تظل اسبانيا في العقل العربي وفي الذاكرة القومية امتداداً تاريخياً للحضارة الإسلامية التي عششت في الأندلس لأكثر من خمسة قرون، لذلك كان اختيار عاصمتها مقراً للمؤتمر الدولي للحوار اختياراً موفقاً، وعندما ظهر خادم الحرمين الشريفين مع ملك اسبانيا لافتتاح المؤتمر تصورت وكأن التاريخ يقلب بعض صفحاته ليشير إلى التزاوج الحضاري بين الغرب والعالم الإسلامي من خلال ذلك المعبر الحضاري العريق. فإسبانيا بهذا المعنى دولة جوار في الشمال الغربي مثلما هي تركيا في الشمال الآسيوي الأوروبي ومثلما هي إيران التي تقف على البوابة الشرقية للجزء العربي من الأمة الإسلامية. وقد استجبت لدعوة كريمة من رابطة العالم الإسلامي لحضور مؤتمر مدريد الذي عقد استجابة لمبادرة من العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز وامتداداً للقاء مكةالمكرمة قبله بأسابيع عدة، ولقد كان مؤتمر مدريد جديداً في نوعيته متميزاً في طبيعته، وحتى لا تتوه المعاني في زحام الألفاظ فإنني أبسط عدداً من النقاط أطرحها للتحريض على الحوار حول هذه المبادرة الدولية المهمة: 1- إنني أشعر بالرضا والارتياح لأن البيان الختامي لمؤتمر مدريد تضمن اقتراحاً تقدمت به شخصياً أثناء الجلسة الرابعة له عندما طالبت بأن يحث المؤتمر دول العالم المختلفة في الهوية الدينية والمتباينة في المخزون الحضاري - أي أنها دعوة لدول العالم من دون استثناء - لكي تسعى مجتمعة إلى استصدار تشريع دولي يجرم المساس بالعقائد الروحية والديانات جميعها السماوي منها والأرضي، ولم أكن أعني بذلك الديانات الإبراهيمية الثلاث وحدها وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، حتى أنني أشرت في معرض طرحي لذلك الاقتراح إلى أن التماثيل البوذية التي حطمتها حركة"طالبان"في أفغانستان مع نهاية تسعينات القرن الماضي كانت عدواناً على تراث روحي يأتي متوازياً مع الإساءة إلى نبي الإسلام العظيم بالصور الكاريكاتورية والمقالات المغرضة والتصريحات غير المسؤولة، فضلاً عن التجريح الذي تتعرض له المسيحية أحياناً من خلال بعض الأفلام السينمائية أو الكتابات الصحفية، كذلك فإن هناك خلطاً دائماً بين اليهودية كديانة سماوية والحركة الصهيونية كمشروع استعماري استيطاني، وأضفت إلى ذلك أمام المؤتمر أن الاحتماء بمبدأ حرية الرأي لا يجب أن ينسحب أبداً للنيل من العقائد الروحية لأنه يمس إيمان أتباعها بما يعيش فيهم وليس مجرد ما يعيشون معه. 2- لقد كان الجديد في مؤتمر مدريد أنه ضم القيادات الدينية للديانات الآسيوية جنباً إلى جنب مع القيادات الروحية للديانات السماوية وهذا في ظني إنجاز غير مسبوق في تاريخ الحوارات الدينية والوطنية. ولقد لفت نظري مرة أخرى ذلك الانصهار القوي بين أتباع الديانات الإبراهيمية والقدرة الكبيرة على التفاهم المشترك ووجود أرضية للحوار الإسلامي - المسيحي والإسلامي - اليهودي من خلال قنوات عدة في مؤسسات مختلفة من دول العالم الغربي. 3- لقد حاول بعض الحاخامات اليهود تسييس المؤتمر واعتلى أحد القادمين منهم من القدس منبر المؤتمر ليتحدث عن ارتباط اليهود بأرض فلسطين وأن هذه الأرض هي جزء منهم، وطالب الآخرين بأن يتفهموا ذلك، فقمت بالرد عليه محذراً من محاولات تسييس المؤتمر، مؤكداً أن الرد على ما قيل سهل ولكننا لا نريد الانزلاق إلى مناقشات سياسية في هذا المؤتمر الرفيع القدر والذي أراد له صاحب الدعوة خادم الحرمين الشريفين أن يكون منبراً للحوار وليس ساحة للصراعات السياسية. واعتلى منصة المؤتمر بعدي مباشرة مفتي البوسنة - وهو أزهري الدراسة واسع الأفق يجيد لغات عدة - فرد على الحاخام القادم من إسرائيل رداً شفى غليل غالبية الموجودين في المؤتمر وقوبل حديثه بتصفيق حاد من القاعة ذلك أن الجميع لم يكونوا متحمسين لإقحام النزاعات السياسية في ذلك المؤتمر ذي الطابع الروحي الأخلاقي الإنساني. 4- لقد طالبنا بوضوح بضرورة التوقف عن النبش في الكتب المقدسة كأساس للحوار متصورين أن ذلك يمكن أن يصنع أرضية مشتركة ويخلق القواسم الواحدة بين الديانات، وقد أوضحت أن ذلك سلاح ذو حدين فمثلما يمكن الوصول أحياناً إلى آيات تدعو إلى ما يعزز وجهة نظرنا في حالة معينة فإننا يمكن أن نجد من يختلف معها في حالة أخرى، ولقد لَقيت وجهة نظري تأييداً عاماً على اعتبار أن النصوص المقدسة هي جزء من إيمان أتباع دياناتها لذلك فهي غير قابلة للحوار إذ ان النصوص المقدسة تعلو على ما عداها ونحن محتاجون في مثل هذه المؤتمرات إلى الحوارات العقلية وليس إلى النصوص النقلية. 