حين طلب المخرج الجزائري المعروف أحمد الراشدي من المخرج الكبير إيليا كازان النصحية المفيدة للسينمائي، رد عليه بالقول:"أن تتحلى بالصبر وتتقن فن الانتظار، أن تكون قادراً على اختزال السيناريو بثلاث جمل، أما النصيحة الثالثة فهي التوقف عن العمل في السينما في اللحظة المناسبة إن استطعت". لعل الراشدي عمل بالنصيحتين الأولى والثانية، لكن الثالثة كانت صعبة على رجل عشق السينما، وألف العيش مع أزماتها، وعقباتها، وجنونها...وقضى سنوات في دراستها، ومتابعتها، فهو احد رواد السينما الجزائرية، ولا يمكن، بأي حال، إغفال إسهاماته لدى الحديث عن تاريخ السينما الجزائرية، ورموزها... في فيلموغرافيا الراشدي سنقرأ عناوين تركت بصمة واضحة في المشهد السينمائي الجزائري والعربي:"فجر المعذبين"،"الأفيون والعصا"،"التورط"،"نشيد الوداع"،"أرض السراب"،"كانت الحرب"...وسواها من الأفلام وصولاً إلى فيلمه الأخير الذي يتحدث عن أحد شهداء الثورة الجزائرية، وهو مصطفى بن بولعيد، الذي انتهى من تصويره، وهو قيد المونتاج حالياً. انشغل الراشدي بأعمال ومهمات أخرى، فضلاً عن اهتمامه بالسينما، فقد قام بتسيير أول مركز سمعي بصري في الجزائر عام1962، وساهم في إخراج وإنتاج برامج للتلفزيون الجزائري وكذلك الفرنسي، كما تولى مناصب إدارية في العديد من المؤسسات السينمائية الحكومية في الجزائر. في الدورة الثانية لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي 26/6 3/7 2008 ولدى اجتماع عقد على هامش المهرجان ضم مدراء ورؤساء المهرجانات العربية اختير الراشدي منسقاً عاماً لما سمي ب"بنك إلكتروني للمعلومات"، اتفق على إنشائه أثناء الاجتماع. من هنا بدأنا الحديث مع الراشدي: ما حكاية"بنك إلكتروني للمعلومات"الذي اتفق مدراء المهرجانات العربية على إنشائه، وما الهدف منه؟ - الاجتماع الذي جرى على هامش مهرجان وهران، وضم عدداً من رؤساء المهرجانات السينمائية العربية هو محاولة تكميلية للاجتماعات التي جرت في مهرجان الرباط منذ سنتين، وفي مهرجان القاهرة في دورته الأخيرة. وقد اتفق المجتمعون على إنشاء موقع الكتروني يكون بمثابة بنك للمعلومات وفضاء لتبادلها بين مختلف المهرجانات العربية، ويكون هذا المشروع مفتوحاً لجميع السينمائيين العرب لتقديم اقتراحاتهم، ووجهات نظرهم حوله بهدف إثراء المشروع. والهدف من وراء ذلك هو السعي إلى إيجاد نوع من التنسيق والتنظيم بين المهرجانات السينمائية العربية حتى لا تتضارب مواعيدها، وحتى لا يعمل كل مهرجان بصورة فردية بحيث يُستحوذ على الأفلام. إن الاجتماع، وما انبثق عنه، تطلع إلى خلق نوع من التنسيق بين المهرجانات العربية، والاتفاق على كيفية وصول نسخ الفيلم إليها، وبأي ترجمة، وإتاحة المجال أمام المخرجين والممثلين والنقاد للمشاركة فيها، خصوصاً ان معظم المهرجانات العربية يقام في شهري تشرين الأول أكتوبر، وتشرين الثاني نوفمبر. إلى أين وصل العمل في فيلمك الأخير"مصطفى بن بولعيد"؟ - كما تعلم مصطفى بن بولعيد هو أحد ابرز شهداء حرب التحرير الجزائرية، والفيلم يتحدث عن دور هذا الرجل في تاريخ الثورة الجزائرية ومكانته، وهو فيلم ممول من قبل شركات خاصة، إضافة إلى الدعم الرسمي الذي قدمته وزارة الثقافة الجزائرية، وكذلك وزارة الدفاع التي أتاحت للفيلم الإمكانات العسكرية المطلوبة. وقد انتهت عمليات تصويره، وهو الآن في مرحلة المونتاج، ليصل بعد ذلك إلى العمليات التكميلية الأخيرة، ومن المنتظر أن يكون جاهزاً للعرض في أوائل تشرين الثاني القادم. فرانكوفونية هل تتفق مع من يقول بأن السينما المغاربية، فرانكوفونية التوجه؟ - ما مبرر أو مسوغ مثل هذا السؤال؟ المبرر يكمن في أن أغلب الأفلام المغاربية ممولة فرنسياً؟ - لا، لا هذا الكلام غير دقيق البتة. هناك مؤسسات في أوروبا، وليس فقط في فرنسا، تدعم الإنتاج المشترك بين دول المغرب العربي ودول أوروبية، وأكاد أقول إن 85 في المئة من الإنتاج السينمائي المغاربي ليس له علاقة بالتمويل الأوربي أو الفرنسي، لأن هذا التمويل، وخصوصاً الفرنسي، يفرض شروطاً وتوجهات قد لا تناسب وجهات نظر السينمائيين في بلاد المغرب العربي. هنا لا بد من الإشارة إلى واقع لا يمكن إنكاره، وهو أن الكثير من المخرجين العرب المغتربين من ذوي الأصول المغاربية يتمتعون بجنسية بعض الدول الأوربية التي يقيمون فيها مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا... وهؤلاء لا يمكن لنا أن نصادر حقهم في صنع سينما تناسب ثقافة البلاد التي يحملون جنسيتها، واعتقد أن هذا ما يشيع اعتقاداً خاطئاً بأن السينما المغاربية تميل نحو الفرانكوفونية. وثمة أمر آخر يتمثل في اللغة الفرنسية التي تظهر مفرداتها في الأفلام الناطقة بلهجة دول المغرب العربي، وهذا له مبرراته، واقصد التاريخ الاستعماري الفرنسي الطويل للمنطقة، وقربنا من أوروبا جغرافيا، ومثل هذه اللغة المطعمة بالفرنسية يعمق هذا الاعتقاد. ولكن يلاحظ الزائر لدول المغرب العربي ملامح الثقافة الفرنسية متجلية في الحياة اليومية، وفي الطراز المعماري، وفي اللغة العامية...؟ - في الجزائر تحديداً قد تشعر بهذه الظاهرة، وهنا يجب ألا يغيب عن الذهن بأننا احتُلِلنا من قبل الفرنسيين لأكثر من 130 سنة، ولم يكن الاحتلال، احتلالاً للأراضي فحسب، بل كان احتلالاً للعقول. فأنا، مثلاً، كنت أدرس في مدرسة في العاصمة الجزائر، وكان ممنوع علينا أن نتحدث بالعربية، وكان الغرض من مثل هذه الإجراءات هو محو الهوية الوطنية المحلية، واعتقد انه وبعد أكثر من أربعين سنة من الاستقلال استعدنا الكثير مما فقدناه، ونحتاج إلى المزيد من الوقت لكي نتحرر من استعمار كان قوياً. في تلك الظروف الصعبة التي أشرت إليها، كيف تعلقت بالسينما؟ - في الواقع اهتمامي بالسينما جاء بمحض الصدفة، فأثناء حرب التحرير تم اختياري مع مجموعة من الشباب من قبل قيادة الثورة للتدرب على التصوير السينمائي، فقد رأت تلك القيادة ضرورة توظيف السينما لخدمة الثورة، وكان لا بد من اختيار بعض الشباب بغرض التعرف على هذا الفن حتى ينقلوا واقع الثورة الجزائرية بلغة الصورة إلى خارج الجزائر، ليرى الرأي العام العالمي حقيقة معاناة وكفاح الشعب الجزائري من اجل التحرير والاستقلال. استعملت السينما، آنذاك، كسلاح في حرب التحرير، وأفادت كثيراً الثورة الجزائرية لأنها كانت من الأسلحة التي أوصلت القضية الجزائرية إلى الأممالمتحدة، فيما كان المندوب الفرنسي في المنظمة الدولية يقول إن لا حرب في الجزائر! لكن السينما أظهرت ان الشعب الجزائري يخوض حرباً دامية، فقد استشهد نحو مليون ونصف المليون، فضلاً عن نحو مليون سجين، وكانت أعداد كبيرة من الجزائريين مشردة على الحدود التونسية والمغربية. المفارقة التي أظهرتها السينما هي أن نصف الشعب الجزائري كان مشرداً بينما كان الفرنسيون يقولون لا حرب في الجزائر! فهم كانوا يزعمون ان الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا، وما يجري هو نزاع داخلي. هنا لا يوجد ابلغ من الصورة لتكشف الأكاذيب، وتعبر عن حقائق النضال والثورة. كما تلاحظ فإن اهتمامي بالسينما بدأ من باب صغير، ثم توسع بالتدريج، فعندما حصلت الجزائر على الاستقلال، واصلتُ دراسة السينما في المعهد العالي للسينما في فرنسا ثم في ايطاليا ثم في الولاياتالمتحدةالأمريكية. كنت أطمح لأن أكون مخرجاً سينمائياً، ما اكتسبناه من خبرة أثناء حرب التحرير لم يتجاوز التصوير السينمائي، فقد كان ممنوعاً على الجزائريين دراسة وممارسة السينما إبان الاحتلال، لأن الفرنسيين كانوا يدركون تماماً بأن هذا الفن يمكن أن يستخدم كسلاح ضدهم. حرمنا، إذا، من دراسة السينما، وعندما أتيحت لي الفرصة في ما بعد لم أوفر جهداً في متابعة ودراسة هذا الفن المؤثر. سينما مصرية بعد هذه التجربة الواسعة في مضمار الفن السابع، هل لك أن تختزل لنا هموم وتحديات السينما العربية؟ - اكرر هنا بأن لا يوجد شيء اسمه"السينما العربية". ثمة أفلام عربية متباينة التقنيات، والرؤى، والأفكار... باستثناء السينما المصرية المعروفة والعريقة، فالمصريون حققوا صناعة سينمائية عالية المستوى، وهم يملكون الآن إمكانات ضخمة في هذا المجال، حتى أصبحت السينما المصرية من كبريات السينمات في العالم، أما ما تبقى فلا يعدو كونه أفلاما سينمائية كأن نقول: الفيلم الجزائري، الفيلم اللبناني، الفيلم السوري، الفيلم التونسي...الخ. لكن لا توجد سينما عربية بالمعنى الدقيق للكلمة، واقصد تلك السينما التي تستخدم وتوظف الإمكانات المتوافرة في العالم العربي لخدمة صناعة سينمائية حقيقية. ما الذي يمنع، مثلا، من أن نأتي بمصور من المغرب، ومهندس صوت من سوريا، ومونتيير من تونس، وممثل أو ممثلة من مصر، ومخرج من الجزائر لكي نحقق فيلماً سينمائياً؟ معضلة السينما العربية، إذا، تكمن في غياب التفكير في إنتاج أفلام في إطار مشترك عربي عربي، ومن ثم كيفية توزيع هذه الأفلام ومحاولة توصيلها إلى الجمهور العربي في مختلف الدول العربية. ثمة تجارب سينمائية عربية مشتركة، ولكنها ليست كافية لنقول بوجود سينما عربية على غرار السينما الايطالية أو السوفيتية أو الفرنسية... أنا أدعو إلى استخدام الطاقات الموجودة في العالم العربي، ومحو الفوارق التي تكاد