قبل أيام تلقيتُ من أحد أساتذتي مقالة عن أسباب زوال المعتزلة، وزوال تأثيرهم، وضياع كتبهم. وقد ذكّرتني المقالة بكلام المستشرقين في مطالع القرن العشرين، والذي كرره أحمد أمين في"ضحى الإسلام"، وآخرون من مؤرّخي الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين. وخلاصة الأحكام التي أصدرها هؤلاء أن المعتزلة من أحرار الفكر، عانوا خلال قرنَي ازدهارهم من عسف السلطات، ومن رجعية الطبقة الدينية، فتضاءل نفوذهم الفكري بعد القرن الرابع، وأعدم خصومهم كتبهم، وساد الفكر الجبري والصوفي الأشعري على مدى التاريخ الإسلامي! والواقع أن هذا الحكم كان صحيحاً جزئياً أي من حيث ضآلة عدد الكتب المعتزلية الموجودة بين أيدينا حتى آخر الأربعينات عندما اكتشفت البعثة المصرية من الإدارة الثقافية في الجامعة العربية في صنعاء، في مكتبة الجامع الكبير عشرات المجلدات من كتب القاضي عبدالجبار بن أحمد المعتزلي، أهم مفكري المعتزلة في القرن الرابع الهجري. وقد استوعب القاضي عبدالجبار الفكر المعتزلي كله في مؤلفاته، وأقبل على تصنيفه وتركيبه والتفكير فيه. ومن طريق القاضي عبدالجبار عرفنا الجبّائيين من شيوخه: أبو علي وابنه أبو هاشم. وكان أبو هاشم أبرز أولئك الذين سيطروا على الفكر المعتزلي بعد القرن الرابع. وبعد كتب القاضي عبدالجبار، جرى اكتشاف مؤلفات معتزلية عدة حفظها المفكرون الزيديون في اليمن، وبقيت في مجموعاتهم الخاصة، أو فيما اجتمع بالجامع الكبير بصنعاء ومكتبة الأوقاف. وكان آخر ما اكتُشف قبل أشهر مفاجأة لا تكاد تُصدّق. ففي مخطوطة يمنية من العام 540 ه. وجد أحد المتابعين كتاب"التحريش"لضرار بن عمرو الغطفاني، والذي مات زمن هارون الرشيد، وهو بخلاف كل الآخرين من أبناء جيله، من الكوفة، وليس من البصرة، واسم الكتاب يعني تحريض الناس بعضهم على بعض، من طريق إعطاء الحق لفريق، ثم نقض هذا الحق عند اعتراض فريق آخر! فالكتاب يتضمن نقداً لاذعاً لكل الفِرَق المعاصرة حتى الجهمية الذين يقال إن ضراراً كان يميل إليهم! وهو مكتوب في ما بين العامين 170 و180 ه. وهذا يعني أنه من الجيل الأول لتلامذة واصل بن عطاء، إذا صح أنه كان معتزلياً خالصاً! وسأنشر هذا النص مع دراسة مستفيضة عنه خلال أشهر قليلة، وهو حريٌّ أن يضيف الى معلوماتنا كثيراً ليس عن المعتزلة الأوائل وحسب، بل وعن سائر الفِرَق. فعلى سبيل المثال كنتُ أرى أن تعبير"أهل السنّة والجماعة"يعود الى الربع الأول من القرن الثالث الهجري. وكانت لدي أدلتي على ذلك وبينها رسالة المأمون الى واليه على بغداد في تهديد أحمد بن حنبل وأصحابه عام 218 ه. ونحن نعلم الآن أن التسمية أقدم بحوالى الخمسين سنة، لأن ضِراراً يذكر مرتين هذه الجماعة بالكوفة، ويتحدث عن آرائها ناقداً ومستهجناً! وإضافة الى كتب المعتزلة التي تظهر تباعاً بعد طول اختفاء، صرنا نعرف الآن أن تأثيرهم لم يَزُلْ أو يضعف بعد القرن السابع الهجري. فكلُّ الفكر الكلامي الزيدي مأخوذ عن المعتزلة، بما في ذلك أجزاء من نظريتهم في الإمامة. وما اقتصر الأمر على كتب علم الكلام والعقائد، بل تعدى ذلك لتفسير القرآن. إذ وجد دانييل جيماريه عالم الإسلاميات الفرنسي المشهور، في كتاب"التهذيب في التفسير"للحاكم الجشمي -494 ه المعتزلي الزيدي، أربعة آلاف اقتباس من تفسير أبي علي الجُبّائي - 303 ه أكبر رجالات المعتزلة في القرن الثالث الهجري. وقد استطاع تلميذي الدكتور خضر نبها، وبالعودة في شكل رئيس الى تفاسير الشيعة الإمامية، أن يركّب في ستة مجلّدات ثمانية من تفاسير المعتزلة في القرنين الثالث والرابع. بل وجد د. نبها عشرات الاقتباسات في تفاسير المعتزلة منسوبة إليهم في التفسير الكبير لفخر الدين الرازي - 606 ه السنّي الأشعري. وما استطاع أحد من علماء التفسير، من مختلف الفِرَق والمذاهب، تجاوز تفسير الزمخشري المعتزلي العنيف، المسمّى بالكشّاف، على رغم انزعاجهم من آرائه الاعتزالية! بيد أن التأثيرات الكبيرة للمعتزلة ما اقتصرت على المتكلمين والمفسِّرين المسلمين من أتباع