من يقرأ يوميات خليل السكاكيني التي دأبت على إصدارها في السنوات القليلة الماضية، مؤسسة الدراسات المقدسية أصدرت حتى الآن ستة كتب، وتعمل على إصدار الكتاب السابع، يجد صورة للقدس باعثة على الاهتمام مثيرة للتأمل، بالنظر إلى ما كانت تمور به من حراك اجتماعي وثقافي طوال النصف الأول من القرن العشرين. كانت المدينة قد بدأت التفتح على الحياة العصرية منذ مطلع القرن الماضي. وكان خليل السكاكيني، المربي والأديب والمفكر، واحداً من أبرز شخصيات نخبتها المثقفة. وهو لم يحصر نشاطه في مجال التربية - حيث كانت له اليد الطولى في تحديث مناهج تدريس اللغة العربية، إلى جانب تصورات تربوية وضعها موضع التنفيذ في مدرسته التي بادر إلى تأسيسها، حول المدرسة العصرية وطبيعة تعاملها مع التلاميذ - بل إنه ثابر على تأليف الكتب ونشر المقالات الأدبية والفكرية في الصحف والمجلات، وعلى إلقاء المحاضرات في النوادي والمدارس، ولم ينقطع عن تدوين يومياته طوال نصف قرن إلى أن حضرته الوفاة، بحيث جاءت هذه اليوميات سجلاً وافياً لنشاطه العملي ولأحوال بيته وأسرته، وللزوار الذين كانوا يترددون على البيت، ولاجتهاداته في شؤون المجتمع والسياسة والفكر والدين واللغة والأدب والتربية والأخلاق، ولدرجة رقي مجتمعه أو انحطاطه في هذا المنحى أو ذاك، وكذلك للحال العامة التي كانت سائدة في القدس وفي عموم البلاد. وعلى رغم ما كان يعتريه أحياناً من يأس وتشاؤم، ومن انعدام الثقة في الناس، لم يتوقف السكاكيني عن الدعاية لأفكاره ورؤاه، في مجالسه الخاصة في بيته وفي المقاهي وفي غيرها من أماكن التجمع واللقاءات، ما جعل حضوره في فضاء القدس علامة على تميزه، ومؤشراً في الوقت نفسه على تألق المدينة، حتى وهي تحت قبضة الانتداب البريطاني التي لم تكن هينة بأي حال. وحينما وقع في أسر السلطة العثمانية قبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى، اقتيد خليل السكاكيني إلى دمشق، وأودع السجن فيها، وظل يتذكر القدس ويحلم بها في الليل وفي النهار. ومما قاله في يومياته عنها:"كنت أقول في قديم الزمان: لا أترك القدس إلا منفياً، فكأن الأقدار شاءت أن تحقق قولي هذا، فجئت دمشق منفياً مكبلاً بالحبال". خليل السكاكيني سكن بيوتاً عدة في القدس. واعتادت أسرته أن تسكن في بيتها الواقع داخل سور المدينة سنة، وفي بيتها الواقع خارج السور سنة أخرى. وكان آخر بيت سكنه في القدس هو ذاك الذي بناه على قطعة أرض اشتراها في جبل القطمون، ثم أصبح القطمون مع مرور الزمن حياً راقياً من أحياء القدس الغربية، تجمعت فيه أسر فلسطينية موسرة. وأينما أقام خليل السكاكيني فقد كان بيته قبلة أنظار الأدباء والمفكرين الفلسطينيين والعرب من معاصريه. تردد على بيته في القدس أو التقاه فيها، كتاب فلسطينيون كثر من بينهم: إسعاف النشاشيبي، إسحاق موسى الحسيني، وعادل جبر. وتردد عليه أو التقاه في القدس كتاب عرب من بينهم: العراقي معروف الرصافي، اللبناني أمين الريحاني، الأردني عيسى الناعوري، والمصري محمود عزمي، وآخرون ممن كانت له معهم محاورات ومساجلات في الفكر والسياسة والفلسفة والأدب. ولم يكن فضاء المدينة مقتصراً على تجمع الأدباء ومساجلاتهم، بل إنه اتسع ليشمل الفعاليات السياسية التي أخذت في التبلور، رداً على سياسات الانتداب المتحيزة الى الحركة الصهيونية، وعلى مخططات الحركة الصهيونية نفسها الهادفة إلى الاستيلاء على فلسطين. وتشكلت آنذاك الجمعيات الإسلامية - المسيحية في القدس وغيرها، إلى جانب تشكل الأحزاب السياسية. وتأسست تجمعات للمرأة الفلسطينية إلى جانب تأسيس النوادي، وإصدار الصحف والمجلات. ومن يقرأ اليوميات، يجد أن فضاء المدينة كان فيه متسع