تكون سياسية أكثر مما هي ثقافية. لا يوجد أي حاجز في الإنتاج المشترك سوى توفر الإرادة في مجال الإنتاج، أما بالنسبة للتوزيع وتوصيل الأفلام فهي تحتاج إلى ميكانيزمات كما هي الحال في أوروبا، مثلاً، التي اخترعت شيئاً اسمه"الاستثناء الثقافي"وهو قانون اقره الاتحاد الأوربي ويفرض بموجبه على المحطات التلفزيونية الأوربية برمجة نحو 40 في المئة من مساحة البث لعرض أفلام أوروبية. فرنسا التي كانت تنتج نحو 50 فيلماً في السنة، أصبحت الآن تنتج نحو 180 فيلماً في السنة، وهكذا الأمر بالنسبة لمختلف الدول الأوربية، لأن القانون، المشار إليه، يفرض على محطات التلفزة تمويل الأعمال السينمائية، وتخصيص فضاء لبثها. لو توصلنا إلى شيء من هذا القبيل فقد نفتح الأبواب الواسعة أمام الجمهور العربي ليشاهد الأفلام العربية حتى نستطيع أن نتحدث عن شيء اسمه السينما العربية. الآن يوجد أكثر من مئتي محطة فضائية عربية، لكنها لا تخصص سوى 2 في المئة من مساحة البث لعرض الأفلام العربية، فقد اكتشفت هذه الفضائيات أن ثمة مادة أخرى تجلب الجمهور، وهي اقل تكلفة من السينما، واقصد المسلسل التلفزيوني، بل غدا إنتاج المسلسلات اكبر من مساحة البث. سوريا تنتج نحو 50 مسلسلاً في السنة، وكل مسلسل يصل إلى نحو 30 ساعة أو أكثر، وهذه المسلسلات تنجز بإمكانات محدودة، وأنا رأيت إخواني السوريين يصورون 30 ساعة بكاميرا واحدة، وأصبحوا متمكنين في إنتاج الدراما التلفزيونية، ويغذون القنوات العربية التي استغنت عن أفلام السينما. هذه مشكلة. المهرجانات سأوجه إليك السؤال الذي سألته لإيليا كازان: بماذا تنصح السينمائي؟ - النصائح ذاتها التي قالها لي كازان. أن يتعلم السينمائي الصبر والانتظار، وان يستطيع عرض السيناريو في صفحات قليلة، لأن المخرج الذي يترك لدى شركات الإنتاج آلاف الصفحات عليه ألا يعتقد بأن هذا المنتج سيقرأ كل هذه الصفحات. حقيقة نحن لا نعرف أن نلخص السيناريو في جمل قليلة، فحين يطلب منا ذلك نبدأ في سرد الحكاية بصورة مملة! عندئد ستقول لك الشركة المنتجة:"سجّل رقم هاتفك، وسنتصل بك لاحقاً"، وهذا يعني الرفض بتهذيب.في الولاياتالمتحدة مثلا البنوك هي التي تمول السينما، وهذه البنوك لا تهتم إلا بموضوع الفيلم، فالسينما بالنسبة لديها هي سلعة، وهي إنْ أنفقت مليون دولار عليها أن تسترد الضعف. يبدو انك غير راض عن واقع السينما في العالم العربي. ما قيمة المهرجانات السينمائية العربية في ظل هذا الواقع؟ - الميزة الأولى هي أنها توفر أفلاما عربية للمشاهد العربي في الدول التي تحتضن هذه المهرجانات، وفي ظل التوزيع السيئ فإن هذا أمر إيجابي. الأمر الآخر هو اللقاء وتبادل وجهات النظر بين السينمائيين، وهذا يوفر الأرضية كي يتعاونوا في تجارب سينمائية، وإن محدودة. وثمة أمر ثالث وهو أن هذا الإقبال على الأفلام أثناء المهرجانات قد ينبه المسؤولين على الفضائيات العربية للاهتمام أكثر بالفيلم العربي وتخصيص مساحات أوسع لعرضه على الشاشة الصغيرة، وقد يشجع الممولين، كذلك، لخوض مغامرة الإنتاج السينمائي.