من الطبيعي أن تتلقى أم كلثوم عدداً لا يحصى من الرسائل الرسمية والشخصية، بحجم شهرتها الكاسحة. ولا نعرف ما إذا كانت"الست"احتفظت بكل الرسائل التي وصلتها أم ببعض منها؟ وأين هذه الرسائل الآن؟ من الرسائل الرسمية تلك التي بعث بها محمد فتحي رئيس معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية في 6 حزيران يونيو 1950. وكان المعهد - ولا يزال - في شارع رمسيس في القاهرة، الذي كان اسمه وقت كتابة الرسالة شارع الملكة نازلي، وهي زوجة الملك فؤاد وأم الملك فاروق. كتب محمد فتحي رسالته إلى أم كلثوم التي وصفها ب"صاحبة العصمة الآنسة"ليبلغها بأن مجلس إدارة المعهد قرر انتخابها عضواً فخرياً. ويأمل في مؤازرتها المعهد والتعاون معه على الاضطلاع برسالته. وهناك رسالة غير عادية تلقتها أم كلثوم من"محمد علي زين مرتضى"الذي كان يعمل في الخزينة المركزية في سرايا الحكومة في دمشق كما كتب في رسالته المؤرخة"في ليلة الجمعة 29 تشرين الأول اكتوبر 1953"كما حدد. والطريف أنه لم يكتب لأم كلثوم عنوانا على مغلف الرسالة، واكتفى بكتابة:"إلى حضرة الآنسة ام كلثوم مطربة الشرق المحترمة. القاهرة. مصر"... وفي الأغلب وصلت الرسالة الى أم كلثوم على رغم عدم وجود عنوان عليها. أرسل محمد علي رسالته تيمناً بشفاء أم كلثوم، وضمنها قصيدة وصفها بپ"العصماء"كتبها علي زين العابدين أحد أبناء الحسين بن علي بن أبي طالب، واسمها قصيدة"المناجاة". من الرسالة نفهم أن من الطبيعي أن يختار المعجب الدمشقي هذه القصيدة بالذات ليرسلها الى أم كلثوم. فهو لا يرى فيها إلا أنها وهبت نفسها لإعلاء كلمة الله"وإظهار فضائل رسوله الأعظم"على حد قوله. لذا فهو يعرض على أم كلثوم إنشاد هذه المناجاة ويشجعها على ذلك بأنها إن فعلت"تكون قد أرضت خالقها والمخلوقين من عشاق صوتها". وكما فعل المعجب من دمشق بإرساله رسالة إلى أم كلثوم من دون عنوان مفصل، فعل أيضاً الدكتور عبدالعزيز حجازي نائب رئيس الوزراء ووزير المالية والاقتصاد والتجارة الخارجية المصري، أطال الله في عمره. فقد أرسل الى ام كلثوم رسالة رسمية مكتفياً على المغلف باسمها، وقد أصبحت تلقب بالسيدة، واسم الحي الذي تسكن فيه وهو الزمالك. لكن الدكتور حجازي بعث برسالته في 12/11/1973 ليشكرها على مشاركتها لمصلحة المجهود الحربي بشيك قيمته عشرة آلاف جنيه. وهو وإن كان مبلغاً له قيمته في ذلك الوقت، إلا أنه ليس كل ما تبرعت به أم كلثوم للمجهود الحربي، بل ربما يكون آخر ما تبرعت به، فتاريخ تبرعها يعود إلى أسبوعين بعد بدء حرب تشرين الأول أكتوبر ضد إسرائيل، وقبل يومين من قرار مجلس الأمن وقف إطلاق النار. وعلى رغم أن الرسالة رسمية كما قلت على ورق حكومي. إلا أن الدكتور حجازي حرص على إنهاء رسالته بآية قرآنية تحض على الجهاد بالأموال والأنفس. وكما كانت أم كلثوم تتلقى رسائل المعجبين، يبدو أنها كانت حريصة على الرد عليها، أو على ما تختاره منها. هذا الحرص هو من قبيل احترام الآخرين والمحافظة على إعجابهم أو زيادته. مثل هذه الرسالة التي كتبتها أم كلثوم