تزدهي المدن الناهضة ببناتها وتحرص عليهن باعتبارهن ثروة بشرية، ومصدراً من مصادر الرفعة والجمال. وتظهر بين الحين والآخر كتب تحتفي ببنات هذه المدينة أو تلك. ظهر أخيراً مثلاً كتاب"بنات عمان أيام زمان"للدكتورة عايدة النجار، عرضت فيه ما اختزنته من ذكريات عن نفسها وعن زميلاتها، إبان دراستها في مدارس عمان في خمسينات القرن العشرين. وظهرت من قبل رواية"بنات الرياض"لرجاء الصانع، تطرقت فيها إلى بعض ما هو مسكوت عنه في مجتمع محافظ. وبالطبع، ثمة كتب أدبية وروايات، قبل هذين الكتابين وبعدهما، ألقت الضوء على نماذج نسائية متنوعة، في مدن عربية مثل القاهرة والاسكندرية والدار البيضاء وطنجة وبيروت ودمشق وبغداد. وتناولت بعض الأغاني الشائعة في البلدان العربية بنات المدن، وأبدت اهتماماً بهن وبجمالهن. ولم تتردد السينما المصرية منذ نشأتها وحتى الآن، في تناول هذا الموضوع الذي ظهر ويظهر في أسماء بعض الأفلام. ولربما كانت بنات القدس أقل حظاً من بنات المدن العربية الأخرى في التطرق اليهن، والاعتراف بما لهن من فضل في العلم والأدب والفن، وفي النضال من أجل النهضة والتنوير، والتحرر من الاحتلال. في كتابيها:"أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينات"و"أدوار المرأة الفلسطينية في الأربعينات"، تقدم الدكتورة فيحاء عبدالهادي، ومعها فريق من النسوة الباحثات، إضافة مهمة لم تتوافر من قبل على هذا النحو، في التاريخ المدون عن نضال النساء الفلسطينيات، وعن إسهامهن في تأسيس الجمعيات المتعددة الأهداف. ولنساء القدس وبناتها نصيب في هذين الكتابين، حيث نجد ذكراً لأسماء عدد منهن، من أمثال: شهندا الدزدار رئيسة جمعية النساء العربيات في القدس، وزليخة الشهابي التي أصبحت في ما بعد رئيسة الاتحاد النسائي في القدس. وحينما يتعلق الأمر بالأدب، فسوف نجد في"سداسية الأيام الستة"لإميل حبيبي، وصفاً لبنت مقدسية معتقلة في السجون الإسرائيلية، وهي تكتب رسالة لأهلها تعدد فيها ما ترغب فيه من ملابس ومأكولات، وتكون معنوياتها عالية على رغم السجن والسجان. وفي بعض الروايات الفلسطينية الأخرى وكذلك القصص القصيرة، ثمة ظهور لبنات مقدسيات أو فلسطينيات عاملات في القدس، مثلاً: رفيف، بطلة رواية"عباد الشمس"لسحر خليفة، وهي فتاة متمردة على الأوضاع الاجتماعية السائدة، ذات نزعة نسوية دفعتها إلى الاستقالة من عملها في مجلة"البلد"المقدسية، لأنها لا تتماهى مع قناعاتها الفكرية. وربما كانت سلطانة عبده، زوجة المربي الفلسطيني التنويري خليل السكاكيني، هي أكثر بنات القدس حظوة من حيث التطرق إلى ما لها من سمات ومزايا. فقد عبر السكاكيني عن مدى افتتانه بها في يومياته التي ثابر على تدوينها كل يوم تقريباً ابتداء من العام 1907. وحينما ماتت، فجع بموتها وثابر على زيارة قبرها، سنتين كاملتين. ولم ينقطع عن ذكرها في يومياته التي استمر يدونها حتى وفاته في العام 1953. ربما كانت المقدسية فاطمة البديري من أجرأ بنات المدينة في ثلاثينات القرن العشرين وما أعقبها من سنوات، حينما التحقت بالإذاعة الفلسطينية في القدس، واشتغلت مذيعة ومعدّة للبرامج. كان ذلك يعتبر اقتحاماً غير عادي لميدان غير عادي آنذاك، حينما تعمل امرأة في وسطٍ أغلب العاملين فيه من الرجال، وحينما ينطلق صوتها الأنثوي عبر الأثير مخاطباً أناساً كثيرين في أماكن شتى. وربما كانت رجاء أبو عماشة، التلميذة التي استشهدت في العام 1955 وهي تنزل العلم البريطاني عن سطح مبنى السفارة البريطانية في القدس، احتجاجاً على حلف بغداد الاستعماري، من أكثر البنات شهرة بعد استشهادها. فقد طبعت من صورتها الشخصية عشرات آلاف النسخ، ووزعت في كل مكان وفي شتى المناسبات، باعتبارها شهيدة الحركة الطالبية في