في أثناء 27 سنة من عمر السياسة الاقتصادية الصينية الجديدة التي أطلقها دينغ هسياو شياو بينغ، في 1978، خرج من الصين للدراسة 815 ألف طالب، هم نخبة الطلاب. ولم يعد منهم الى الصين إلا ربعهم. ومع ازدهار البلد وتعاظم شأنه ودوره، والإنفاق الحكومي، زاد عدد العائدين، ومعهم بعض الأساتذة الغربيين. وبعض العائدين الصينيين الى البلد الذي ولدوا فيه يقارنون بين طلابهم السابقين في الولايات المتحدة وبين طلابهم في الجامعات الصينية، حيث عادوا ليدرسوا. فيلاحظ هوانغ مينغ، الأستاذ السابق في جامعة كورنيل الأميركية، ان ثلثي طلابه الحاليين في ماجستير الأعمال هم من مديري الشركات، وليسوا من الشباب العشرينيين. وهذا الصنف من الطلاب يتيح للأستاذ التأثير المباشر في السياسة الاقتصادية الوطنية، وفي بعض مناهج الإنتاج والإدارة. والمدرس الكندي، دانييل بيل، دعاه الى التدريس في جامعة تسينغهوا ببكين اختلاطُه بالطلاب الصينيين الشباب، ورصده مباشرة اختباراتهم وأفكارهم. ومكنه هذا من كتابة كتاب موثق ومتين في المسألة. ولكن العودة الى الصين لا تخلو الى اليوم من المجازفة. فالرواتب متدنية، وترك التدريس في الجامعات الأميركية غالباً يفقد الأستاذ اقدميته إذا قرر استئناف تدريسه فيها، على ما هي الحال غالباً. ولا تزال القيود على حرية التعليم في الصين ثقيلة. وشطر كبير من الطلاب لم يعتد بعد الدراسة غير الموجهة والمبرمجة. وتسعى الحكومة الصينية لمعالجة المعوقات هذه. فتعطي العائدين أو"سلاحف البحر"على ما تسمى محلياً، مناصب تعليمية مرموقة، وتخولهم إدارة أبحاثهم، وترصد مبالغ كبيرة للأبحاث قد تبلغ نحو 300 ألف دولار أميركي. ولكن الصين تشترط، لقاء هذا، تخلي الباحث أو المدرس العائد عن جنسيته غير الصينية ليعود إليها وحدها عائد أبحاثه. ومنذ 1994، استمالت الخطة نحو ألف باحث. وتستميل بعض كليات إدارة الأعمال والإدارة المالية أساتذة غربيين. فعميد كلية إدارة الأعمال في جامعة جياوتونغ بشنغهاي، وهو مدرس بجامعة كولومبيا اولاً، يبحث عن 40 أستاذاً يتعاقد معهم. وكليته الصينية رصدت 17 مليون دولار، من رسومها، يفترض ان تسدد منها رواتب الأساتذة الأجانب المتعاقدين ويرى بعض الأساتذة ان الصين حقل اختبار عظيم في وسع العلوم الاجتماعية والاقتصادية والإدارية الإفادة منه. والقيود السياسية على التعليم، على رغم ثقلها، أقل ثقلاً منها في بلدان قريبة مثل سنغافورة. والإنترنت يفتح أبواب التفاعل، ويقلل مخاطر العزلة. وفي الأثناء، تخوض بلدان أخرى، مثل اتحاد الإمارات العربية وأولها دبي، معركة طويلة في سبيل اجتذاب أساتذة ذوي كفاءة عالية، واستقطاب طلاب لا يقصرون تحصيلهم على بلد واحد. ففي 2005 كان جمهور طلاب التعليم الجامعي في العالم يعد 138 مليوناً. ويفوق العدد 40 في المئة نظيره قبل 7 سنوات. وتعاني الجامعات الأميركية والبريطانية والكندية والأسترالية، قصوراً عن استيعاب الطلب المتعاظم هذا. وحملت تعقيدات السفر الى الولايات المتحدة، غداة هجمات 11 ايلول سبتمبر 2001، جماعات من الطلاب على التوجه الى مرافق أقرب متناولاً. ففي 1999 - 2004، زادت نسبة الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة على 10 في المئة. وتحفز الزيادة الحاصلة والمتوقعة بلداناً كثيرة على إعداد العدة لاستقبال الطلاب. وعلى هذا، تفتتح بلدان الخليج والصينوسنغافورة مراكز جامعية جديدة تعزز مكانتها. ويقارن جامعيون أميركيون المنافسة الجامعية اليوم بالمنافسة بين مصانع السيارات الآسيوية والأميركية قبل 40 سنة. فيومها بدت مواقع الصناعات الأميركية والأوروبية أقوى من مثيلاتها الآسيوية، اليابانية والكورية الجنوبية، بما لا يقاس. ولكن هذه سبقت منافساتها القوية وتقدمتها. فالصين، اليوم، مركز دولي للتعليم. وزاد عدد الطلاب