بخطها في وقت مبكر من حياتها الفنية، فهي مؤرخة في 4 تموز يوليو 1937، وحرصت أم كلثوم على كتابة عنوانها في أول الرسالة وقبل تاريخها. وكان العنوان كما كتبته:"فيلا البنفسج - القاهرة". الرسالة موجهة إلى"حضرة الفاضل السيد عبدالقادر بك المحترم". يبدو من الرسالة أنه عراقي مقيم في بغداد من محبي أم كلثوم، وليس من أصدقائها، فأسلوبها معه رسمي إلى حد ما. وفي الرسالة تصف أم كلثوم بغداد بأنها وطنها الثاني. وتسأل عبدالقادر بك عن"الشخص المدعو مير زعرور"الذي كتب إليها طالباً الاتفاق معها على الحضور إلى بغداد، وتسأل عن وضعه الاجتماعي وسمعته وأخلاقه... وهذا يدل على حرص أم كلثوم الشديد في علاقاتها واحترامها فنها. وهناك في وثائق أخرى كلام على مير زعرور وهو بالطبع يهودي عراقي ورسائل متبادلة معه. أم كلثوم والقصبجي ارتبطت أغاني أم كلثوم لفترة طويلة بالملحن محمد القصبجي. ولعل من شاهدوا مسلسل"أم كلثوم"الذي قدمه التلفزيون المصري عام 2001، وأدت فيه الفنانة صابرين دور أم كلثوم، يتذكرون علاقة القصبجي بأم كلثوم، وهي علاقة من طرف واحد هو القصبجي، على رغم عبقريته الموسيقية. كان القصبجي ينادي أم كلثوم باسم التدليل"سومة". ولدينا رسالة كتبها بخط يده في 15 آب أغسطس 1953 على ورقتين صغيرتين، وقد كتب الرسالة أثناء سفر أم كلثوم للعلاج في الولاياتالمتحدة. والواقع أن عام 1953 كان نحساً على أم كلثوم، إذ توفي شقيقها ورفيق رحلتها الفنية خالد في العام نفسه أثناء وجودها في أميركا للعلاج، ولم تعرف بخبر وفاته إلا بعد عودتها إلى مصر. كما أنها لم تغن إلا في حفلة عامة واحدة خلال تلك السنة أقيمت في أول كانون الثاني يناير على مسرح حديقة الازبكية. تلقي رسالة القصبجي التالية ضوءاً آخر على علاقته بأم كلثوم: "عزيزتي سومة تحياتي وأشواقي القلبية وتمنياتي لك بكل صحة وعافية. وسلامي وتحياتي للسيدة سعدية هانم وحضرة الدكتور أمين وتهنئتي لكم جميعاً بحلول عيد الأضحى المبارك أعاده الله عليكم بالصحة والعافية والسعادة والهناء. سيدتي سومة. أنت وحشتيني كثير جداً جداً. وامتى إن شاء الله تعودي لنا بالسلامة. جميع الشعب يدعون لك بالشفاء ويسألونني عن موعد عودتك بالسلامة. وأما أنا فلا تسأليني عن الفراغ الذي أوجدتيه في نفسي وعن الوحشة اللي أنا فيها من بعدك بضم الباء وتفكيري ليل نهار فيك. واهتمامي بعلاجك وصحتك وعودتك بكل صحة وسلامة. مشتاق لرؤياك كثير جداً. أريد أن أطمئن منك على صحتك ولو أني باستمرار دائم السؤال عنك من منزلك العامر في مصر. وبقراءة الأخبار عنك في الجرائد وصورك الحلوة الخفيفة الروح وأنت تأكلين التفاح الامريكاني. يا سومة هذا هو رابع خطاب أرسله لك، فعسى أن تكون جميع خطاباتي تصلك بانتظام. وختاماً أدعو لك بالصحة والعافية وأرجو من الله عودتك لنا سريعاً بالسلامة. وتفضلي بقبول تحياتي من المخلص الوفي محمد القصبجي. لم نعرف من هو الدكتور أمين الذي يحيّيه القصبجي في رسالته. وهنا وثيقة أخرى في هذه العلاقة، هي بيع محمد القصبجي وتنازله عن حقوقه في ثلاث أغنيات