ظهر في لبنان منذ العام 1977 خطاب التعددية الذي يرى لبنان، على صغر مساحته وضآلة عدد سكانه، جماعات وليس مجتمعا واحدا، وفئات دينية وإثنيّة منوّعة لها ميول ثقافية واجتماعية، وبالتالي دعا هذا الخطاب إلى احترام هذه الخصوصيات والسعي إلى ترجمتها قوانينَ وأنظمة في قالب ديموقراطي. هذا الخطاب أطلقه مسيحيون لبنانيون ساروا في فلك جامعة الروح القدس في الكسليك و"الجبهة اللبنانية"ولكنّه لم يلق دعماً واسعاً في حينه، ولا في العقود التي تلَت. فعبارة"التعددية"كانت غير مقبولة لدى اليسار اللبناني الذي اعتبر الطائفية مرضا يجب معالجته وصولاً إلى مجتمع علماني، ورفضها الرأي العام المسلم في لبنان لأنّها عارضت فلسفة الاندماج في شعب واحد وناقضت مبدأ وحدة الأمّة، وذكّر بخطاب الفيدرلة والتقسيم الذي ساد أيّام الحرب والذي عملت له"القوات اللبنانية"عندما كاد الكانتون المسيحي يستحيل دولة"مارونيستان". وحتى في العام 1996 قال الامام محمد مهدي شمس الدين، نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى:"أنا لا أقبل استعمال كلمة تعدّدية لا في لبنان ولا في مصر ولا في أي بلد مسلم أو مختلط". وعدا الكنيسة المارونية، لم تُقبِل الكنائس المسيحية الأخرى، كالروم الأرثوذكس، على مفهوم التعدّدية. من ناحية أخرى فإنّ طروحات التعدّدية لاقت صعوبة في تقبلّها لدى المثقفين، اللبنانيين والعرب، الذين اعتبروها دعاوى أجنبية لتفريق وتمزيق الدول العربية إلى أقليات وأعراق وطوائف. فرأى جورج قرم مثلاً في كتاب"مدخل إلى لبنان واللبنانيين" أنّ منطق الأقليات"نجده في الاعلام الغربي منذ مدّة طويلة، ويتمحور حول قضية الأقليات المضطهدة وتأمين حقّها في تأكيد خصوصيتها الدينية أو العرقية أو اللغوية بالنسبة للأغلبية. وهو منطق يدخل في تناقض مع النظريات القومية الديموقراطية التي تدعو إلى جعل الأوطان قوميات متجانسة يطبّق فيها القانون على الجميع مهما وُجدت من خصوصيات في بعض المجموعات الفرعية داخل الوطن". مفهوم التعدّدية الذي كان المقصود منه انفصالاً وانعزالاً في البدء خضع لتموضع مهم منذ التسعينات. لقد انتقد البابا يوحنا بولس الثاني تفسير بعض الموارنة لكلمة التعدّدية لأنّ هدفهم كان تعميق الهوة مع المسلم والابتعاد عنه وهذا رآه الفاتيكان قوقعة غير صحيّة. وهذا التفسير للتعدّدية الذي دفع به بعض الموارنة شعر به المسلمون وأصبح موضوعاً خلافياً كلما أثار مسيحيون مسألة التعددية للدلالة على مقدار تميّزهم عن الآخر المسلم الذي لا يمكن أن يتعايشوا معه. ولذلك فقد سقطت كلمة"تعدّدية"multiculturalism من الارشاد الرسولي عام 1997 واعتُمدت كلمة"تنوّع"diversity. تغيّرت الأمور كثيراً في لبنان في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وبات جورج خضر مطران الروم الأرثوذكس في جبل لبنان يعترف بتمايز بين اللبنانيين أنفسهم، حيث قال في كتاب ظهر مؤخّراً "هذا العالم لا يكفي":"أنتروبولوجيّاً هناك تباين بين المسلمين عامة والمسيحيين، حتى لو ادّعى المثقف المسيحي أنّه لا يهمه الدين، ولا يمارس. إذا طبّقت المقاييس الانتروبولوجية والسيكولوجية، وقرأت إنساناً أرثوذكسياً متديّناً جداً، وإنساناً أرثوذكسياً قليل الممارسة، تجدهما قريبين أحدهما من الآخر في التصرّف الاجتماعي، وأحياناً في الرؤية السياسية". ولم تعد التعدّدية مقتصرة على مثقفين مسيحيين، أو على الجمهور المسيحي، حيث انضم إليها عدد لا يستهان به من مثقفين مسلمين ينتمون إلى طوائف أخرى، منهم على سبيل المثال لا الحصر، نوّاف سلام ووضاح شرارة ووجيه كوثراني. هؤلاء أشادوا بالجانب التعدّدي للمجتمع اللبناني واعتبروا ذلك من الايجابيات. في 26 ايّار مايو 2008، ألقى السيّد حسن نصر الله أمين عام"حزب