الأجانب في جامعاتها 3 أضعاف مقارنة بما كان عليه قبل عقد. وتستثمر 4 بلايين دولار في بعض افضل جامعاتها التي ترعى مراكز أبحاث. ومنذ 2006، ثمة 700 برنامج تعليمي أجنبي في الصين. وزادت سنغافورة عدد طلابها الأجانب، في الأعوام الخمسة الأخيرة، ثلاثة أضعاف، فباتوا 13 في المئة من جملة طلاب جامعاتها وأقامت جامعات سنغافورة شراكة مع معاهد اجنبية مشهورة مثل جامعة شيكاغو، وكلية الأعمال الفرنسية. وتخطط حكومة سنغافورة لاستقبال 150 ألف طالب اجنبي في 2015 ويعترض إنجاز الخطة أمران: الارتباك المالي والقيود على الحريات الأكاديمية والتعليمية. وأنفقت كوريا الجنوبية على تعليمها العالي 26 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي. وهو الإنفاق الأعلى بعد الإنفاق الأميركي، وأكثر من ضعفي الإنفاق الأوروبي. وفي غضون الأعوام الخمسة الآتية تستثمر سيول بليوني دولار في برامج أبحاثها الجامعية. وهي تبني حرماً جامعياً واسعاً، دعت جامعة نيويورك وجامعة نورث كارولاينا الحكوميتين الى الإسهام وفتح فرعين لهما فيه. ولكن الإنفاق الكبير هذا لم يثمر إلا إلى توجه 22 ألف طالب أجنبي الى الجامعات الكورية، لقاء 66 ألفاً الى جامعات سنغافورة. واختار 218 ألف طالب كوري الدراسة خارج بلدهم في 2006. وتنفق بلدان الخليج العربية عشرات البلايين من الدولارات على الخطط التعليمية، وتقدمت حواضر التعليم الجديدة على المدن التقليدية مثل القاهرة وبيروت وبغداد. وتكثر في دبي وأبو ظبي الندوات الدراسية، والشبكات الإعلامية المستقلة والمتاحف ومعارض الكتب ومهرجانات الأفلام السينمائية، وتستجيب الجامعات العالمية المرموقة دعوة البلدان الخليجية الى إنشاء وكالات وفروع لها واستضافتها، على ما صنعت جامعات كورنيل وكارنيغي ميلون وجورجتاون وتكساس أي اند ام ونورث ويستون الأميركية. واستضافت أبو ظبي حرماً تديره جامعة السوربون الفرنسية. وتفتتح في الخريف، حرم جامعة نيويورك، وعقدت دبي شراكة مع هارفرد ومدرسة لندن للأعمال وجامعة بوسطن. وتبني دبي وقطر وأبو ظبي مجمعات علمية وتقنية وبحثية كبيرة. وقياساً على بلدان قريبة، تتيح البلدان هذه حرية تعليم واسعة، وحرية الأجانب والمقيمين الاجتماعية تكاد تكون غير مقيدة. ولعل إقامة شباب من جنوب آسيا والشرق الأقصى وافريقيا وأوروبا ببلدان الخليج من دواعي إقبال الجامعات الأوروبية على افتتاح فروع ووكالاتها لها في البلدان هذه. ويحذر بعض المراقبين المحليين من ان شرط استقرار الجامعات في البلدان المضيفة توافر عدد من الطلاب المتفوقين. فقلة هؤلاء تضعف حظوظ الجامعات في الدوام والاستمرار وتلاحظ ماري ? آن تيترو، وهي تعمل في جهاز منحة فولبرايت للمتفوقين ومدرسة جامعية، ان مستوى الطلاب المحليين حملها على تبسيط محاضراتها في العلاقات الدولية ومقرراتها. فالجامعات الأميركية تفترض في طلابها مقدرات واستجابات لم يحصّلها الطلاب الخليجيون المحليون، ولا أعدهم تحصيلهم المدرسي السابق لها. فهم يفتقرون للمهارات الأولى الأساسية، وقاعدة الرياضيات والعلوم ضعيفة، وعادات الدراسة و"المذاكرة"غير مناسبة. وتشكو مراكز التعليم العربية التقليدية، مثل القاهرة وبغداد وبيروت، الضائقة الاقتصادية والاضطرابات والمنازعات. فتأخرت مكانتها وتقهقرت، وتردى ارتيادها وتقلص، بينما عمدت المرافق الجديدة، الخليجية، الى منافستها. وتلاحظ مديرة المكتب الإقليمي لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، ريما خلف الهنيدي، ان الجامعات العربية التقليدية تنوء بالغبار والإيديولوجيات. ولم يسجل برنامج الأممالمتحدة الإنمائي صدور أبحاث متقدمة عن الجامعات هذه منذ سنوات. فالحرب الأهلية في لبنان قسمت جامعاته وشرذمتها شراذم طائفية. وقضت الحرب على البقية الباقية من الحياة الأكاديمية في