لحنها لأم كلثوم، وكتب هذا التنازل في 15 نيسان أبريل 1943. والمدهش أن أم كلثوم لم توقع عليه مع القصبجي، بل وقع عليه ضابط جيش برتبة ملازم أول لم نستطع تبين اسمه الأول من توقيعه، لكن اسمه الثاني ابراهيم، فهل كان قريباً لأم كلثوم فوضته بالتوقيع على العقد؟؟. هنا نص التنازل: "أنا الموقّع أدناه محمد القصبجي ملحن الأغاني الآتية للآنسة أم كلثوم إبراهيم وهي: 1- ياللي جنيت ارحم حالي 2- ما دام تحب بتنكر ليه 3- رق الحبيب وجميعها ملحنة للآنسة أم كلثوم ابراهيم المقيمة بمنزلها بشارع أبي الفدا بالزمالك. أقر بأني قد بعت الأغاني السابقة الذكر للآنسة أم كلثوم ابراهيم وتنازلت عنها بالنسبة لتسجيلها على اسطوانات فونوغرافية لبيعها في جميع الأسواق. وكذلك بالنسبة لإذاعة هذه الاسطوانات من محطات الإذاعة اللاسلكية في جميع أنحاء العالم. وليس لي الحق في الرجوع عليها بأي التزام بالنسبة لهذين الشرطين فقط مع حفظ جميع حقوقي الأخرى بالنسبة لأشرطة الراديو وإذاعة هذه الأشرطة من محطات الإذاعة وباقي حقوقي الأخرى للنشر. كما أن هذا البيع والتنازل في ما يختص بهذين الشرطين فقط يمنع أي فرد أو أية هيئة من المطالبة بأي حق يتعلق بهذه الأغاني سواء أكان لحسابي أم لحساب أية هيئة أخرى. وبذلك أكون قد تنازلت لحضرتها عن جميع حقوقي بالنسبة لهذه الأغاني في ما يختص بتعبئتها على الاسطوانات الفونوغرافية وبيعها وإذاعتها في جميع محطات الإذاعة في العالم فقط وذلك نظير مبلغ ستماية جنيه مصري فقط. ويعتبر توقيعي على هذا البيع والتنازل إيصالاً علي وإقراراً مني باستلام المبلغ السابق تحديده". والملاحظ هنا تلك الصياغة التي تكررت فيها تعبيرات البيع والتنازل كثيراً، ولم يأت ذكر المقابل المادي إلا في آخر سطرين من التنازل، على العكس مما هو متبع من ذكر المقابل المادي في بدايات العقود. وكأن القصبجي يخجل من ذكر المبلغ. عقود الإذاعة تطورت سلباً هناك عقود عدة بين أم كلثوم والإذاعة المصرية. مثل هذا العقد الموقع في 22/5/1952، وكان الطرف الأول فيه"حضرة صاحب العزة محمد حسني نجيب بك مدير الإذاعة المصرية"، والطرف الثاني"حضرة صاحبة العصمة الآنسة أم كلثوم بالزمالك". وظلت أم كلثوم تلقب بالآنسة معظم سني حياتها وحتى أعلنت زواجها رسمياً من الدكتور حسن الحفناوي في 17/9/ 1954 بعد أن توطدت علاقتهما خلال معالجته إياها. وكان الحفناوي وقتها أستاذاً مساعداً في كلية طب القصر العيني، وعلى رغم انه سبق عقد قران أم كلثوم على الملحن محمود الشريف في 7 كانون الأول ديسمبر 1946، إلا أن لقبها بالآنسة استمر بحجة أنها طلقته ولم يدخل بها فظلت آنسة. ذكر في العقد أنه جاء تنفيذاً لقرار مجلس إدارة الإذاعة المصرية في جلسته المعقودة في 15 نيسان أبريل 1952 والمتضمن التعاقد مع"عصمتها"هكذا وصفها العقد - على إذاعة أغنية"مصر تتحدث عن نفسها"مرة في كل شهر مقابل دفع مبلغ 40 جنيهاً مصرياً عن كل مرة تذاع فيها، وأن يكون التعاقد لمدة ثلاث سنوات. ويضمن الطرف الأول الذي هو مدير الإذاعة إذاعة الأغنية 12 مرة في