الحلقة الاستثنائية من برنامج "كلام الناس" الذي يعدّه ويقدمه مارسيل غانم على شاشة "المؤسسة اللبنانية للإرسال"كانت مميزة فعلا مساء الأحد الفائت بضيوفها وشكلها وبنيتها. بل يمكن اعتبارها من الحلقات النادرة التي يشاهدها الجمهور على الشاشات الصغيرة، إذ جمعت بين الفن السينمائي الوثائقي والبرنامج التلفزيوني. شاء مارسيل غانم أن يمنح فسحة واسعة لكاميرا أخرى وعين أخرى، مكتفياً بدور المحاور والمعلّق والناقد ومقدّماً فيلماً جميلاً أخرجه وأشرف عليه المخرج السينمائي اللبناني محمود حجيج. الفيلم الوثائقي عنوانه"نساء، آنسات ومواطنات"وقد بثته"المؤسسة اللبنانية"كاملاً، بعد تمهيد من مارسيل غانم وحوار سريع أجراه مع المخرج الذي استضافه مع ثلاث"ممثلات"ليواصل الحوار بعد عرض الفيلم ومدته ساعة. الفيلم عبارة عن شهادات طويلة أدلت بها أربع"مواطنات"من مناطق مختلفة وانتماءات مختلفة، وتخللتها شهادات سريعة لوجه في حقل الصحافة طلال سلمان والسياسة الوزير السابق دميانوس قطار والفكر أحمد بيضون إضافة الى عرض نتائج إحصاء شامل طاول شرائح من المجتمع اللبناني. إلا أن محمود حجيج لم يكتفِ بالمادة الوثائقية والشهادات المتقاطعة بل سعى الى نسج هذه المادة نسجاً بصرياً وسينمائياً حتى بدت الكاميرا وكأنها الشخصية الرئيسة التي تؤدي بالصور واللقطات دور"الراوي"، منتقلة من وجه الى وجه، ومن مشهد الى مشهد. لعله من الأفلام الوثائقية النادرة في لبنان يدمج بين البعدين، التوثيقي والسينمائي، أي بين التسجيل والجمالية. ولعل هذا الهم المزدوج هو الذي أنقذ فيلمه من الرتابة التي تقع فيها عادة أفلام مماثلة، لا سيما عندما تفرق شهادات أشخاصها في الكلام المستعار والثرثرة الرتيبة. كاميرا ذكية لا تفوتها أي لحظة أو أي تفصيل، تنتقل بخفة وشفافية، من مشهد الى مشهد، من الشارع الى الغرفة، من المقاهي الى خيم المعتصمين، من المشهد الصاخب الى الصمت. هكذا بدا الشريط غنياً جداً، بلقطاته التي لم تتوقف وبإيقاعه السريع ولعبته الإخراجية والتصويرية التي نجحت تماماً في خلق مناخ شامل وحّد بين الشهادات والمرويات وپ"القضايا"والتفاصيل. اختار محمود حجيج"آنساته"أو"نساءه"الأربع الرئيسات من أربعة تيارات أو أحزاب:"حزب الله"الفتاة المحجبة، تيار المستقبل الصحافية التي تعمل في تلفزيون"المستقبل"، التيار الوطني الحر الصحافية التي تعمل في إذاعة التيار، حزب اليسار الديموقراطي الشابة اليسارية المتحررة، إضافة الى فتاة لا منتمية كانت أشبه بالخيط الخفي الذي جمع بين شهادات"الآنسات"جميعهن. فهي كما روت كانت تدافع عن المرأة المسلمة في عين الرمانة حيث كانت تدرس وعن المرأة المسيحية في الشياح حيث كانت تقيم. الشهادات لم تكن مدروسة ومهيأة مسبقاً ولا"مؤدلجة"ولا فكرية، بل كانت عفوية وشبه تلقائية وخالية من الكذب والتلاعب بالكلام والشعارات. فالخطاب النسائي بدا هنا مختلفاً تماماً عن الخطاب السياسي الذكوري. ولم يكن مستغرباً أن تعتري الشهادات المتناقضة والمتحاورة أخطاء أو شبه أخطاء وأفكار أو نظرات عامة ومواقف"عاطفية"أو ذاتية وغير موضوعية. وهذا طبيعي تماماً ويعود الى الاختلاف في الانتماءات والمواقع. بالغت مثلاً"الآنسة"المحجبة في مديح"حزب الله"مكررة كلام رفاقها ومواقف الأمين العام للحزب ومتهمة الحكومة بالتعامل مع إسرائيل خلال حرب تموز يوليو 2006. ومثلها تطرفت ولكن بذاتية أقل الصحافية التي تنتمي الى تيار"المستقبل"وكذلك الصحافية"العونية"التي لم تتوان عن مديح الجنرال ميشال عون. الشابة اليسارية والأخرى اللامنتمية كانتا أكثر موضوعية وأعربت الأخيرة عن ارتباطها بوطنها ورفضها فكرة السفر التي كانت أمها تحرّضها عليها. واللافت غياب وجه أنثوي أو نسائي من حزب"القوات اللبناني"أو حزب"الكتائب"اللذين شاركا في الحرب مثلما شاركا في صنع السلام الأهلي الراهن. ولئن لم تأتِ الشهادات بأفكار جديدة أو نظرات جديدة ولئن بدت تكرر الكلام العام الذي روّجته الأحزاب نفسها فإنها كانت حقيقية وجارحة في حقيقيتها وعبّرت فعلاً عن الاختلاف الحاد الذي يعتري"الجسد"اللبناني، سياسياً وطائفياً واجتماعياً. وقد حاول المخرج أن يوائم بين الآنسات وأفكارهن وپ"صراعهن"السلميّ فجمع الواحدة بالثانية وجعلهن في حال من التناغم الذي لا يخلو من التناقض. فالاختلاف ظل قائماً ولم تستطع الكاميرا إقناع الواحدة برأي الأخرى. وقد تكمن أهمية الفيلم هنا، في إبراز الاختلاف وعدم تحويله الى مجاز وطني أو شعار. إنها الحال اللبنانية التي طالما تمّ تجاهلها أو تجميلها أو"تقنيعها"من قناع لإخفاء طابعها القدري"المأسوي"والهزلي في آن واد. نجح مارسيل غانم حقاً في تقديمه هذا الفيلم واستضافة مخرجه وپ"فتياته"لئلا أقول"بطلاته"وفي مواصلة السجال على الشاشة مباشرة وأمام كاميرا حية أصبحت بدورها شاهداً على هذا السجال الذي لا نهاية له. أما الفيلم فتحفة فنية صغيرة، بإخراجه الذكي وإيقاعه وجمالياته، فهو على رغم وثائقيته يخاطب العين قبل الأذن على خلاف الأعمال الوثائقية المألوفة. وابعد من الطابع الفني استطاع الفيلم أن يحك الجراح التي يصعب أن تندمل وأن يطرح الأسئلة الشائكة التي تتأجل الأجوبة عنها باستمرار.