القراءة التالية تتناول مؤلفاً وضعه الشيخ يوسف القرضاوي، في العام 1982، بعنوان "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي". ما حفّزه على اعداد دراسة موثقة، أساسها العلم والفكر، ومحورها الفقه والتاريخ، هو تبيان الوضع الشرعي لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي من جميع النواحي، مع مقارنة ذلك بما صنعته الشرائح الاخرى، وما تصنعه العقائد والايديولوجيات المعاصرة بمخالفيها. المضمون لا يتخذ في الحقيقة شكلاً من اشكال الجداليات الإسلامية - المسيحية أكانت تفكراً إسلامياً في المسيحية ام تأملاً مسيحياً للإسلام والمسلمين. ولا هو يستطلع امكانات وارتقابات الحوار بين هاتين الديانتين السماويتين. فالمسألة الجوهرية التي ينشغل في تنفيذها والرد عليها هي الدفاع عن الإسلام ومجابهة مزيفي التاريخ، تأكيده سلامة أوضاع الأقليات غير المسلمة في المجتمع الاسلامي، وتسامح المسلمين معهم باعتبارهم اهل أديان وعقائد اخرى، يمارسون حقوقهم الدينية والدنيوية بحرية وأمان. يمهد القرضاوي بالتشديد على ان المجتمع المسلم هو مجتمع عقيدة وفكرة. ويعرض من ثم دستور العلاقة مع غير المسلمين، منتقلاً الى مسألة "أهل الذمة". فيتوسع في تعريف هذا المصطلح الذي شابته ورافقته تأويلات عدة اختلط فيها الايديولوجي بالديني، والسياسي بالفئوي. فيربط نشوءه بالظروف التأسيسية للمجتمع الاسلامي. ويعتبر ان العرف الاسلامي جرى على تسمية المواطنين من غير المسلمين باسم: "أهل الذمة"، أو الذميين". و"الذمة، بحسب رأيه، معناها العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك لأن لهم عهد الله وعهد رسوله، وعهد جماعة المسلمين، ان يعيشوا في حماية الاسلام. ويستعين بمفاهيم حديثة ليوضح ويطمئن ان هذه الذمة تعطي اهلها من "غير المسلمين" ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية، التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين، ويلتزمون بواجباتهم. ويستخلص بالقول: "فالذي على هذا الاساس من "أهل دار الاسلام"، كما يعبر الفقهاء السرخسي، الكاساني وابن قدامه او من حاملي "الجنسية الاسلامية"، كما يعبر المعاصرون عبدالقادر عودة وعبدالكريم زيدان". ولا يغفل الاشارة الى ان عقد الذمة مؤبد، يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بحماية الجماعة الاسلامية، بشرط بذلهم "الجزية"، والتزامهم احكام القانون الاسلامي في غير الشؤون الدينية، كما انه ينشئ حقوقاً متبادلة لكل من الطرفين: المسلمين وأهل ذمتهم بإزاء ما عليه من واجبات. من الطبيعي اذاً ان يبحث الفصل الاول حقوق اهل الذمة في "دار الاسلام" والتي تساوي حقوق المسلمين، الا في امور محددة مستثناة. فحق الحماية يشمل حمايتهم من الاعتداء الخارجي والظلم الداخلي، فضلاً عن حماية الدماء والأبدان والاموال والاعراض... وينسحب هذا الحق ايضاً على ضمان حرّية التدين، والعمل والكسب، وتولي وظائف الدولة الا ما غلبت عليه الصبغة الدينية. وينقل عن الماوردي في "الاحكام السلطانية" جواز تقليد الذمي "وزارة التنفيذ"" وهذا بخلاف "وزارة التفويض". لكنه يستدرك قائلاً ان التسامح بلغ احياناً حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين، فاشتكوا من تسلط اليهود والنصارى عليهم بغير حق. ويؤكد هذه الواقعة بالعودة الى المؤرخ آدم ميتز في كتابه "الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري". ففي مقابل تمتع غير المسلمين بتلك الحقوق، فرض الاسلام عليهم واجبات مالية متمثلة بأداء الجزية والخراج والضريبة التجارية، التزام احكام القانون الاسلامي في المعاملات المدنية ونحوها، واحترام شعائر المسلمين ومشاعرهم. وبهدف تحديث هذه المفاهيم ورفدها بمتغيرات الواقع الثقافي والتاريخي، لجأ الى المصطلحات الراهنة. فشرح الفرق بين الجزية والخراج. فالأولى فضلاً عن كونها علامة خضوع للحكم الاسلامي، هي في الحقيقة "بدل مالي عن "الخدمة العسكرية" المفروضة على المسلمين. اما الثانية، فهي بمثابة ضريبة الاملاك العقارية اليوم، والعشر بمثابة ضريبة الاستغلال الزراعي. اما الضريبة التجارية، فهي اشبه بالضريبة الجمركية في عصرنا. كما ذكّر بأن التزامهم بأحكام القانون الاسلامي، يقضي بعدم قيامهم بأي تكليف ذي صيغة تعبدية او دينية مثل الزكاة او الجهاد. ويوضح من ناحية ثانية أن ليس عليهم في احوالهم الشخصية والاجتماعية ان يتنازلوا عما احله لهم دينهم، وإن كان الاسلام قد حرمه الزواج، الطلاق، اكل لحم الجنزير