السنة، أي يضمن سداد مبلغ 480 جنيهاً في السنة لأم كلثوم عن إذاعة أغنية واحدة فقط، وكان هذا مبلغاً"محترماً"في ذلك الوقت. فإذا علمنا أن الإذاعة تعاقدت مع أم كلثوم على إذاعة كثير من أغانيها بمثل هذا العقد يمكن أن نتصور مكسب أم كلثوم من إذاعة أغانيها فقط في الراديو المصري. وأقرت أم كلثوم في هذا العقد أنها تملك حقوق التلحين بالشراء من الملحن رياض السنباطي. لذلك تعهدت الإذاعة دفع مبلغ 300 جنيه لأم كلثوم مقابل شرائها حقوق التلحين من السنباطي. هنا أتوقف قليلاً لأعبر عن دهشتي مقارنة بين ما كان والآن. 1 - كان للإذاعة المصرية مجلس إدارة هو الذي يقرر التعاقد مع المطربين والمطربات لإذاعة أغانيهم، وليس للإذاعة المصرية اليوم مجلس إدارة، بل جرى ضم الإذاعة الى التلفزيون في اتحاد له مجلس لا يقرر بالطبع أي تعاقدات لا في الراديو ولا في التلفزيون. أما أمور إذاعة الأغاني حالياً فتخضع لموافقة رئيس الإذاعة بعد موافقة الرقابة. 2- كان هناك مقابل مادي تدفعه الإذاعة عن كل مرة تذيع فيها أغنية. 3- كانت إذاعة الأغاني مرتبطة بتعاقد يتم بين الإذاعة والمطرب مسبقاً. واليوم تذيع أي إذاعة أي أغنية لأي مطرب كما تشاء. 4- ربما يكون أهم ما في هذا العقد من وجهة نظري تعهد الإذاعة"صيانة الشريط المسجل للأغنية المذكورة بحيث لا يتعرض لأي تلف. وإذا اقتضت صيانته والمحافظة على مادته إعادة تسجيله، يقوم الطرف الأول بذلك من التسجيلات الحالية. وفي حال انتهاء المدة من دون تجديد الاتفاق يتعهد الطرف الأول تسليم الشريط الى الطرف الثاني في حال جيدة". كان العقد قبيل ثورة تموز يوليو 1952 بشهرين، وهو يعبر عن تقاليد العهد الملكي حين كان رئيس الإذاعة يحمل رتبة البكوية، وكان هو الطرف الأول في العقد على رغم نجومية أم كلثوم وأهميتها. بعد الثورة بسنتين تعاقدت الإذاعة المصرية مع أم كلثوم، لكنها أصبحت طرفاً أول، وأصبح مدير الإذاعة هو الطرف الثاني. بمعنى أن الشخص أصبح أكثر أهمية من الدولة. فمدير الإذاعة يمثل الدولة وكان مدير الإذاعة الأستاذ محمد أمين حماد، وتم تحديد عنوان أم كلثوم فكتب"فيلا سومة بالزمالك".. موضوع العقد الموقع في 22 حزيران/يونيو 1954 هو إذاعة أغنية"سلوا كؤوس الطلا". وظلت بنود العقد كما هي من حيث الحقوق المادية وعدد مرات الإذاعة ومقابل التلحين، وكان الملحن أيضاً هو رياض السنباطي. وأيضاً بند"صيانة الشريط المسجل للأغنية". لم تكن الإذاعة فقدت بعد تقاليدها. لكن، بعد خمسة اشهر فقط من العقد السابق، وقع محمد أمين حماد مدير الإذاعة، بصفته طرفاً ثانياً، عقداً جديداً مع أم كلثوم، بصفتها طرفاً أول، لإذاعة أغنية"الجلاء". اختفى بند"صيانة الشريط". كما اختفى بندان آخران. وإن ظل عنوان أم كلثوم هو"فيلا سومة". وظهر بند جديد بدلاً من البند الخاص بحقوق التلحين، فبدلاً من تحمل الإذاعة أجر الملحن المذكور اسمه في العقد، أصبحت الإذاعة - الطرف الثاني - تتحمل تكاليف التلحين والتأليف والفرقة الموسيقية والكورس، طبقاً لقواعد الأجور المعمول بها في الإذاعة المصرية.