المذاهب الأخرى. بل تعدّتهم الى اليهود والمسيحيين. وما جرت دراسة التأثيرات المباشرة لعلم الكلام الإسلامي على اللاهوت المسيحي لدى السريان والأرثوذكس، وإنما نعرف التأثيرات العامة على اللاهوت الكاثوليكي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من خلال الغزالي وابن رشد وابن سينا. أما المفاجأة فهو ما جرى اكتشافه قبل مدة من تأثير كبير ومباشر لعلم الكلام المعتزلي على متكلِّمي اليهود من الربِّيين والقرّائين. ففي القرنين الخامس والسادس للهجرة نجد المتكلمين من التيار الرئيس الربّيون منهمكين في دعم وتأييد كلام القاضي عبدالجبار - 415 ه في التدليل على وجود الله، والرد على أحد معاصريه من المعتزلة وهو أبو الحُسين البصري - 436 ه والذي تأثّر بالفلاسفة، وحاول التجديد في المنهج المعتزلي، مما أثار عليه حفائظ كل المعاصرين، ومن المعتزلة واليهود! المنتصر للقاضي عبدالجبار كان المتكلم اليهودي يوسف البصير، والذي كان مثل المتكلمين الآخرين من مسلمين وغير مسلمين، لا يحبُّ الفلاسفة ولا مناهجهم، في حين كان الفلاسفة يعتبرون أنفسهم أصحاب العلم البرهاني الصافي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! وهكذا فإن الاتجاه الرئيس في اللاهوت اليهودي، ومن يوسف البصير الى موسى ابن ميمون كان اتجاهاً يتبنى الاعتزال البهشمي نسبة لأبي هاشم الذي حمله وشرحه القاضي عبدالجبار. لكن القرّائين، وهم الفرقة الزهدية اليهودية التي ظهرت في القرن الثامن الميلادي فترة ظهور المعتزلة، كانت ذات اتجاه اعتزالي أيضاً. بيد أن ممثلها في القرن الخامس الهجري سهل بن الفضل التُستَري، تجاوز القاضي عبدالجبار، وتبنى اتجاه خصمه ومنافسه أبا الحسين البصري، الذي أراد التجديد في المذهب المعتزلي استناداً الى الثقافة الفلسفية التي كان يملكها باعتباره طبيبا.، وكما هو معروف، فإن الفلسفة الأرسطية والجلينوسية كانت وقتها ضمن ثقافة الأطباء، وما يتلقونه من تعليم. التُستري هاجم القاضي عبدالجبار وأنصاره من المتكلمين اليهود، وأخذ بوجهة نظر البصري في الأدلة على وجود الله. وقد تعاصر التُستري مع متكلِّم معتزلي أوحد هو ابن الملاحمي، انتصر أيضاً في هذه المسألة لشيخه البصري، مفارقاً الاتجاه الرئيس في الاعتزال آنذاك. من أين عرفنا هذا كله؟ عرفناه طبعاً من كتابات المتكلمين اليهود. لكن أولئك المتكلمين، ما اكتفوا مثل الأشاعرة بنقل أو تلخيص كلام شيوخ الاعتزال ليردوا عليه، بل قاموا بترجمة كتابات معتزلية الى العبرية، أو اقتبسوها بنصوصها العربية، لكن بحروف عبرية. وفي هذه الترجمات العبرية أو المُعبَّرة عثر الباحثون على كتب أو أجزاء من كتب لمعتزلة القرنين الرابع والخامس للهجرة ما كنا نعرفها من قبل بنصوصها، لا في آثار الزيدية أو الإمامية. ومن ذلك جزء من المُغني للقاضي عبدالجبار ليس بين الأجزاء التي وُجدت في اليمن. ومن ذلك أيضاً كتاب في ثلاثة مجلدات لأبي الحسين البصري اسمه:"تصفُّح الأدلة"أي مُراجعتها ونقدها. والمخطوطات العبرية هذه موجودة في الجنيزات جمع جنيزا، وهي الغُرَف الملحقة بالكُنُس اليهودية بالقاهرة وغيرها، والتي كانت توضع فيها الأدوات والوثائق والعقود والمخطوطات، من أجل التخزين، وفي مجموعة فيركوفتش بالمكتبة الوطنية ببطرسبرغ. ومنذ سنوات يقوم الأستاذ المعروف ويلفريد مادلونغ، وتلميذته سابينا شميدكه، بنشر هذه النصوص مُعادةً الى العربية، وكتابة دراسات عنها. وفي المؤتمر الرابع للمخطوطات بمكتبة الإسكندرية قبل ثلاثة أشهر، وكان هذه المرة تحت عنوان:"المخطوطات المطويّة"، كان هناك حديث عن المطويات المعتزلية، بأحد معنيين: مخطوطات كانت ضائعة ووُجدت من مثل التحريش لضرار بن عمرو، ومن مثل ما كان مختفياً تحت غطاء العبرية. والمعنى الآخر: النصوص التي أُعيد جمعها وتركيبها من الاقتباسات الكثيرة عنها. ومن ذلك ما فعله دانييل جيماريه من جمعٍ لتفسير الجبّائي من كتاب التفسير للحاكم الجشمي، وما قام به الدكتور خضر نبها من جمعٍ وتركيب لتفاسير المعتزلة الأوائل.