أهلية غير المسلم أو عدم أهليته لتولي السلطة في المجتمع المسلم، لا تتحدد بحيازة غير المسلم صفات ذاتية ومؤهلات خاصة، بل تعود إلى تحديد مفهوم السلطة ووظيفتها، والرابطة الإجتماعية التي يقوم على أساسها الإنتماء إلى المجتمع وتُقنَّن عبرها الحقوق والواجبات وقواعد المشاركة في الحياة العامة. وهي مسألة ثقافية بقدر ما هي مسألة دينية، وهي أيضاً قضية إيديولوجية تتعلق بتعريف المجتمع لنفسه، ورؤية الفرد لوجوده وللآخرين، وبحقيقة الدولة ومفهومها وطبيعتها ووظائفها، وبالفهم الديني للسلطة وعلاقته بها. لا يحمل غير المسلم في الفقه الإسلامي أي تعريف يوحي باعتباره جزءاً عضوياً في المجتمع، بل هو"آخر"بكل معنى الكلمة، تجري عليه أحكام خاصة هي بمثابة شروط لا بد منها لتصحيح بقائه وتنعمه بالأمان في"دار الإسلام". وقد ذكر إبن القيم الجوزية في كتابه"أحكام أهل الذمة": أصناف"الكفار"، وهو التعبير الفقهي لكل من كان غير مسلم. يقول:"الكفار: إما أهل حرب وإما أهل عهد. والعهد ثلاثة: أهل الذمة وأهل هدنة وأهل أمان". أما أهل الحرب فهم مطلق"الكفار"الذين لا يوجد بينهم وبين المسلمين هدنة أو معاهدة صلح حتى ولو كانوا من أهل الكتاب على الأرجح، وتكون البلاد التي يوجد فيها هؤلاء دار حرب أو كفر، لعدم انطباق أحكام الإسلام عليها وغياب أية معاهدة صلح بينها وبين المسلمين. ولا مشترك بين هؤلاء والمسلمين - بحسب الفقه التقليدي - سوى الحرب. أما أهل الذمة، فهم"عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله"، وهم"يقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف أهل الهدنة، فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواء كان الصلح على مال أو غير مال، ولا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين. وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة". إذاً فالمدخل الوحيد، بحسب الفقه الإسلامي التقليدي، الذي يسمح لغير المسلم بالبقاء الدائم في دار الإسلام، هو أن يكون من أهل الذمة، أي دخوله بشروط وأحكام خاصة تنطبق عليه وحده دون غيره من المسلمين. وهي أحكام، لا تقتصر على شروط بقاء غير المسلم في ديار الإسلام، والتي تسمى في زماننا بشروط الإقامة، بل تحدد وضعيته السياسية والإجتماعية والدينية والإقتصادية. فالذمية أقرب إلى عقد صلح يجريه إمام المسلمين مع"آخر"من غير المسلمين، يتضمن واجبات والتزامات منه، والتي أهمها دفع الجزية وقبول إجراء حكم الإسلام في بلادهم، ويتضمن أيضاً حقوقاً له أهمها الأمان الإجتماعي والإقتصادي والديني، مع تحييد شبه كامل له عن المجال السياسي لاعتبارات سيأتي ذكرها. نشير هنا إلى أن حكم الإسلام الذي يجب أن يخضع له أهل الذمة هنا، هو الحكم السياسي أكثر منه الحكم الديني الذي هو بمعنى جريان أحكام الشريعة عليهم، إذ أن المهم هو خضوع ديارهم وبلادهم لحكم إمام المسلمين، لأنه هو الوحيد المعني بإقامة أحكام الإسلام. وهذا يفسر التفاوت في تطبيق أحكام الذمة في التاريخ الإسلامي، بسبب أنها كانت تابعة لمزاج الحاكم وسياسته وتدبيره الخاص الذي يفارق منطق الشريعة في أكثر الأحيان. فنجد تضييقاً منه على أهل الذمة، في أوقات نادرة، كما في زمن المتوكل العباسي والحاكم بأمر الله الفاطمي، ونجد تسامحاً من الحكام في أوقات أخرى، سمح بتشكل مجتمع إسلامي حاضن للتعدد، وساعد غير المسلمين على الإندماج في مجتمعاتهم