5- حين نتحدث عن دول الجوار فإننا نقصد الجوار الحضاري والثقافي لأن نظرية التعايش المشترك تقوم على التفاعل بين الحضارات والتواصل بين الثقافات وترفض العزلة وتستهجن التعصب وتدعو إلى اعتبار وحدة الجنس البشري حقيقة أزلية على رغم كل ما يعتريها من أسباب للخلاف وعوامل للصراع ومبررات للحروب، وعندما كنت أنظر إلى أعضاء المؤتمر وهم يلتفون حول موائد الطعام وأرى بينهم المسلم والمسيحي واليهودي والهندوسي والسيخي والبوذي وغيرهم من الطوائف والديانات كانت تتأكد لدي القناعة الكاملة بأن الإنسان واحد في كل زمان ومكان مهما اختلفت المعتقدات وتباينت الطوائف وتعددت الديانات. 6- يتساءل الكثيرون عن جدوى مثل هذه المؤتمرات باعتبارها مناسبات احتفالية تحاول أن تعالج الأمور علاجاً سطحياً من دون أن تدرك أن طبيعة الحياة تقوم على الصراع والتعدد والاختلاف، بينما يرى آخرون أنها تعالج حدة التوتر وتخفف من وضع الاحتقان وتفسح المجال لفهم الآخر، كما أنها تفتح مجالاً للنقاش الموضوعي أحياناً حول عدد من القضايا ذات الطابع المشترك، ولكنها لا تنهض وحدها أسلوباً للعلاج أو طريقاً للحل، فالفهم المتبادل من خلال التبادل الثقافي النشط هو الذي يلعب دوراً مؤثراً لأن احترام الغير هو الأسلوب الأمثل لتأكيد روح التعايش المشترك فوق كوكب الأرض. 7- لا يخالجني شك في أن رجال الدين اليهودي كانوا يشعرون بقدر من الارتياح وهم يرون أنفسهم ضيوفاً على مؤتمر دعا إليه خادم الحرمين الشريفين. وحسناً فعلت المملكة العربية السعودية عندما استضافت هذا المؤتمر في العاصمة الاسبانية وليس على الأرض السعودية حتى لا يستغل الأمر كمحاولة للتطبيع أو الادعاء بما هو غير حقيقي في هذه الظروف. فالمبادرة العربية - وهي سعودية الأصل - لا ترفض التطبيع ولكن بشرط تحقيق السلام الشامل والعادل وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها في القدس الشريف، أما ما هو غير ذلك فهو أمر سابق لأوانه وقفز على الأوضاع لا ترضاه المملكة لأنها لا تفرط في أوراق بيدها في وقت ما زال فيه الصراع محتدماً والخلاف قائماً. 8- لقد كان ظهور رجال الدين الإسلامي من علماء المذهب الشيعي، وفي مقدمتهم السيد محمد علي تسخيري أمين عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، علامة صحية توضح وحدة العالم الإسلامي في مواجهة الآخر على اعتبار أن المسلمين - سُنة وشيعة - يعبدون إلهاً واحداً ويؤمنون بكتاب واحد ونبي واحد، لذلك فالحديث عن الخلافات بين هذين المذهبين هو عبث لا مبرر له وسخف لا يصب في مصلحة أي منهما بل هو في النهاية انتقاص من وحدة المسلمين في وقت هم أشد ما يكونون فيه حاجة إلى التضامن والاندماج والوحدة. 9- إننا نتطلع إلى أن يمتد الجهد الذي تبذله رابطة العالم الإسلامي لكي يضم معها جهوداً أخرى لمؤسسات دينية إسلامية تسعى إلى الحوار وتعقد المؤتمرات في المناسبات المختلفة لأن توحيد الجهود هو مطلب مُلح في هذه الظروف وإن كان ذلك كله لا ينتقص من مبادرات رابطة العالم الإسلامي ومسعاها في خدمة الإسلام والمسلمين. 10- إن اسبانيا التي طردت المسلمين واليهود من الأندلس وأنهت الوجود العربي فوق أرضها هي التي تستقبل الآن ممثلين لجميع الديانات والطوائف والمعتقدات، وإن كنت قد لاحظت ضعف التمثيل الاسباني في المؤتمر فلم يكن هناك وجود اسباني ظاهر باستثناء الافتتاح الملكي الذي حضره الملك خوان كارلوس ورئيس وزرائه والمشاركة التي أسهم بها فيدريكو مايور أمين عام اليونسكو السابق وهو اسباني الجنسية وقد تناول الموضوع من زاويته الثقافية مؤكداً أهمية العامل الثقافي في تأكيد شخصية الشعوب وهوية الأمم، وذلك كله فضلاً عن الإسهام الاسباني الذي تولته إحدى الشركات بالتنظيم الجيد والملحوظ لذلك المؤتمر الناجح بداية لمجرد انعقاده قبل أي شيء آخر. هذه إطلالة سريعة للإشادة بتحرك عربي ايجابي يمكن أن يفتح جسوراً للحوار وقنوات للاتصال بين مختلف الاطراف بل إنني أضيف إلى ذلك أن التفاعل الثقافي والتفاهم بين أصحاب الرسالات من مختلف الديانات يمكن أن يؤدي بدوره إلى تخفيف روح العداء وخلق بيئة مواتية للتسويات السياسية والمصالحات الدولية، فالحوار مع الآخر يمثل روح العصر بينما الحوار المحدود مع الذات يمثل حالة من العزلة والعجز والانغلاق. * كاتب مصري