كانت مفاجأة عندما تبين أن الذي يقود سيارة الأجرة هو امرأة. وللوهلة الأولى، تردد كثيراً وسأل نفسه هل يصعد إلى المقعد الأمامي إلى جانبها، أم يجلس في المقعد الخلفي؟"ربما هذا أنسب في هذه الحال"، قال لنفسه. ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه، دليل حرج، شاءت السيدة السائقة أن تواجهها بسؤال:"غريبة هي الفكرة، أم لم يعجبك أن أعمل سائقة؟". لم يستطع الرد، وظل على إيحائه بغرابة الموقف. هو يعرف أن هذه السيدة ليست السائقة الوحيدة في تونس، ربما، ولا هي الأولى التي تعمل في هذه المهنة، بالتأكيد. ولكن للمرة الأولى في كل أمر، وقعاً مميزاً. هو يعرف تماماً أن المرأة باتت تنافس الرجل في مجالات عمل كثيرة، عاملة في مصنع، أو مهندسة في ورشة بناء... وعايش ذلك، في مهنته كصحافي. ولكنْ، سائقة سيارة أجرة، بقي الأمر غريباً بالنسبة إليه، لما في المهنة من احتكاك مع ركاب مختلفين، ولما يترتب عليها من أخطار. في السابق، استطاع أن يستوعب أن تكون المرأة سائقة مترو أنفاق، وقطار، وحافلة... ولكن حتى هذه الفكرة كانت صعبة، فقيادة المرأة وسائل نقل كبيرة كهذه، فيها مجازفة، لأنها تتطلّب أحياناً قوة جسدية، ربما لا تتمتّع بها المرأة، خصوصاً في حالات طارئة. تساؤلات دارت في خاطره خلال فترة نصف ساعة أمضاها في طريقه بين الكلّية حيث يكمل دراسته، ومقر إقامته: لِمَ العمل في مهنة كهذه؟ أليس هناك من بديل؟ أين زوجها، أبناؤها؟ ما هي تعليقات الناس عند رؤيتها؟ لم يستطع مبادلتها الحديث، مع أن معالم الاستغراب والدهشة الواضحة لم تفارق وجهه. فبادرت إلى سؤاله عن سبب حيرته، ما دفعه إلى رشقها بتساؤلاته كلها، خلال لحظات. والطريف أنها لم تبدِ أي استغراب أو تحفظ. تقطن لسيدة السائقة حي ابن خلدون الشعبي، في العاصمة التونسية، وقد وجّهت إليها ملاحظات كثيرة، خلال الأشهر الأربعة الماضية، منذ بدأت العمل سائقة تاكسي. وكانت جارتها، وهي زوجة سائق تاكسي أيضاً، هي من أسدت لها النصيحة، فهذه المهنة تدر عليها أكثر من خدمة المنازل، 450 ديناراً، نحو370 دولاراً. والمبلغ يساوي ضعف ما كانت تتقاضاه عن عملها"معينة منزلية". شرعت هذه السيدة في خدمة المنازل، إثر طلاقها، منذ ثلاث سنوات، لتتمكن من إعالة ابنتيها. والطلاق نفسه كان بسبب سوء الوضع المعيشي للأسرة. فقد فشل الزوج في إدارة محل لتصليح الأجهزة الإلكترونية، فاندلعت حالة"نقار"مع زوجته، نتيجة الضغط، تفاقمت وتأزّمت، ثم أدّت إلى الانفصال. ولكونها غير مؤهلة للعمل في وظيفة، قررت العمل معينةً منزلية، الخيار الأسهل، وربما الوحيد، في تلك الأثناء. استجابت لإعلان عن طلب معينات منزليات، من بين إعلانات تظهر بكثرة، في الصحف اليومية. ظروفها كانت صعبة، فابنتها الكبيرة لم تتجاوز الخامسة من العمر، والصغيرة في الثالثة. وعزَّت على الأم فكرة بقائهما وحيدتين في المنزل، لوقت طويل. كان عليها البقاء في عملها حتى الساعة الرابعة بعد الظهر. وهو الأمر الذي أجبرها على وضع الطفلتين في حضانة، لتطمئن. ولم تلبث أن صرفت النظر عن هذا التدبير، لأن أجرها الشهري شحيح، لا يكفي. استمرت في العمل معينة منزلية، أكثر من عام، وكانت تفضّل الأعمال التي لا تستغرق أوقاتاً طويلة، ولو كان دخلها أقل. ثم اقتنعت بمهنة سائقة التاكسي، وهي مهنة وقتها حر ودخلها أوفر. لم يكن عملها الجديد سهلاً، فهي تقول إنها اضطرت إلى حفظ مناطق المدينة بشوارعها وأزقتها وزواريبها، لكي تتمكن من الحصول على شهادة سوق السيارات العمومية. ومنذ"تبوّئها"مركز"القيادة"، لا تزال نظرات الاستغراب والتلميحات تنهال عليها, نظرات على غرار نظرة زميلنا الصحافي الذي ظل مندهشاً حتى بعد ترجّله. وهذه من الأمور التي دفعتها إلى انتقاء الركاب من الجنس اللطيف، وأصحاب الوجوه السمحة من الجنس الآخر..."الخشن". المهم عند السيدة السائقة هو إعالة أسرتها، وتحصيل لقمة العيش بكرامة، وهذا ما يعزز موقفها أمام الناس، ويبدد استغرابهم.