وأوطانهم، وصيرورتهم جزءاً من منظومته الثقافية والسياسية. وقد أجمع الفقهاء على اشتراط الإسلام في الحاكم أو الخليفة أو إمام المسلمين، إذ القاعدة العامة هي، كما عن الماوردي:"لا تصح ولاية كافر ولو على كافر... وما جرت به عادة الولاة من نصب رجلٍ من أهل الذمة فتقليد رياسةٍ وزعامة لا تقليد حكمٍ وقضاءٍ، ولا يلزم أهل الذمة الحكم بإلزامه بل بالتزامهم". قاعدة"لا ولاية لكافر"تعني الإقصاء الكامل لغير المسلم عن مجريات الشأن العام، سواء على صعيد ممارسة السلطة، أو على صعيد تقرير من يشارك في السلطة. فقبول الحاكم أمر غير اختياري بالنسبة لغير المسلم، لا يملك حق قبوله أو رفضه، في حين تتوقف شرعية الحاكم أو الإمام على مبايعته البيعة العامة من قبل المسلمين. بهذا المعنى يكون الذميون أشبه برعايا أجانب، يلتزمون بجملة قوانين وإجراءات، تكفل لهم الأمن الإجتماعي والاقتصادي، مع عزلهم الكامل عن مجريات الحدث السياسي سواء في تحديد مبادئه أو تفاعلاته أو مساراته العامة. وقد كان لقاعدة"لا ولاية لكافر"تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية على حياة غير المسلمين. حيث كان كل أمر فيه سلطة أمر أو وصاية لصالح غير المسلم على المسلم، مدارَ بحثٍ مطول بين الفقهاء، يكون فيه النفي أو المنع راجحا. فمنع تزويج المسلمة من غير المسلم سببه الاساسي هو منع ولاية الكافر على المسلم، ومنع حكم الذمي القضائي حتى على الذميين، كما وتردد الفقهاء في ولاية الكافر على زوجته وأولاده غير المسلمين، كذلك مال الفقهاء إلى عدم قبول شهادة غير المسلم في المحاكم وتقرير الوقائع. على الرغم من كل ما يقال حول قساوة أحكام الذمة، إلا أنها أوجدت فسحة كبيرة لغير المسلمين في العيش بأمان داخل المجتمع الإسلامي الأوسع، وضمنت لهم حيزاً من الحرية في ممارسة شعائرهم وعباداتهم، من دون إكراههم على اعتناق الإسلام، وكذلك الحرية في نشاطهم الاقتصادي والثقافي، الأمر الذي سمح بحضور لافت لغير المسلمين من النصارى واليهود داخل الحياة الاجتماعية والثقافية بل والسياسية أيضاً. يقول الأستاذ مِتز في كتابه"نهضة الإسلام":"إن ما يميز المملكة الإسلامية عن أوروبا النصرانية في القرون الوسطى. أن الأولى يسكنها عدد كبير من معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام وليست كذلك الثانية. وأن الكنائس والبيع ظلت في المملكة الإسلامية كأنها خارجة عن سلطان الحكومة، وكأنها لا تكون جزءاً من المملكة، معتمدة في ذلك على العهود وما أكسبتهم من حقوق.. كما وقضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فأعان ذلك على خلق جو من التسامح لا تعرفه أوروبا في القرون الوسطى. كان اليهودي أو النصراني حراً أن يدين بدينه، ولكنه إن أسلم ثم ارتد عوقب بالقتل. وفي المملكة البيزنطية كان عقاب من أسلم القتل... وكانت الكنيسة تحرم على النصراني أن يتزوج غير النصرانية إلا إذا تنصرت وكذلك النصرانية لا تتزوج إلا نصرانياً. وكان كثير من المسلمين يتزوجون يهوديات أو نصرانيات ومنهن من تسلم، ومنهن من تبقى على دينها". ويقول أحمد أمين:"ربما كانت الدولة الإسلامية في هذا العصر أكثر الأمم تسامحاً مع المخالفين لها في الدين وخاصة أهل الكتاب واليهود والنصارى، رغم ما يبدو في بعض الأحيان من ظلم وعسف كالذي في عصر المتوكل، وربما وقع على المسلمين من هذا الظلم ما وقع على غيرهم... قديماً، كان