العراق. وتعاظم عدد الطلاب المصريين، وهو بلغ 50 ضعفاً في جامعة القاهرة مثلاً، حطم أبنية التعليم الجامعي وصدعها. وتقييد حرية التعبير، وإلغاء استقلال الجامعات، نجم عنهما خواء الحياة الأكاديمية. فلجأ المتعلمون والمعلمون الى الهجرة. وفي ال30 سنة المنصرمة، هاجر 23 في المئة من المهندسين العرب، و50 في المئة من الأطباء. وتقدر"يونسكو"خسارة البلدان العربية حائزين على شهادة دكتوراه، في السنة الواحدة، ب10 آلاف. وتفوق الخسارة العربية نظيرها الصيني بأربعة أضعاف. ولا تعوض المراكز الخليجية الجديدة خسارة المراكز القديمة مكانتها ودورها. ويصف بعض قدامى الجامعيين العرب المرافق الجديدة بپ"مدن ملاه"اكاديمية. وتخشى الجامعات الأجنبية استجابة دعوات مراكز أكاديمية تقليدية الى الاستضافة خوفاً من استيلاء حركات اصولية على الحكم في بلدانها. والقيود على العادات، وعلى التبادل السياسي، تحول دون قبول الضيافة السخية. وليس التعليم الإيراني، والجامعيون الإيرانيون، أحسن حالاً من التعليم في البلدان العربية وفي عدد من بلدان العالم النامي. فعلى رغم ان الطلاب الإيرانيين الذين يتلقون دراستهم في جامعة الشريف للعلوم والتكنولوجيا مبرزون في امتحانات جامعة ستانفورد التمهيدية للدكتوراه في الهندسة، على ما كانت الحال في 2003، لا تستفيد الجامعات الإيرانية التي جاؤوا منها، وتولت إعدادهم، من بروزهم وتفوقهم. وهؤلاء الصفوة هم المتبقون من 1.5 مليون طالب ثانوي يترشحون لدخول الجامعات. وينجح 10 في المئة منهم في اجتياز عتبة الجامعات المرموقة. وواحد في المئة من هؤلاء تستقبلهم جامعة مثل جامعة الشريف، ويدرسون فيها العلوم. وتخرج جامعة طهران، وجامعة اصفهان للتكنولوجيا، الى جامعة الشريف، ناجحين في مباراة ستانفورد لطلاب الدكتوراه، ومتبارين ممتازين في الدورة الأولمبية العالمية لعلوم الفيزياء والكيمياء وعلوم"الروبوت"والرياضيات. وتنبهت شركات وادي سيليكون الإلكترونية والمعلوماتية، مثل غوغل وياهو، الى النابهين الإيرانيين. وعليه، يسافر 90 في المئة منهم الى جامعات الخارج، ومعظمهم الساحق يبقى حيث يتلقى تعليمه العالي. فتوافد طلاب الجامعات العلمية الإيرانية الى كندا بأعداد فاقت أعدادهم، منذ 1985، ب240 في المئة، وإلى استراليا ب500 في المئة، في السنوات الخمسة الأخيرة. وتضطلع العقوبات والمعوقات الدولية على إيران، وحكمها، بدور يحفز الطلاب على الهجرة. فالعقوبات تحظر على الإيرانيين نشر أعمالهم في التنقل وإعطاء السمات. والطلاب اللامعون الذين يحاولون إنشاء أعمال داخل ايران يحبطهم سعي الموظفين والمسؤولين الحكوميين في اقتطاع حصة كبيرة وباهظة من عوائدهم. فلا سبيل إلا الهجرة إما الى الغرب، وهو المقصد المفضل والأثير، أو إلى بلدان الشاطئ العربي من الخليج. والمشكلات التي يعانيها التعليم في أوروبا والولايات املتحدة من صنف مختلف. والتعليم الثانوي هو مضمار المشكلات هذه. وهي تصيب التعليم الجامعي بعد إصابتها المرحلة التي تسبقه. وتحسين نوعية التعليم شرطه طرح قضايا فكرية على الطلاب تستحث رشدهم وقوتهم على الابتكار ويقتضي هذا استبدال مواد أساسية متنوعة بالكتب النمطية المدرسية، ودعوة التلامذة الى إعمال ذهنهم فيها. ويقتضي تدريسهم على أيدي خبراء مختصين ومجربين، وليس على يد مدرسين تقليديين ثبتوا على معارفهم. وعلى الخبراء المدرسين استلهام المسائل والموضوعات الجارية والراهنة والمتجددة، وتقديم الدراسات الإحصائية وحساب الاحتمالات على الجبر القديم، وقوامه حساب التفاضل والتكامل، والتدريس يشكو التخلف الاجتماعي. ويفترض التلامذة على صورة اولاد قصّر كبار يكادون لا يشبهون الشبان الراشدين المعاصرين. عن ماري هينوك وزفيكا كريفير وأفشين مولافي وليون بوتستين ، "نيوزويك" الأميركية ، 19-26/8/2008