وشرب الخمر. وفي ما عدا ذلك، فهم ملزمون بالتقيد بأحكام الشريعة في الدماء والاموال والاعراض، اي في النواحي المدنية والجنائىة ونحوها، وباحترام شعور المسلمين ومراعاة هيبة الدولة الاسلامية التي تظللهم برعايتها. ويبحث لاحقاً في درجات التسامح الديني والفكري وحظ المسلمين منها، والمراتب الثلاث التي يجري عليها. والى جانب هذه الحقوق التي تضمنها القوانين ويلزم بها القضاء، يتوقف ملياً عند الروح التسامحية التي لا تكاد توجد في غير المجتمع الاسلامي، وتبدو في حسن المعاشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار. ومن ثم يعدد العناصر الاربعة التي يقوم عليها الاساس الفكري للتسامح. ويستعين بشهادة التاريخ على مظاهر التسامح الاسلامي من خلال عرض نماذج عملية عن معاملة أهل الكتاب مسيحيين وزرادشتيين ويهود وصائبة في العصرين الأموي والعباسي. وعملاً بمبدأ "الضد يظهر حسنه الضد"، يعقد في الفصل الاخير مقارنات بين معالم التسامح الاسلامي وما تفعله الأديان والعقائد الاخرى لمخالفيها. ويستشهد على ذلك بأمثلة تاريخية متعددة فتح الأندلس، مسلمو الحبشة، مسلمو الدول الشيوعية، مجازر الشيوعيين والنازيين، الكنيسة الاسبانية واضطهادها لليهود والمسلمين، الصراعات بين الكاثوليك والبروتستانت في اوروبا، الحملات الصليبية، موقف المسيحية ومحاكم التفتيش في العصور الوسطى.... أصاب القرضاوي في توصيف رؤية المسلمين للآخر، ولأهل الكتاب تحديداً، وتبيان اوضاعهم الدينية والدنيوية في المجتمع الاسلامي، وتأكيد سياسات التسامح من خلال عرض طرائق تعاملهم معهم، عبر مختلف العصور، فالإشكالية المطروحة والمنهاج المتبع والامثلة المثبتة والمعبرة عن البيئات العامة لدى المسلمين في ما يتصل بغيرهم تظهر صورة محببة، مفترضة ومعيوشة. ولا غرو في ذلك، فتمكنه هذا النوع من التأملات، والعدة المعرفية التي يركن اليها، واستنطاقه القرآن والسنة في هذا الشأن، ساعدته على صوغ اعتراف لأهل الكتاب بديانتهم التوحيدية وحيواتهم وحرياتهم الدينية. لكن وجهة النظر الاحادية هذه، والمستندة الى الصورة القرآنية للمسيحية واليهودية، تشوبها بين الحين والآخر إطلاقية ونهائية وتعميم شامل. وهو على رغم عدم لجوئه الى مجادلات إنكارية جاحدة، واعترافه بالاعتقادات الاساسية للآخرين، فقد استعاد موضوع واسلوب الخطاب الاسلامي التقليدي الذي يمزج بين اليهودية والمسيحية والغرب والشيوعية والاستعمار والاستشراق... وهو إن طمأن غير المسلمين، فهو لم يبدد هواجسهم المعاصرة بقدر ما ثبّت ايمان المسلمين بدينهم وجماعتهم وأكد تسامحهم. فرؤيته أشبه ما تكون "بالتبشيرية" التي تعتمد المقاييس والخطابات الكلاسيكية. والكتابات والنصوص العقدية التي يلجأ اليها ذات ثبات نسبي، واستشهادات المستشرقين ومعاصريهم من عرب ومسلمين تدخل في باب الكلاسيكيات الجدالية. لذا، فما يرشح من متن الكتاب يظهر انه لا يخرج عن التوجهات الكبرى لهذا النوع من المقاربات. صحيح انه وضع مؤلفه هذا منذ اكثر من عقدين، ولكن الواقع الثقافي والجيوسياسي الذي نعيشه في اوائل الالفية الثالثة، قد افضى الى متغيرات عدة تحتاج الى فتح آفاق جديدة للجدال والنقاش والى طرح اسئلة معاصرة تبدد سوء الفهم بين أتباع الديانات الثلاث. فتجاوز "الكليشيهات" التقليدية في هذا النوع من المقاربات واجب وأساسي في مجال فهم الآخر" وخصوصاً بعدما تطور الخطاب الاسلامي نفسه، واستقرت الى حد كبير العلاقات بين الديانات والثقافات على رغم شيوع مقولة صراع الحضارات. مطالعتنا اليوم لدراسة اعدها القرضاوي في ثمانينات القرن المنصرم لا تشفي غليل القارئ المتنبه في بحثه عن مكامن التلاقي المأمول لدى المسلم المعاصر تجاه ابناء الديانات، وفي اطار سياسات السلام الاجتماعي والعيش المشترك والأمان والاستقرار. فالمشهد الذي نخلص اليه يعطي صورة ايجابية عن المسلمين، والعناوين الرئيسة تسامحية المنحى. ولكن قراءة هذا النوع من الجدال ينبغي ان تكون، كما يقول رضوان السيد المسيحية والاسلام مراياه متقابلة، قراءة تجاوزية مثل قراءتنا لسائر التراث العربي الاسلامي: الاستيعاب النقدي، والتجاوز، وليس إحياء التراث. فعلائق المسلمين اليوم بغير المسلمين - عرباً كانوا أو أعاجم - وتشاركهم في مجابهة الاشكاليات الوجودية، وانعكاس ذلك كله على أوضاعنا الثقافية العربية، هو المأمول من اي دراسات مشابهة لا تنظر الى الآخر بصفته مختلفاً ومتمايزاً فحسب" بل تعترف بنديته بانسانيته، بحريته وبمعتقداته. * أستاذ في الجامعة اللبنانية.