"سلام عليكَ وأنت تشرب قهوة الصباح فترتوي أرض قصيدتك أكثر..." كان هذا أحد الإهداءات التي أرسلها عدد كبير من الجامعيين والمثقفين الفرنسيين والعرب المقيمين في فرنسا إلى محمود درويش على نسخة من المجلة التي شاركوا فيها والتي كان ضيف عددها الشاعر الفلسطيني. أما المجلة فهي مجلة "نو" Nue الصادرة عن جامعة "نيس"Nice الفرنسية، وتدير تحريرها الجامعية الفرنسية بياتريس بونوم Bژatrice Bonhomme المتخصصة في الشعر الفرنسي الحديث. وقد أبت إلا أن تكرس عدداً كاملاً للشعر العربي المعاصر يضم أهم أسماء الحداثة الشعرية، تعاوناً مع جيل لاذقاني، وهو أستاذ جامعي مسؤول عن قسم الأدب العربي المعاصر في معهد الدراسات عن الإسلام وعن مجتمعات العالم الإسلامي IISMM التابع للمدرسة العليا للدراسات عن العلوم الاجتماعية EHEDD في باريس. ولكن، نظراً لمرارة واقع الشعب الفلسطيني وحصاره الذي حال دون تلبية محمود درويش دعوة الحضور إلى "يوم الشعر" و"أسبوع الشعر" و"سوق الشعر" في فرنسا، قرر المنسقون تأجيل العدد الخاص بالشعر العربي المعاصر وإصدار عدد شبه كامل عن الشاعر الفلسطيني وهو العدد العشرون الصادر عن المؤسستين: جامعة "نيس" ومعهد IISMM. وقد نسق العدد جيل لاذقاني مضموناً، وبيير كروييكس وهو جامعي فرنسي متخصص في الشعر الفرنسي الحديث قالباً. فجاء العدد إذاً تكريماً لأعمال محمود درويش الشعرية التي تُرجم الكثير منها إلى اللغة الفرنسية، وكتحية رمزية للشعب الفلسطيني وقضيته. شارك في العدد جامعيون ومترجمون ومثقفون منهم فاروق مردم بك، سلمى الخضراء الجيوشي، دومينيك غرانمان، كاظم جهاد، جان ميشال مولبوا. وضم العدد أقساماً قد تبدو غير متكافئة، إذ أنه افتُتح بكلمتين من المنسقين تذكر بمدى ارتباط محمود درويش بمفاهيم الأرض والغربة والحصار، وكيف أنه كائن مزدوج تتعايش فيه الحياة والموت، وكيف أنه حارس الذاكرة وفي الوقت ذاته الغريب الأبدي. وأكد جيل لاذقاني هيمنة أسطورة البعث المسيحية على شعر محمود درويش: "يرتسم خلف شجرة الزيتون وخلف شجرة البرتقال، عبر أغوار الكتابة، رمز الصليب". ويرتأي أن أحد أهم عناصر عالم محمود درويش الشعري هو المدينة، إذ حول صورة المدينة تتبلور الهواجس والرؤيا المنذرة بحصار الشاعر قصيدة بيروت مثلاً. ثم تلي ترجمة لثلاث قصائد بعنوان مشترك جميل: "الحبر والدم" هي "حالة حصار" ترجمة سلوى بنعبده وحسن شامي، "الجدارية" ترجمة جماعية، و"على حجرة كنعانية" جيل لاذقاني. وثمة محاورات مترجَمة عن مجلات عربية مع الشاعر تعطي القارئ الفرنسي توضيحات مهمة عن حياة محمود درويش المقتلع من جذور أرضه والفاقد بيته الأول والمفتقد رائحة خبز أمه وقهوة أمه منذ صباه... ومدى ارتباط هذه الأمور بمساره الشعري ابتداء من فلسطينالمحتلة وصولاً إلى فرنسا وعمان ورام الله مروراً ببيروت والقاهرة وتونس. يتبين من كل هذه المحاورات عموماً أسف محمود درويش على القراءة السياسية التي يتبناها القارئ العربي وبالتالي القارئ الغربي إزاء شعره، إذ كثيراً ما يرى هذا الأخير في شعر محمود درويش "وثيقة" حية وجميلة للفجيعة التي يعيشها شعب بأكمله. صحيح أن شعر محمود درويش كان منذ بداياته محدداً بأرض هي أرض فلسطين وبتاريخ هو تاريخ فلسطين وبفجيعة هي فجيعة شعب فلسطين... حتى بدا الصوت المنفرد جماعياً، وحتى أصبح من الصعب التفرقة بين الأوجاع الشخصية والأوجاع الجماعية، ولكن من جهة أخرى تتبين من خلال الحوارات نقطة مهمة أخرى تتعلق بمفهوم محمود درويش للشعر ولعلاقة الشعر بالنثر في مرحلة باتت تهيمن "قصيدة النثر" على المشهد الشعري العربي. فيبدو محمود درويش - على غير ما تقدمه بعض الصحف العربية كعدو لقصيدة النثر أو للكتابة الجديدة - شاعراً عصرياً في المعنى الإيجابي، متفهماً لما يحيط به، متفقاً وروح العصر التي تقتضي المواكبة والحوار بين التيارات لا التجاهل والاستخفاف. وفي هذا الصدد يشرد مترجمو الحوارات على أقوال محمود درويش الذاهبة إلى حتمية وجود علاقة تربط النثر بالشعر، إيجابية كانت أم سلبية. ولتأكيد ضرورة هذه العلاقة، يشبهها الشاعر بعلاقة الرجل والمرأة: "يستحيل على الشعر أن يتطور من دون حوار مع النثر ... أظن أن المرأة هي الشعر في هذه العلاقة، بينما الرجل هو النثر". ولعل الملخص الذي أعدته المجلة عن لقاء مطول كانت أجرته مع محمود درويش مجلة "الشعراء" الصادرة عن "بيت الشعر" في رام الله، يعد من أهم ما قاله الشاعر في علاقته بالشعر وعن مفهومه للشاعر. لم يعد الشاعر بطل ملحمات، لم يعد مسيحاً، بل هو اليوم مجرد شخص عادي يحاول قدر استطاعته التعبير عن فرديته عبر قصيدة جديدة، متواضعة، داخلية، متقشفة. ليس معنى ذلك أن محمود درويش خرج عن الجماعة، بل شعره حاول التحرر من الجماعة التي عينته لسان حال لها. ابتداء من هنا يُطرح السؤال: كيف يمكن النص الشعري أن يندرج في التاريخ في طريقة فنية لا في طريقة وطنية؟ الاحتلال سجن الشاعر الفلسطيني في قفص الكلام عن الاحتلال وعن فقد الأم الرمزية وعن التساؤلات اللانهائية عن الحقوق الأولية... والمشكلة أن الاحتلال دام خمسين سنة، وما زال قائماً، هل معنى هذا أن الشاعر الفلسطيني سيظل يكرر الكلمات ذاتها؟ هل يعقل ألاّ يكتب شاعر إلا عن الاحتلال وعن المقاومة طوال أكثر من نصف قرن؟ لغة شعر المقاومة الفلسطينية أصبحت مستنفدة لدرجة أنه، على سبيل التسلية، من السهل نظم قصيدة "فلسطينية" باعتماد خمسين كلمة، يقول محمود درويش مازحاً. الأولوية إذاً للشعر، خصوصاً أنه أصبح في غياب الوطن الجغرافي، وطن محمود درويش الوحيد. لم يعد الاغتراب الجغرافي مصدر معاناة وشكوى إذ طال حتى صار نمط عيش الشاعر. "حتى لو كانت فلسطين كلها بين يدي، فلن أتحرر من الإحساس بالغربة الذي أصبح متأصلاً فيّ إلى درجة الألفة... خلقت وطناً لي في اللغة وقد أستطيع خلق الغربة في اللغة إن شئت". وفي حديث أجراه معه فاروق مردم بك يتجلى بُعد الاتجاه الجديد الذي تبناه الشاعر ولا سيما في "سرير الغريبة". كانت مجازفة منه أن يكتب السوناتا وأن يتناول الغيرية والحب، فيما شعبه يعاني ما يعانيه. ولكن إذا أخذت صورة محمود درويش شكلاً جديداً لدى قارئه العربي