائر فادحة، وهذا لا شك سيؤثر على المشاريع العديدة التي بدأ تنفيذها، وكذلك على تلك التي خطط للبدء فيها والتي أنجزت نسبة كبيرة منها، فمع انخفاض الإيرادات فإن تلك المشاريع ستخضع إما للإلغاء أو التجميد أو إطالة أمد تنفيذها. وإذا أضيف إلى انخفاض أسعار النفط، العمود الفقري لاقتصادات دول المجلس والذي تعتمد عليه الموازنات بنسب ما بين 85 - 95 في المئة، التضخم الذي تبلغ نسبته ما بين 10 و 14 في المئة، وتدهور سعر صرف الدولار الذي يسعّر به النفط، لأدركنا حجم التحديات التي ستواجهها دول المنطقة العربية إذا عرفنا أن القيمة الحقيقية لسعر برميل النفط عند 40 دولاراً لا يعادل أكثر من سعره عندما كان 10 دولارات عام 1998، في الوقت الذي تضاعفت فيه أسعار معظم المواد المستوردة أكثر من خمسة أضعاف. كل هذا تخرج من رحمه تحديات جسام في مقدمها الفقر والبطالة وتراجع مستوى المعيشة للمواطنين، ويبدو أن معدل الفقر في تزايد على رغم أن العالم العربي يضم بين جنباته مئة مليون فقير، بجانب تفشي البطالة تفشياً كبيراً، الأمر الذي يجعل الدول العربية في حاجة لتأمين أكثر من 80 مليون فرصة عمل خلال السنوات العشر المقبلة، وإذا استمرت إدارة الاقتصادات والاستثمارات على فلسفتها الحالية نفسها التي ثبت فشلها فإن الحد من الفقر والبطالة يصبح مجرد أضغاث أحلام. وبعد هذه التجارب المريرة في الاستثمارات من خلال الصناديق السيادية للدول والخسائر الفادحة التي تحققت على رغم عدم الإعلان بشكل واضح عن حجم الخسائر، فقد حان الوقت لمراجعة سياسات الاستثمار وإعادة النظر في أسلوب إدارة الصناديق ذات السيولة المالية الكبيرة، وتأسيس محافظ استثمارية لاستيعاب بعض الاستثمارات في الداخل بدلاً من المغامرات الاستثمارية في بنيات اقتصادية أخرى قد تكون عرضة لخسائر غير محسوبة، خصوصاً مع توقّع زيادة حجم الخسائر التي ستنجم عن الإعصار الاقتصادي الذي ضرب العالم والذي تقدر الجامعة العربية حجم الخسائر العربية من جرّائه بمبلغ 2.5 تريليون دولار. ويبدو أن الجامعة تتوقع أن تبلغ الخسائر هذا الرقم الفلكي في المستقبل إذا استمرت أزمة الكساد والخسائر لفترة أطول وهو ما يبدو في الأفق. وعلى الجانب الآخر حان الوقت كي تنظر دولنا العربية، بعد هذه التجارب المريرة والضربات المتتالية التي تلقاها المستثمرون خصوصاً صغارهم في بورصات الأوراق المالية العربية، وخرجوا بخسائر فادحة أكلت الأخضر واليابس، في إعادة هيكلة الأسواق الضعيفة أصلاً بتحديث قوانينها وإحكام الرقابة عليها، للحد من حصد المزيد من الضحايا وتبخّر الثروات. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية. نشر في العدد: 16717 ت.م: 10-01-2009 ص: 17 ط: الرياض