امتازَ المجتمعُ الإسلاميُّ في عهْدِ النبوَّة بالتماسُك الاجتماعي الناتج من المحبّة التي ربطت بين رسول الله صلى اله عليه وسلّم وبين صحابته رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وقد نَمَتْ تلك المحبةُ في بيئة سادتها مكارمُ الأخلاق، وقد عبّر الصحابةُ عن مشاعرهم بطُرُقهم الخاصّة نثراً وشِعراً، ولم يقتصرْ حبُّ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم على أبناء عصره من الصحابة، بل استمرَّ حُبُّه في عصر التابعين وتابعيهم عبْرَ القرون، وما زالت قرائحُ الشعراء تجودُ بالمدائح النبوية المعبرة عن حبّ المسلمين لنبي المحبة والمرحمة حيث أصبحت المدائح تُشكّل فنّاً أدبيّاً مُستقلاً بذاته له أصوله وفروعه ومناهجه. ومن أبرز شعراء الصدر الأول حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه الذي دافع عن الإسلام والمسلمين بشِعره وأشاد بفضائلهم، وهجا أعداء الإسلام وذمّهم وشهَّرَ بِهِم كشف الظنون: 1/785، الأعلام للزركلي: 2/177، الشعر والشعراء لابن قتيبة: 139-140، طبقات ابن سعد: 1/294، معجم المؤلفين:3/191. ولم تتوقف مسيرةُ الأدب الإسلامي بل استمرت، واشتهر الكثير من الشعراء، وصارت المدائح النبوية فنّاً مميزاً بين الفنون الأدبية سدوته المحبة"ولُحْمَتُه الإخلاص، واستفاد الْمُنشدون من المدائح النبوية فردَّدوها ولَحّنوها بالمناسبات الدينية، ومن القصائد التي سارتْ بها الركبانُ قصيدةُ"البردة"التي أنشدها كعب بن زهير بن أبي سُلمى بين يديّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد حظيت بمعارضات وتشطيرات وتخميسات لا تُحصى، وفي العصر الحديث اشتهر القاضي يوسف بن إسماعيل النَبَهانيّ البيروتيّ 1265 - 1350ه الذي اشتهر بنظم المدائح النبوية وجمعها حتّى قيل فيه:"إنّه بُوصِيرِيّ عصره"ومن مؤلّفات النبهاني: أفضل الصلوات على سيّد السادات، وحجّة الله على العالمين في المعجزات النبويّة، والسابغات الجياد في مدح سيّد العباد، وسعادة الدارين في الصلاة على سيّد الكونين، وشواهد الحقّ في الاستغاثة بسيّد الخلق، والشرف المؤبّد لآل سيّدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، والمجموعة النَبَهانيّة في المدائح النبويّة، أربعة أجزاء، والنظم البديع في مولد الشفيع، ووصائل الرسول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، والهمزيّة الألفيّة الطيبة الغراء في مدح سيّد الأنبياء. ومن قصائد البوصيري التي نالت الاهتمام كذلك قصيدة"البُرْأَةِ"وتُسمى الكواكب الدرية في مدح خير البرية للبوصيري، وهي قصيدة مشهورة غنية عن التعريف، ومطلعها: "أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيْرانٍ بِذِي سَلَمِ مَزَجْتَ دَمْعاً جَرى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ". وقد عارضها وخَمَّسها الشعراء، ومنهم أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدة"نهج البردة"، وللبوصيري مدائح مشهورة أُخرى منها: القصيدة الهمزية في المدائح النبوية، وتُسمى أُمُّ القُرى وقد أُنشدتْ وعُورضت وشُطّرت وخُمِّست ولُحِّنت وغُنيتْ، وشُرحتْ شروحاً