فإن شعره ما زال رائجاً، مسموعاً ومقروءاً، لأنه ما زال يغرف من الينابيع ذاتها: الأرض، المرأة، الحب، الشجر، القهوة، الحواس... "فمحمود درويش شاعر حسّي لا ذهني، يؤكد فاروق مردم بك ... كل الحواس تشارك في القصيدة". وبقدر ما يعتبر مردم بك "سرير الغريبة" "الديوان الغربي للشاعر الشرقي، على عكس غوته"، فإنه يعتبر الجدارية "معلقة درويش في المعنى الجاهلي للمعلقة"، إذ هي نصّ شديد الصعوبة، ينطوي على تأمل عميق في الحياة والموت، وقد وجد إلهامه في معاناة درويش الإنسان الذي حاذى الموت على سرير المستشفى، متقلباً بين الحياة والموت وكاد أن يفقد قدرته على الكتابة. ثم تحتل دراسات عن شعر محمود درويش حيزاً لا بأس به من العدد أكثر من خمسين صفحة. أولها دراسة لجيل لاذقاني تناولت "ريتا"، "ومدى تطور وجودها عبر الدواوين. من حب بريء يعكس أحلام الصبا، تحولت "ريتا" إلى رمز للمستحيل، فإلى رمز لمريم ولمريم المجدلية في الوقت نفسه، ثم إلى قربان للآخر كتجلّ للقدرة على تحمل الغربة والاغتراب. نص آخر كنص كاظم جهاد تناول أهمية أو خطورة دور مترجمي شعر محمود درويش خصوصاً إلياس صنبر. وثمة دراسة تربط بين الثورة الشعرية التي سجلتها مجلة شعر اللبنانية 1957-1970 وتطور اتجاه كتابة محمود درويش نحو الذاتية والحوار مع النثر. وإجمالاً تذكر الدراسات بما يسمى "فلسفة" محمود درويش أو رؤيته الوجودية نص سلوى بنعبده وقدرته على الوصول والتواصل والعالمية نص سلمى الخضراء الجيوشي، وتؤكد مدى تشبث محمود درويش بالتعبير عن داخله وعن أوجاعه كمبدع يعلم بمرارة أنه ليس له من باعث للحياة سوى الشعر والرغبة في الكتابة. ولعل محمود درويش والشعر ملتصقان متطابقان الى درجة تجعل الطاهر بن جلون يقول عنه: "إنه ليس شاعراً ملتزماً، إنه القصيدة". تلي الدراسات "نصوص مهداة" قصيرة بقلم جامعيين وشعراء - باتريك كييه قصيدة معلقة، بيير كرويكس صوتك نهر نار، حبيب تنجور الغناء، كاظم جهاد في الليل المستأمن - متبوعة بترجمة كاظم جهاد لنبذة من قصيدة "كتاب أيوب" لبدر شاكر السياب كطرفة عين لصورة طالما استقبلتها قصائد محمود درويش. ثم يأتي في سياق العدد، جزء مخصص لقصائد شعراء فلسطينيين، يحمل عنوان "رفاق الدرب ضيوف النار"، ظهر فيه توفيق زياد، سميح القاسم، وليد خزندار، غسان زقطان، حسين جميل البرغوتي وغيرهم. وبقدر ما يتفهم القارئ وجود هؤلاء الضيوف ضمن عدد مخصص لمحمود درويش، يُفاجأ إثر ملاقاته أسماء أنسي الحاج وسعدي يوسف وبول شاوول وعبده وازن وأمجد ناصر وعبدالمنعم رمضان. خصوصاً أن اختيار الأسماء وتجاورها لا يخضعان لمنطق شعري واضح. الواقع أن المنسقين أصروا على إعطاء القارئ الفرنسي فكرة تمهيدية عما يحيط بمحمود درويش، أو عما هو غير محمود درويش أي المختلف عنه، فخصصوا هذا الجزء المعنون "كوكبة شعرية لهذا الشأن، فجاءت الأسماء المختارة مستجيبة لأمرين: أولاً درجة اختصاص بعض المشاركين في شعر أو في ترجمة أحد الشعراء المعنيين، ثانياً، متطلبات تركيب الصفحات الذي تولى مسؤوليته بيير كرويكس وهو غير مستعرب.