لما هو أكثر من ذلك، حيث تنشط المكتبات في بيع الكتب الرصينة، ويذهب خليل السكاكيني في تاريخ 3/2/1934 إلى مكتبة بولس سعيد في القدس، ويشتري كتاب"تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب"، وكان قبل ذلك اشترى كتاباً آخر من المكتبة نفسها هو"الفصل في الملل والأهواء والنحل"لابن حزم الأندلسي. وتنشط النوادي في تقديم الحفلات الغنائية والعروض المسرحية، كما تنشط دور السينما في عرض أفلام مصرية وأجنبية، ويذهب أهل القدس لمشاهدة المسرحيات والأفلام وحفلات الغناء، ويأتي فنانون مصريون وفنانات إلى القدس وإلى مدن فلسطينية أخرى، من أمثال المطربة أم كلثوم والفنان المسرحي يوسف وهبي وآخرين. ويذهب خليل السكاكيني ومعه أخته ميليا وزوجته سلطانة وصديقاه صبحي عويضة وموسى العلمي في تاريخ 18/4/1919 لمشاهدة"رواية شهداء العرب التي يقوم بتمثيلها النادي العربي". وتذهب سلطانة مع ابنتيها دمية وهالة في تاريخ 7/6/1934 لمشاهدة فيلم تقوم بدور البطولة فيه بهيجة حافظ. وتعلق سلطانة على الفيلم برسالة إلى ابنها سري الذي يتلقى العلم في الجامعة الأميركية، تقول فيها:"لم يعجبني التمثيل، فنحن متأخرون جداً عن هذه الفنون الجميلة". ومن يقرأ اليوميات، يجد حياة اجتماعية في القدس، عامرة بالتواصل والمجاملات وتبادل الزيارات. ويشارك السكاكيني ? على رغم حاجته إلى عنصر الوقت لاستثماره في القراءة والكتابة - في حضور الأعراس، ولا يتردد هو وأفراد أسرته في مشاركة الأجانب المقيمين في الكولونية الألمانية في القدس، أعراسهم التي اعتادوا إقامة بعضها في الطبقة السفلى من بيته في حي القطمون. علاوة على ما كان يشهده البيت نفسه من سهرات تضم نخبة من الأقارب والضيوف من رجال ونساء، يتخللها عزف المقطوعات الموسيقية والرقص والغناء، خصوصاً في المناسبات الاجتماعية وفي الأعياد. وتتبدى القدس في اليوميات بأشكال مختلفة. تتبدى في ذكر المقاهي التي كان السكاكيني يذهب إليها، لتدخين النارجيلة وللترويح عن النفس وللثرثرة مع الأصدقاء، وللدخول في حوارات فكرية وسياسية مع بعضهم بعضاً في بعض الأحيان. تتبدى كذلك في الحديث عن بعض مناطقها وأحيائها، حيث استأثر الحديث عن شراء قطعة أرض يبني عليها السكاكيني بيتاً، بجزء من اليوميات، وتضمن وصفاً لبعض المناطق الجغرافية في القدس وضواحيها، باعتبارها مرشحة لشراء قطعة أرض فيها، تصلح لبناء البيت الذي ظل السكاكيني يحلم ببنائه، حتى بناه، ومن ثم وقع في مأساة أولى حرمته من التمتع بالإقامة فيه، حين وقعت زوجته مريضة بداء السرطان، ولم تلبث أن ماتت. ووقع في مأساة ثانية شردته من البيت، حين وقع البيت ووقعت القدس الغربية بكاملها في أيدي المنظمات الصهيونية المسلحة في عام النكبة الفلسطينية الكبرى العام 1948. وليس ثمة شك، في أن خليل السكاكيني كان متفانياً في خدمة القدسوفلسطين، وأنه كان وطنياً متطلعاً إلى تطوير مجتمعه وتحديثه. غير أنه كان في بعض الأحيان يقع فريسة نزعة متشائمة، تجعله يتطلع إلى مغادرة بلاده للعيش في بلاد أخرى، خصوصاً حينما يرى ما في فلسطين من تخلف وجهل ومن تعصب ديني يتجاور جنباً إلى جنب النهضة الوليدة ومكوناتها، وحينما يرى تردي أحوال شعبه وتكاثر النزعات السلبية بين ظهرانيه. ولم تكن هذه النزعة المتشائمة تستبد بالرجل حتى النهاية فتبتعد به من مساره الصحيح، لما انجبل عليه من وطنية صادقة ونزوع إنساني نبيل، ومن انجذاب إلى أفكار التقدم والعقلانية والتنوير. لذلك لم يتراجع اهتمامه بالقدس حتى وهو يغادرها موقتاً إلى هذا البلد أو ذاك، تحت ضغط السجن أو التشريد أو لدواعي السفر أو العمل أو الاستجمام. ظلت القدس ظاهرة في كتابات السكاكيني جلية لا تعرف الغياب.