لا شك في أن اللغة العربية فقدت أحد كبار شعرائها بوفاة محمود درويش هذا المساء. وربما يكون صراع الأشكال في المشهد الشعري العربي الآن، يشير إلى الشاعر الراحل كأحد أقطاب قصيدة التفعيلة، إلا أنني لا أرى المسألة بهذه الطريقة. فالشاعر العظيم، وبعيداً من الأشكال الشعرية، يكون حاضراً في الماضي وفي المستقبل بما يتناسب مع عمق حضوره في اللحظة التاريخية التي يعيشها. من هنا يعيش الشاعر الملهم قلق الأشكال وقلق الإبداع وقلق الوجود ليس من موقع ما في جهة ما. ذلك لأنه يحس في روحه وفي جسده بتمزقات ومخاضات التاريخ البشري في هبوطه وصعوده، وحراكه التاريخي المهول باتجاه الحرية والمعرفة والخلاص. وحيث تحرر قصيدة التفعيلة ضرورة إبداعية نوعية كذلك، فان تحرر قصيدة النثر ضرورة إبداعية نوعية أمام هول الحراك البشري وتلاطمه وتسارعه في ابتكار أدواته المعاصرة في كل مناحي الحياة، وبالأخص منها الإبداعية والفكرية. استطاع محمود درويش أن يكون صوتاً إنسانياً رهيفاً، لأنه استطاع أن يلمس عذابات شعبه وكوارثه كمسألة إنسانية مرعبة في صميم العذاب البشري وزواياه الهمجية. واستطاع من فرط رهافته وبسالته في آن معاً أن يذهب بالتفكير reasoning إلى حيز الشعر، فيحول الكارثة إلى أسطورة. يمكن لإنسان أن يتأمل الكارثة. نعم. ولكن كيف للإنسان أن يتأمل في كارثته هو وكارثة شعبه المقتلع؟ تلك هي معجزة الشعر ومعجزة الشاعر محمود درويش ومقتله أيضاً متأملاً بالكارثة. يفتت شيئاً منها على قهوة الصباح اللذيذة، ويذرّها على كائنات السحب، ويلمسها في البهجة والكآبة ويضعها في حقبة السفر. هناك من يرى أن محمود درويش تخلى عن شعر المقاومة، فيما أرى أنه ارتقى بشعر المقاومة إلى مستوى العصر، وعلى المقاومة أن ترتقي بنفسها إلى مستوى العصر، لأن المسألة الفلسطينية ليست قضية أيديولوجيا، إنها كارثة إنسانية معاصرة، ودفعها باتجاه الماضي هو مقتلها ومبتغى أعدائها. المشهد الشعري العربي الآن اختتم فصلاً من فصوله الباهرة. سيكون كئيباً بفقده أحد أهم أصواته، إلا أن عليه أن يذهب بعيداً وعميقاً إلى التعرف إلى تجربة هي محل فخر للشعرية العربية والوجدان العربي، لا شك في أن قضية فلسطين التي هي قضية كل إنسان شريف خسرت واحداً من أهم أبنائها المخلصين لها، وخسرت وجهاً يرفعها ويضيئها كقضية من قضايا الحرية الإنسانية. وكقضية من قضايا الهمجية المعاصرة.