كثيرة طُبِع بعضُها وما زال بعضُها مخطوطاً في مكتبات التراث العربية والإسلامية والعالمية. والهمزيّة، ويُقال لها: المهموزةُ، والقصيدة الهمزيّة في المدائح النبويّة معجم المطبوعات العربيّة، لسركيس: 1/605 وهي المسمّاه:"أُمُّ القُرى في مدح خير الورى"هدية العارفين: 2/138. وهي تقع في 456 بيتاً، ومطلعها: "كَيْفَ تَرْقى رُقِيَّكَ الأَنْبِياءُ ** ياسَماءً ما طاوَلَتْها سَماءُ لم يُساووكَ في عُلاكَ وقدْ حَا ** لَ سَناً مِنكَ دُونَهمْ وسَناءُ إنَّما مَثَّلُوا صِفاتِكَ للنا ** سِ كما مَثَّلَ النجومَ الْمَاءُ أنتَ مِصباحُ كُلِّ فضْلٍ فمَا تَصْ ** درُ إلاَّ عن ضَوئِكَ الأضواءُ". وقد طُبع"ديوان البُوصيري"في القاهرة بعناية الأُستاذ سيّد كيلاني، عام 1955م. ويبلغ عدد عناوين مخطوطاته المعروف 20 عنواناً، ويوجد تحت كل عنوان عددٌ وافرٌ من المخطوطات الخاصة بمؤلفاته أو المرتبطة بها شرحاً أو تخميساً أو تسبيعاً أو غير ذلك. والبُوصِيريّ: هو محمّد بن سعيد بن حَمّاد بن مُحسن، أبُو عبدالله، شرفُ الدين، الصنهاجيّ الدلاصي، نُسب إلى"أبوصير"في مصر، وقد وُلد أوّل شهر شوّال سنة 608ه. وكانت وفاته في الاسكندريّة في مصر سنة 694 ه/ 1294م المقفى الكبير: 5/662[7]. وقد تألق نجمه في سماء الأدب، ورحل في طلب التعلُّم والتعليم، فسكن مدينة القدس الشريف في فلسطين، ثم انتقل إلى المدينةالمنورة ومكة المكرمة يعلم القرآن الكريم، ثم عاد الى مصر تاريخ الأدب العربي / عمر فروخ: ج-3 ، ص-674، وكان البوصيري فقيهاً وشاعراً مترسلاً، اما شعره فكان في غاية الحسن واللطافة وعذوبة الألفاظ وانسجام التركيب الوافي بالوفيات / الصفدي: ج-3، ص-107، ولم يكن البوصيريّ شاعراً فحسب بل كان عالماً من العلماء، فقد أخذ عنه الإمام النحوي الْمُفسّر أبو حيّان الأندلسي صاحب"البحر المحيط"وغيره من الكتب، وأخذ عنه الإمام اليَعْمُري أبو الفتح ابن سيّد الناس، والعزّ ابن جماعة، وغيرهم مقدّمة الفتوحات الأحْمَدِيّة شرح الهمزيّة، لسليمان الجمل. وقد نال البوصيري شهرتَهُ من الشعر الإسلامي، فسارت قصائده الخاصّة بمدح رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم، فوَعَتْها قُلُوب مُحبّيه وردَّدَتْها ألْسِنَةُ العرب والعجم، واعترف كِبارُ العُلماء والأدباء بمكانته الشعرية الراقية، وقدّموا شهادات حَفِظَتْهَا لنا كُتُب التراث، ومن ذلك قولُ خليل بن أيبك الصفدي:"شِعرُهُ في غاية الحسن واللطافة، عذب الألفاظ، منسجم التراكيب الوافي بالوفيات ترجمة رقم: 1045". وقال الكتّاني: الإمامُ شرفُ الدين، سلطانُ المادحين، أبو عبدالله البوصيري التراتيب الإداريّة: 2/364. وقال الإمام الحلبي الحنفي في كتاب السيرة: عالمُ الشُّعراء، وأشْعَر العُلماء ناظمُ القصيدة المعروفة بالبُرْدة السيرة الحلبيّة"إنسان العيون"1/5. وقال الإمامُ الزرقاني: رجلٌ شاعرٌ، كشرف الدين البوصيري رضي الله عنه لا ريبَ أنّه كان يحملُ في نفسه قوّةً شاعرة يستطيع أنْ يصوغَ بها ما شاء من غُرَر القصائد، اتّجهتْ شاعريّتُه - فعلاً - أنْ يمتدحَ أفضلَ الخليقةِ صلواتُ الله وسلامه عليه، بقصيدته المعروفة