الامتزاج بين المسلمين واليهود والنصارى حتى في الأسرة الواحدة، بما أباح الله للمسلمين أن يتزوجوا بالكتابيات. وقد انتشر اليهود والنصارى في نواحي المملكة الإسلامية وأطرافها وداخلها... وانتشرت أديار النصارى في أنحاء المملكة وكانت غنية ببساتينها وخمورها واتصل الأدباء بها وأكثروا من القول فيها". وكان لليهود والنصارى نفوذ كبير في العصر العباسي. في حين كان المسلمون الأوائل لا يرضون باستخدامهم في شؤون الدولة، فقد روى أنه ذكر لعمر بن الخطاب غلام كاتب حافظ من الحيرة، وكان نصرانياً فقيل له لو اتخذته كاتباً فقال:"لقد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين". فعمر ابن الخطاب كان يحسن معاملتهم ولا يستعين بهم في الأعمال. ولكن ذلك لم يدم طويلاً، فاستُخدِموا في الأعمال من عهد معاوية، وزاد استخدامهم في العصر العباسي وزاد سلطانهم. يقول المقدسي:"وقلما ترى به الشام فقيهاً له بدعة أو مسلماً له كتابة إلا بطبرية فإنها ما زالت تخرج الكتاب وإنما الكتبة به وبمصر نصارى". وفي القرن الثالث ولّى بعض الأحيان ديوان الجيش نصراني، وكان المسلمون يقبلون يده. وكان الناصر لدين الله قلد الجيش إسرائيل النصراني كاتبه. وكان لعضد الدولة البويهي في بغداد وزير نصراني اسمه نصر بن هارون، وقد أذن له عضد الدولة في عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقراء النصارى. وقد أثيرت مسألة فقهية، مفادها على لسان صاحب العقد الفريد:"وهل يشترط في هذا الوزير أي وزير التنفيذ لا وزير التفويض الإسلام. حتى لو أقام السلطان وزير تنفيذ من أهل الذمة كان جائزاً أم لا؟ حيث ذهب أبو الحسن البصري إلى جوازه، وذهب الجويني إلى منعه، وعد تجويز ذلك من عالم العراق عثرة لن تقال. وهذا بخلاف وزارة التفويض فإن هذه الشروط معتبرة في حق المباشر لها". كما واتسعت سلطة اليهود والنصارى في أيام الفاطميين بمصر، حيث"ولي يعقوب بن كلس الذي ولي للعزيز نزار بن معز، وعظمت منزلته عنده وأقبلت الدنيا عليه ... ومهد قواعد الدولة وساس أمرها أحسن سياسة ولم يبق لأحد معه كلام. وقد ولى العزيز نزار أيضاً عيسى بن نسطورس النصراني كتابته واستناب بالشام يهودياً اسمه منشأ فاعتز بهما النصارى واليهود". كل ذلك، يوحي بأن أحكام أهل الذمة، لم تكن معمولاً بها بدقة وفق ما نص عليه التفريع الفقهي. بل كان وضع اليهود والنصارى والمجوس، داخل الدولة الإسلامية، جزءاً من التكوين الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وسمة من سمات المجتمع آنذاك. ما يعني أن الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي، كان محكوماً لتفاعلات المجتمع الخاصة، ولنظام قواه الداخلية، ونظام المصالح المتحركة فيه، ومنطق التفاعل الحضاري مع الكيانات السياسية الكبرى المجاورة، ومصلحة الدولة واعتباراتها الإقتصادية والأمنية، أكثر من ارتهانه الكامل للرؤية الفقهية المؤسسة على نصوص معبرة عن ضرورات التأسيس الأولى للدعوة الدينية. اختلاف واقع غير المسلمين التاريخي في"دار الإسلام"عن واقعهم الفقهي أو القانوني، يعني أن أحكام الذمة التي فرعها الفقهاء، لا تعكس واقعهم السياسي. بل تعكس الصورة التي أخذ فيها المجال السياسي ينفصل ويستقل تدريجياً عن المجال الديني، وصارت أحكام السلطة والقضاء والكثير من التشريعات فيها تخضع لاستراتيجيات الدولة ومصالح نخبها بنحو مستقل عن التشريعات الدينية.