لندع جانباً حال الاحباط التي ولّدتها جلسات المجلس النيابي اللبناني، وجملة الاهانات التي لحقت بالمشاهد لدى بثها المباشر تلفزيونياً، نتيجة الاستخفاف بوعيه، وذاكرته، وبحقه في وطن مستقر في الحدود الدنيا، بدل إشعاره دائماً بأنه في القاع، أعزل ومتروك، وأن عليه أن يتلمس وجود الدولة كالأعمى من دون عصا، والاستمرار في تدبر أمره بنوع من ليبرالية بد=وية لا تأخذ بالنصوص والنظم والثوابت والمكان والزمان. إنه مصير مفتوح على المجهول، على اللامنتظر، على أن ليس في الامكان أفضل مما كان، وإن ما كان سيستمر، والمجلس النيابي صورة عن زمنه السابق واللاحق. لندع جانباً محاولات تبرئة الذمم وتزيين الصورة التي قام بها بعض النواب، في عدادهم نواب منتمون الى فريق أساسي حاكم منذ 1993، فارضاً مشروعه الإعماري والبنائي، بقوة المال والحلفاء المحليين والاقليميين، بشكوى هؤلاء النواب، المفصلة، من استشراء الفساد وغياب آليات المحاسبة والمراقبة، ومن انتهاك القوانين الدستورية، وضرب القطاعات الانتاجية السلعية كالزراعة والصناعة. وشكا هؤلاء أيضاً من انهيار أوضاع الناس المعيشية، ومن تفاقم البطالة بين الشباب. ماذا كان يفعل هؤلاء وماذا يفعلون الآن في اجتماع كتلتهم النيابية؟ وهناك حلفاء لهم لم ينطقوا بكلمة، كل شيء يسير في منظورهم على ما يرام! ماذا نتوقع من النائب في بلد تمنح فيه اجازة السوق للمكفوفين والأموات؟ هذه وقائع حقيقية لا صوراً بلاغية. لندع هذه الأمور وغيرها جانباً، لنتحدث عن العنف الأصلي، البنيوي الذي تشظى في المجلس مقسماً النواب، ومعهم من يشاطرهم كل الآراء أو بعضها، الى أطهار وأنجاس "طهّر نيعك؟" و"نيعك"كلمة عامية جداً تعني"فمك"، والفم أداة التعبير الرئيسية والفطرية، التي لا بد منها، وبالتالي فقد قسم النائب الثائر الغاضب الناس الى أخيار وأشرار، الى"مشركين"وموحدين، الخ... كلمة"طهارة"ورديفها"النظافة"دخلت قاموس الخطاب السياسي السلطوي، علماً أن القوانين الوضعية في الأنظمة المعافاة، ولو نسبياً، تعتبر الأموال التي تتلقاها الأحزاب السياسية من مصادر خارجية، أموالاً غير شرعية وتلاحق متلقيها! بل كل من يوظف المال، لأي جهة انتمى، من أجل استقطاب المؤيدين والأنصار والناخبين، ليس نظيفاً ولا نزيهاً. لنعد الى قاموس التكفير الذي انبثق في الأعوام الأخيرة فارزاً اللبنانيين، على قاعدة خياراتهم السياسية، بين أتقياء أنقياء، صافين، وكفرة وزنادقة وملوثين، بين ملهمين مباركين، وملعونين، بين مالكين للحقيقة المطلقة ومحرومين من نعمة امتلاكها. كلما دخلنا في حقلي"الطهارة"وپ"النجاسة"اللغويين ? اللغة هي التي تصنع العالم لا العكس - كلما ابتعدنا من العالم الأرضي، المحسوس والواقعي والتاريخي، المتغير والنسبي، الذي يتسع لتعدد وجهات النظر والمفاهيم والمواقف، غير المعصومة عن الخطأ. وكلما ابتعدنا من العالم الأرضي، دخلنا عالم الغيب واللانهائي والكليانية والاطلاق والكمال والتمام، الذي لا يليق بالبشر وغرائزهم ونزواتهم وشهواتهم ونقائصهم وأرضيتهم. يتحول التقديس الى مطية سهلة لتبرير وتكريس وفرض مسارات وخيارات ومواقف بشرية دنيوية، ولو بقوة الشتم والقذف وحتى السلاح، الى وسيلة سهلة ومضمونة، لأنها عصية على النقاش والتشريح والرد، لتبرير العنف وتسويقه. هو الوسيلة المثلى لاعفاء النفس والعقل من مكابدات التحليل والمحاججة والبرهنة والاقناع، هو الوسيلة المثلى للتنصل من المراجعة والمحاسبة والتفاوض والحوار. لماذا يحاور من يعتقد امتلاك الحقيقة المطلقة، الكاملة، الناجزة، الطرف الذي يمثل له النسبية والنقصان والدنس واحتمال الخطأ. نحن أمام منهجين لا يلتقيان لا في الآخرة ولا في الدنيا: هل مفهوم الدولة في لبنان مفهوم أخروي؟ * كاتبة لبنانية