بالهمزيّة مناهل العرفان في علوم القرآن: 1/14. وقال سليمان الجمل في شرح الهمزيّة المسمّى الفتوحات الأحمدية بالمنح المحمدية على متن الهمزية: من أبلغ ما مُدِحَ صلّى الله عليه وآله به من النظم الرائق البديع، وأحسن ما كشف كثير من شمائله من الوزن الفائق المنيع ما صاغه صوغ التِبْر الأحمر، ونظمه نظم الدرّ والجوهر، الشيخُ الإمامُ العارفُ الكاملُ الهُمام، المتفنّنُ المحقّقُ، البليغُ الأديبُ المدقّقُ، إمامُ الشُعراء وأشعرُ العُلماء، وأبلغُ الفُصحاء، وأفصحُ الحُكماء، الشيخُ شرفُ الدين، أبو عبداللهُ محمّد بن سعيد بن حمّاد بن محسن الصنهاجيّ، من قصيدته الهمزيّة المشهورة مقدمة الفتوحات الأحمديّة بالمنح المحمديّة. وقد ترجم للبوصيري الكثير من المؤلّفين لكتب تراجم الأعيان والأعلام، إذْ نجدُ ترجمة البوصيري في كتاب الأعلام للزركلي خير الدين: 6/139، طبعة دار العلم للملايين في ثمانية مجلدات، وفي معجم المؤلّفين، لعمر رضا كحالة: 10/28. وفي هدية العارفين، للبغدادي: 2/138. وفي معجم المطبوعات العربيّة والمعرّبة لإليان سركيس: 1/3 605. وفي المنهل الصافي لابن تغري بردي، وفي حسن المحاضرة للسيوطي: 2/273 وطبعة دار صادر: 3/362 رقم 456، وفي كتاب الوافي بالوفيات لخليل بن أيبك الصفدي: 3/105 رقم 1045، وفي تاريخ الأدب العربيّ، للدكتور فرّوخ: 3/673. وكشف الظنون لحاجي خليفة :1331، 1349. وكذلك الهمزيّةُ امتازت بعناية العلماء بالشرح والتوضيح والدرس والبحث بما كوّن مجموعةً من كُتُبِ السيرة الشريفة، والتاريخ لعصر النبوّة، والسببُ في ذلك هي سعةُ الهمزيّة حجماً، واحتواؤها على معلومات أكثرَ ممّا حوتْهُ الميميّة، فقد احتوت الهمزيّة بعد المديح وذكر الصفات والمعجزات والكمالات الخَلْقيّة والخُلُقيّة للنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله - وتضمّنت حوادثَ السيرة النبويّة، على نسق كُتُبِها وحوادثها التاريخيّة قال حاجي خليفة في كشف الظنون: 1/727 انّها حوت أكثر المدائح النبويّة ولذا سمّيت أم القرى. وقال الحافظ بن حجر الهيتَمي المكيّ: حتى أن الإمام القيراطي... أراد أن يُحاكيها ففاته الشنب وانقطعت به الحيل عن أن يبلغ من مُعارضتها أدنى أرب، وذلك لطلاوة نظمها، وحلاوة رسمها، وبلاغة جمعها، وبراعة صنعها، وامتلاء الخافقين بأنوار جمالها، وإدحاض دعاوى أهل الكتابين ببراهين جلالها، فهي - دونَ نظائرها - الآخذةُ بأزمّة العُقُول، والجامعةُ بين المعقُول والمنقُول، والحاويةُ لأكثر المُعجزات، والحاكية للشمائل الكريمة، على سُنن قطع أعناق أفكار الشعراء عن أن تَشْرَئِبَّ إلى مُحاكاة تلك المحكيات والسالمة من عيوب الشعر من حيث فنّ العروض... ومن حيث فنّ القوافي... مقدّمة المنح المكيّة منشورات دار المنهاج في جدة السعودية الطبعة الثانية: ص: 71. ويقع كتاب المنح المكية في شرح الهمزية المسمى أفضل القِرى لِقُرَّاء أُمِّ القُرى"يقع في 712 صفحة، وهذا الشرح للإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي 909 - 974 ه، وقد حققه بسام محمد بارود وأحمد جاسم المحمد وبو جمعة مكري، وهي طبعة نفيسة قلْباً وقالباً.