الله"كلمة في مناسبة عيد التحرير اعترف فيها بالتعدّدية اللبنانية من منطلقه الخاص، وقال:"نحن لا نريد السلطة في لبنان لنا ولا نريد السيطرة على لبنان ولا نريد أن نحكم لبنان ولا نريد أن نفرض فكرنا أو مشروعنا على الشعب اللبناني لأننا نؤمن بأنّ لبنان بلد خاص ومتنوع ومتعدد، لا قيامة لهذا البلد إلاّ بمشاركة الجميع وتعاون الجميع وتكاتف الجميع وتعاضد الجميع وهذا ما كنّا نطالب به. كثيرون حاولوا من خلال إعلامهم أن يشوّهوا هذه الحقيقة ويتصورون أنّه عندما يقولون حزب الله ولاية الفقيه أنهم يهينوننا، أبداً، أنا اليوم أعلن وليس جديداً ذلك أنا أفتخر أن أكون فرداً في حزب ولاية الفقيه، الفقيه العادل، الفقيه العالم، الفقيه الحكيم، الفقيه الشجاع، الفقيه الصادق، الفقيه المخلص. وأقول لهؤلاء ولاية الفقيه تقول لنا نحن حِزْبُهَا : لبنان بلد متنوع متعدد يجب أن تحافظوا عليه". كما أنّ مسؤول العلاقات الدولية في نفس الحزب نوّاف الموسوي قال في مقابلة تلفزيونية بعد أيّام:"أريد أن أعيش في بلد متعدّد متنوّع وليس في إمارة من الامارات في العالم العربي حيث الحكم الاستبدادي والاقتصاد الريعي". وما حصل أنّ مسيحيي"14 آذار"لم يتلقّفوا إعلان نصر الله إيمانه بالتعدّدية اللبنانية. وكان الأجدر بهؤلاء احترام خيار نصر الله وشكره على اعترافه المتأخّر ثلاثة عقود بالتعددية في لبنان. وبعد احترامهم لهذا الخيار كان ممكناً لهؤلاء دعوته إلى الفيدرلة طالما أنّ الإفتراق اللبناني في كل شيء اجتماعي تقريباً لم يعد يُحتمل. واقع الأمر في لبنان أصبح تعدّدية حقيقية بين الطوائف بأنماط حياة مختلفة وتوجهات وخيارات ثقافية وحضارية مختلفة ومناهج دراسية منفصلة وأحياء ومناطق باتت تشابه الكانتونات السويسرية. لكنّ تعليقات"حزب القوّات اللبنانية"جاءت سطحية في توظيف اعلامي مناسب للصراع القائم في لبنان. فرأى سمير جعجع أنّ افتخار نصر الله بالانتماء الى"حزب ولاية الفقيه"أمر خطير جداً، مخاطباً إيّاه بالقول:"كيف بإمكانك أن تخضع لأحكام دولة لبنان ولولاية الفقيه في آن معا؟". أمّا النائب أنطوان زهرا فعلّق"لا أحد، لا ولاية الفقيه ولا مليون فقيه يستطيعون تغيير وجهة لبنان". وردّ نائب رئيس المجلس النيابي الأسبق إيلي الفرزلي على سمير جعجع بأنّ"جعجع لم يستمع جيداً لما قاله الأمين العام ل"حزب الله"... ولا أعرف ما هي مصلحة جعجع المسيحية من رفض كل ما يقال عن تنوّع البلد الثقافي". لم يكن ممكناً لأي لبناني، سواء قبل بالتعددية أو دعا إلى الفيدرلة، أن يلوم"حزب الله"في ما يعتقد وفي ما ينعزل عن باقي لبنان. فما قاله نصر الله حول التعددية هو ما دعت إليه أطراف مسيحية سمير جعجع وسامي الجميّل، وما مارسه"حزب الله"من فيدرلة وتقوقع كان أمراً واقعاً في لبنان 2008. لقد راقب الشيعة في لحظة يقظتهم الطائفية النموذج الذي أعطته المارونية السياسية وقرّروا أنّهم هم أيضاً قادرون على الصعود وبناء مقدراتهم. والفارق كان أنّ الموارنة سعوا إلى دولة فيها من الكاثوليكية والتغرّب ما يكفي ولكنّها تراعي قدر الإمكان مصالح شركائها، فسعى الشيعة من خلال"حزب الله"إلى دولة فيها من ولاية الفقيه والتشيّع والذهاب شرقاً ما يكفي، وتراعي مصالح شركائها بطريقتها، فلا ينقص تسمية وزير واحد لها وتوزيع حصّتها على الحلفاء من ثقتها بقرب بلوغ أهدافها. ويبقى تساؤل إلى أي مدى يقبل اللبنانيون فكرة عيشهم المشترك في جغرافية واحدة ذات كيان سياسي موّحد ومجتمع متعدّد، وهل ثمّة صورة واحدة عن ماهية الوطن في أذهانهم أم أكثر من صورة؟ وهل تتمكّن الدولة يوماً ما من فرض تعريف موّحد للمواطنية اللبنانية وكتاب تاريخ واحد وثقافة جامعة واحدة لخلق الانسان اللبناني الجديد؟ * جامعي لبناني مقيم في كندا