ولو أن من المروع أن نسمع مسؤولاً رسمياً يقول بطريقة عرضية ان العائلات التي انتظرت 30 سنة لتتعرف على مصير أحبائها يمكنها الانتظار أيضاً بضعة أسابيع، إلا أن هناك بصيص أمل بدأ يلوح في الأفق لتلك العائلات التي بقيت تعاني بصمت وفي الخفاء على مدى سنوات طوال. فعندما يقول وزير الخارجية السوري وليد المعلم، هذا الكلام، فهو يقرّ أقله بأنهم قد يمتلكون الجواب، وهو جواب مختلف تمام الاختلاف عن الجواب الراسخ نفسه الذي ما انفك المسؤولون السوريون واللبنانيون على السواء يرددونه على مسامع تلك العائلات طوال عقدين من الزمن، وهو لا أشخاص على قيد الحياة من بين الذين هم في عداد المفقودين. ولقد برزت أخيراً مؤشرات إيجابية حيال هذه المسألة تمثلت أولاً بخطاب القسم للرئيس ميشال سليمان الذي تطرق فيه الى قضية المختفين والمفقودين، وصولاً الى البيان الوزاري الذي يتضمن بندين تتعهد فيهما الحكومة بمعالجة قضية الأشخاص الذين يُعتقد أنهم مفقودون ومحتجزون في السجون السورية وأولئك الذين اختفوا في لبنان، فضلاً عن المساعي المبذولة لمصادقة لبنان على إعلان الأممالمتحدة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري. لقد أُدرجت هذه النقاط الثلاث في مذكرة وقّعت عليها 14 منظمة لبنانية غير حكومية وتم رفعها الى الرئيس سليمان وطالبت فيها المنظمات أيضاً أن يتبنى البيان الوزاري هذه القضية. فبالنسبة الى العائلات التي تواصل اعتصامها للسنة الثالثة على التوالي، تشكّل هذه الخطوات نقطة إيجابية حيث أنها دليل على انفتاح نافذة وفرصة لا مثيل لها. إلا أن ثمة خطراً في هذا الحدث المفاجئ الأخير: فحتى الآن لا يزال رهن التطورات السياسية ليس إلا. فلو قرر رئيس الجمهورية مع الحكومة الجديدة النظر الى هذه القضية بجدية، فسيكون عليهم أن يعطوها قدراً من الزخم يكون مستقلاً عن التطورات السياسية. وتحقيقاً لهذه الغاية، من المهم أن تلتزم الحكومة الوعد الذي قطعته في شأن اتخاذ مقاربة واضحة وشاملة وشفافة تطاول كل ضحايا الاختفاء القسري أو الأشخاص المفقودين. وبالفعل، فمن خلال الفصل بين قضيتي ضحايا الاحتلال السوري وضحايا الاحتلال الإسرائيلي ومعالجة كل منهما على حدة، يولّد هذا الأمر من جهة الشعور لدى اللبنانيين بأن مصير المواطنين اللبنانيين هو من مسؤولية إسرائيل أو سورية كل على انفراد، على رغم الانشقاقات السياسية الداخلية التي ولّدها هذا الأمر طوال السنوات الماضية. ومن جهة أخرى، فقد تبقى نتيجة ذلك قضية الذين اختفوا على الأراضي اللبنانية بلا حل. من الممكن اتخاذ سلسلة من التدابير الملموسة التي لا تمت بصلة الى أية اعتبارات سياسية، وقد يكون من المفيد النظر الى تجارب دول أخرى. فعلى سبيل المثال، في دولة قبرص المجاورة، تشكلت لجنة تحقيق لتحديد مصير المفقودين في الجزءين التركي واليوناني من الجزيرة وإعادة رفات الأشخاص الذين تم التعرف عليهم الى عائلاتهم. وفي جو من التعبئة السياسية على غرار الذي نعيش فيه، فقد يشكّل ذلك نقطة بداية قد تهدئ بال المئات من العائلات. وقد تشمل الاعتبارات الأخرى على سبيل المثال وضع القوانين التي من شأنها أن تخفف من ألم العائلات من دون دفعها الى الإعلان عن وفاة أحبائها في غياب إثبات على ذلك: فقد قامت الأرجنتين على سبيل المثال باستحداث وضع قانوني جديد تحت عنوان"المختفون قسراً"، وأتاح هذا الأمر لعائلات المختفين التعامل مع قضايا مدنية مختلفة من مثل الميراث، والوصول الى الحسابات المصرفية، أو غيرها من المسائل القانونية من دون الاضطرار الى الإعلان عن وفاة أصحابها. وفي ما يتعلق بالمقابر الجماعية، فخلال السنوات الثلاث الأخيرة، عادت هذه المسألة الى الواجهة نتيجة لاعتبارات سياسية، وطُمرت من جديد لاعتبارات سياسية أيضاً. ويبقى أن الأدلة التي من شأنها أن تساعد بعض العائلات في بحثها عن مفقوديها قد ضاعت في الوقت الحاضر الى الأبد. وفي هذا المضمار أيضاً، فإن وضع قانون لحماية مواقع المقابر الجماعية المشبوهة، كما حصل في العراق مثلاً، يمكنه على الأقل أن يوفر بعض الحماية لهذه المواقع الى أن يحين الوقت والظروف المناسبة لنبش تلك المقابر. ما ورد أعلاه ما هو إلا بضعة أمثلة عن المشاغل الواقعية، ولكن النقطة هنا هي أن الدولة اللبنانية، ووزاراتها والسلطة القضائية فيها يمكنها أن تبدأ بالتحرك في أي وقت كان بهدف معالجة قضية إنسانية طُمرت على أراضينا لمدة طويلة. ومثل هذا التحرك يجب أن يشمل جميع ضحايا الاختفاء القسري للمساهمة في التخلص من الرابط السياسي. فماذا لو فشلت المحادثات اللبنانية - السورية بعد أسبوعين؟ فهل يتم مجدداً تجاهل مطالب عائلات الذين يُعتقد أنهم في سورية بعد فسحة الأمل هذه التي فتحت الباب على توقعات مضاعفة؟ من الواضح أن المقاربات السياسية ستتباين وفقاً للأطراف المعنية، ولكن لا بد من وجود مقاربة واحدة شاملة ومتسقة تذهب الى أبعد من مجرد التعرف على الرفات واسترجاعها أو عودة المحتجزين - وتكون الشفافية وإشراك الضحايا في هذه العملية هي السبيل الى نجاح مثل هذه المقاربة. تقول لجنة الحقيقة والمصالحة الوطنية التشيلية في مقدمة تقريرها:"تعتمد وحدة الأمة على هوية مشتركة تعتمد هي بدورها الى حد كبير على ذاكرة مشتركة". وقد آن الأوان كي تشرع الدولة اللبنانية في اتخاذ خطوات جدية لمعالجة المسائل المرتبطة بماضي الحرب وعدم ترك هذه المسألة رهناً بالسياسة الإقليمية. لا تكفي رؤية القادة السياسيين يتصالحون وأنصارهم يحذون حذوهم، بل من المهم أن تتخذ الدولة تدابير لتعقد الصلح هي ومؤسساتها مع مواطنيها. وقد تبدأ الخطوة الأولى ببذل جهود جدية لحل قضية المختفين والمفقودين. لين معلوف - لبنان