واكبت الحرب التي اندلعت في الثامن من آب أغسطس 2008، في أوسيتيا الجنوبية، ظاهرة هي سابقة من نوعها، تمثلت في كم قياسي من الانباء الكاذبة والمضللة. وثمة أربع أو ثلاث روايات عن الحادثة الواحدة. فالأطراف كلها بثت معلومات متناقضة ومتضاربة. وتباينت أنباء وسائل الإعلام الروسية والجورجية والغربية وكأن الحديث يدور على حوادث وقعت في بلدان مختلفة. ولكن لماذا بدأت هذه الحرب؟ فالنزاعات الأوسيتية والأبخازية مع جورجيا تدوم منذ أكثر من 16 سنة. وبدا أنها قد تستمر على هذا المنوال، في الأعوام المقبلة. وفي ليلة الجمعة، 8/8/2008، بعد ساعتين من اعلان ميخائيل ساكاشفيلي وقف إطلاق النار من جانب واحد، قصف الجيش الجورجي تسخينفالي، عاصمة أوسيتيا الجنوبية. وأعلن رئيس الوزراء الجورجي، لادو غورغينيديزي، في مقابلة مع صحيفة"كوميرسانت"، أن ما أضطر الجورجيين الى شن عملية عسكرية هو قصف الاوسيتيين قرى جورجية. وكان ميخائيل ساكاشفيلي زعم أن العسكريين الروس هم وراء القصف، وليس الاوسيتيين. ولا يخفى على أحد أن رد موسكو على الهجوم سريع ومتسرع. ففي الأحوال السابقة، وهي كثيرة في ال 16 سنة المنصرمة، اكتفت روسيا بأمر طائراتها بالتحليق في أجواء اوسيتيا الجنوبية، وبإعلان صد الاعتداء. وبدا أن أحداً لم يحاول رد العدوان الجورجي. فوزارة الدفاع الروسية التزمت الصمت. ودعا سفير روسيا السياسي في هيئة الأممالمتحدة الى جلسة طارئة لمجلس الأمن عند الصباح بتوقيت موسكو، أي عند منتصف الليل بتوقيت نيويورك. ويوم الجمعة، بعد عشرات الساعات من اندلاع المعارك، بدا أن الديبلوماسيين في تبيليسي على يقين من أن حرباً شاملة لن تندلع، وأن موسكو قررت التخلي عن أوسيتيا الجنوبية، وأنها لن تدافع عنها. وقد يكون وراء استنتاجهم هذا إشارات سربتها قنوات نصف رسمية في موسكو، أو تغاضي قوات حفظ السلام الروسية، في يومي العطلة في 2-3 آب، عن احتلال الجيش الجورجي سارابوك والمرتفعات الاستراتيجية الأخرى حول تسخينفالي. ولم يفهم أحد أسباب غياب الروس عن هذه المرتفعات. وهذا يوحي بأن ميخائيل ساكاشفيلي وقع في فخ. ولكن لماذا استمرت الحرب؟ فبعد طرد الجيش الجورجي من تسخينفالي، استمر قصف المدينة أياماً عدة، على رغم اعلان ميخائيل ساكاشفيلي أنه أعطى أمراً بوقف اطلاق النار. ولكن بعثات اعلامية نفت صحة هذا الأمر. وأعلن نائب وزير الخارجية الجورجي، غريغول فاشاذري، ان القصف مصدره القوات الجورجية المحاصرة بأوسيتيا الجنوبية، وهي التزمت أمر تبيليسي وقف إطلاق النار، وبدأت الانسحاب، ولكن القوات الروسية حاصرتها، فاضطرت الى استئناف القصف. وبلغت الحرب الإعلامية ذروتها نهار الثلثاء حين انتشار الأنباء عن احتلال الجيش الروسي مدينة غوري الجورجية، وتحركه نحو تبيليسي. وفي اليوم التالي، أقرت السلطات الجورجية بأنها أذاعت معلومات مضللة، واضطرت الى اللجوء الى تكتيكات الحرب الإعلامية. وفي أول يومين من الحرب، مالت وسائل الإعلام الغربية الى القول أن أعمال جورجيا هي وراء اندلاع النزاع، وسألت ساكاشفيلي وأسباب أمره بالهجوم. ولكن لماذا لم تنته الحرب؟ وكان من المفترض أن تنتهي الحرب الثلثاء، مع وصول الرئيس الفرنسي النافذ، نيكولا ساركوزي، الى موسكو وتبليسي. وبحسب مصدر في وزارة الخارجية الفرنسية، سعى ساركوزي الى تحقيق مكاسب سياسية من طريق وساطته في أزمة شارفت فصولها على الانتهاء. وبحسب إدارة الكرملين الإعلامية، تخابر ميدفيديف وساركوزي أكثر من مرتين، يومياً. وتفاجأ الرئيس الفرنسي بإعلان زميله الروسي انتهاء الحرب قبل المحادثات، وقبل توجهه الى موسكو. والحق أن ميدفيديف حرم ساركوزي من فرصة الظهور صانع سلام. وأشارت وسائل الإعلام الغربية، الأربعاء، أن السلام الموعود لم يتحقق، وان الأعمال الحربية لم تتوقف. وأعلنت السلطات الجورجية أن روسيا أخلّت بالاتفاق الموقع، ووجهت دباباتها نحو غوري وتبليسي. وانعطفت الحرب الإعلامية انعطافاً كبيراً. وعزف الصحافيون عن مساءلة الرئيس الجورجي عن أسباب تدخله في أوسيتيا الجنوبية، إثر مواصلة القوات الجورجية الهجوم. فعدسات تصوير محطات التلفزة الغربية، على غرار"سي أن أن"، وثَّقت خبر اقتراب القوات الروسية من العاصمة الروسية، وبثت صور هتاف الجنود المطلّين من الدبابات الروسية:"تبليسي! تبليسي". وفي المساء، أقرت وزارة الخارجية الروسية بأن الدبابات على مشارف تبليسي. وربما لم تبلغ روسيا مآربها في أوسيتيا الجنوبية، ما سوّغ إخلالها بالاتفاق المبرم مع جورجيا. فقرر الجيش الروسي، الأربعاء، أن ينهي ما بدأه، وأن يبلغ أهدافاً كان يبيتها. وأعلنت السلطات الجورجية أن القوات الروسية دمرت عتاد القوات الجورجية الحربي والثكنات العسكرية الجورجية، فجرت قاعدة سيناكي التي تدرب فيها الجورجيون بقيادة المستشارين الأميركيين في إطار برنامج"الإعداد والتدريب". ولكن هل انتصرت روسيا في الحرب؟ توحي حوادث جورجيا أن جهود روسية لم ترم الى تحرير أوسيتيا الجنوبية من الجيش الجورجي فحسب، بل الى تحقيق أهداف متغطرسة. الحق أن أبرز ما سعت اليه موسكو هو إظهار أن في مقدورها، شأن أميركا، أن تنفرد بقرار الحرب من دون التنسيق مع المجتمع الدولي، وأن تشن عمليات حربية على أراضي الآخرين. ولكن هل استطاعت روسيا أن تحاكي أميركا أو أن تقترب من نموذجها؟ والجواب قد يتضح في الأسابيع المقبلة. وبحسب النتائج الأولية، في وسعنا القول انها لم تبلغ مأربها هذا. فروسيا لم تستطع اطاحة حكم ميخائيل ساكاشفيلي، واستبدال رئيس موال لها به. ووطدت الحرب لحمة المجتمع الجورجي، وعززت مكانة الرئيس الجورجي. ويفوق الضرر اللاحق بسمعة ساكاشفيلي في المجتمع الدولي نظيره اللاحق بسمعة روسيا وصورتها. وخلف اقتراب الدبابات الروسية من تبليسي أثراً سيئاً في نفوس الجمهور الغربي. وروسيا عاجزة عن سوق الرئيس الجورجي الى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي. فهي لم تصادق على وثائق تخولها اللجوء الى هذه المحكمة. ويبدو أن المساعي الروسية الحربية لن تحول دون انضمام جورجيا الى حلف شمال الأطلسي، بل ترجئها الى وقت لاحق. وأعلن ياب شيفير، أمين عام حلف الپ"ناتو"، عن تأييده عضوية جورجيا في الحلف، وترحيبه بمباشرة العمل معها تمهيداًً لانضمامها. وعلى خلاف شيفير، عارضت دول أعضاء في الناتو، مثل فرنسا والمانيا، انضمام جورجيا اليه. ولكن نيكولا ساركوزي قد يعدل عن معارضته هذه جراء غضبه من إفشال روسيا مهمته السلمية. ويبدو أن مصير قوات حفظ السلام الروسية في منطقة النزاع، ومصير أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، لا يزال مبهماً، على رغم اتفاق المسؤولين في وزارات خارجية دول الاتحاد الأوروبي، في اجتماعهم في بروكسيل، على إرسال بعثة الى المنطقة. فهؤلاء المسؤولون لم يحددوا من يشارك في قوة حفظ السلام الجديدة في منطقة النزاع، إثر انسحاب جورجيا من"رابطة الدول المستقلة". وفي الأسبوع الماضي، اقتصر تأييد روسيا على كوبا وليبيا. والتزمت بيلاروسيا الصمت. وانتقد السفير الروسي في بيلاروسيا، الكسندر سوريكوف، الموقف هذا. وعلى خلاف ما واجهته الولاياتالمتحدة حين اجتاحت العراق، انفض حلفاء موسكو عنها، وفاقت عزلتها عزلة جورجيا. فدول البلطيق وبولندا وأوكرانيا سارعت الى دعم جورجيا، في أيام الحرب، وقبل التحقق من واقع الأمور. و في الأسابيع الأخيرة، بدأت روسيا تقدم نفسها على أنها دولة عظمى، وتوسلت لغة منمقة متغطرسة. وعلى سبيل المثال، اقترح ديمتري ميدفيديف مشروع إنشاء بنية أمن أوروبي جديدة، وإبرام معاهدة بديلة عن معاهدة هلسينكي الموقعة في 1975. وكان من المفترض أن يناقش ميدفيديف هذه المسألة مع المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، في محادثاتهما في مدينة سوتشي الروسية. ولكن حوادث جورجيا وجهت ضربة قاسية الى طموحات روسيا وميلها الى"التعاظم". وأغلب الظن أن تنتظر روسيا طويلاً مباشرة الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة البحث من جديد معها في قضايا النظام العالمي الشامل. ومن المبكر القول إن حرب جورجيا تسهم في عزل روسيا دولياً، على رغم ان بوادر المشكلات والأزمات تلوح في الأفق. فعضوية موسكو في منظمة التجارة العالمية وفي مجموعة الثماني مهددة. ولم تواجه واشنطن مثل هذه المشكلات اثر شنها الحرب على العراق، بل تمتعت بحصانة كبيرة. فطوال أعوام، وثقت الديبلوماسية الأميركية علاقاتها بمجموعة كبيرة من الحلفاء الموثوقين الذين دعموها، على رغم حكمهم بأن قرارها خاطئ. وهذا ما لم تقم به الديبلوماسية الروسية، الى يومنا هذا. فيبدو أن على روسيا أن تقطع شوطاً كبيراً قبل أن تنصب نفسها"أميركا ثانية". عن ميخائيل زيغار وفلاديمير سولفيوف،"فلاست"الروسية، 18/8/2008