القدس. ولعل نظرة على التاريخ الفلسطيني المعاصر، توضح مدى الدور الذي اضطلعت به بنات القدس ونساؤها للتعاطي مع الحداثة ومستلزماتها. فقد التحقت أعداد غير قليلة من بنات المدينة بالمدارس التي أنشأتها البعثات التبشيرية في القدس، منذ أواخر القرن التاسع عشر. وكانت مدرسة بنات صهيون التي تشرف عليها إدارة فرنسية، وكلية القدس للبنات التي تشرف عليها إدارة بريطانية، من أبرز هذه المدارس التي اضطلعت بتعليم بنات المدينة وتخريجهن. إزاء هذه النهضة المبكرة، وإقبال بنات القدس على تلقي العلم في المدارس وفي الجامعات العربية والأجنبية، فقد كان من المتوقع أن يشاركن في النضال الذي خاضته الحركة الوطنية الفلسطينية، حيث تشكلت تجمعات وجمعيات نسائية لأغراض سياسية وأخرى خيرية واجتماعية وفنية، وشاركت نسوة وبنات من القدس في الاحتجاجات وفي التظاهرات السلمية، ضد سياسة الانتداب البريطاني والغزوة الصهيونية منذ مطالع القرن العشرين. ومما له دلالته أن أول تظاهرة أجريت في القدس ضد الاحتلال الإسرائيلي بعد عدوان 1967، قامت بها نساء المدينة وبناتها بعد عام من وقوع الاحتلال، كاسرات بذلك حاجز الرهبة والخوف من عسكر المحتلين، وبعد ذلك كثرت التظاهرات التي شارك فيها رجال ونساء. وليس من شك في أن النكبة التي وقعت في العام 1948، ألحقت بالقدس ضرراً فادحاً، وألحقت ببناتها ونسائها ضرراً أفدح. فقد أُفرغتْ من أهلها الفلسطينيين، الأحياءُ التي كانت تسكنها نخبة من المقدسيات والمقدسيين من أبناء الطبقة الوسطى، ذوي النزعات التحررية النهضوية الطالبية والقطمون تحديداً، واستولى عليها الصهاينة باستيلائهم على القدس الغربية، ما عرّض أهل المدينة مثلما عرض المجتمع الفلسطيني كله، للتبديد ولتصفية منجزاته الحداثية التي كانت تتراكم سنة بعد سنة. وخلال الأعوام التي فصلت النكبة عن النكسة، استطاعت القدسالشرقية أن تنهض على نحو ما من جديد، وواصلت بناتها تحصيل العلم في المدارس وفي الجامعات، مثلما واصلن العمل في ميادين مختلفة وبخاصة في مهنتي التعليم والصحة. وشاركت نسوة وبنات في العمل السياسي، ودخلن ميادين النضال، وتعرض بعضهن لمعاناة غير قليلة وهن ينتظرن أزواجهن الذين غيبتهم السجون لسنوات حياة المحتسب مثلاً، زوجة الدكتور عبدالرحيم بدر. وكانت، هي وزوجها، من الناشطين السياسيين إبان خمسينات القرن العشرين. غير أن ما يلفت الانتباه بخصوص تلك الفترة، وما سبقها وما تلاها، ظهور أدباء وصحافيين مقدسيين بارزين، في حين لم تظهر أديبات وصحافيات بارزات. ففي مدينة محافظة مثل نابلس مثلاً، تميزت شاعرة منذ أربعينات القرن العشرين هي فدوى طوقان. وتميزت روائية منذ سبعينات القرن العشرين هي سحر خليفة، في حين لم تظهر في القدس أديبة توازيهما في الحضور وفي التميز الإبداعي. مع ذلك، ثمة نساء مقدسيات كان لهن وما زال، حضور في حقول الأدب والمسرح والفن التشكيلي والغناء، وفي المجالين السياسي والاجتماعي قبل هزيمة حزيران يونيو وبعدها. وثمة من عملن وما زلن يعملن في قيادة مؤسسات نسوية واجتماعية وتربوية، ومن شغلن وما زلن يشغلن مواقع عليا في وزارات السلطة الفلسطينية وفي المجلس التشريعي، ومن عملن وما زلن يعملن مراسلات لبعض محطات التلفزة المحلية والفضائية. وأمام هذا الإرث من التجليات النهضوية التي ما زال بعضها ماثلاً للعيان، فثمة في المشهد الإجمالي الذي يخص جمهرة النساء المقدسيات، حالة من الانكفاء على الذات، أو مراوحة في المكان. والسؤال الآن: إلى أين تتجه بنات القدس ونساؤها؟ وكيف يمكنهن تخطي المرحلة الراهنة؟ حيث يجرى تهويد المدينة على قدم وساق، وحيث تنهار القيم ويكثر الالتباس، ويتعرض النسيج الاجتماعي الفلسطيني للتفكك، وتتفشى في المجتمع روح المحافظة والجمود!