عُقدت التهدئة بعد أشهر من المحادثات واللقاءات عبر الوسيط المصري الذي قام بدور مركزي بين طرفي الاتفاق حماس إسرائيل. هذا الاتفاق مثّل بلا شك نقطة تقاطع مصلحية غير عادية للأطراف ابتداءً من الفلسطينيين المحاصرين، ومروراً بمصر القلقة، وانتهاءً بإسرائيل المرتبكة، فكل طرف معني بجني ثمار هذا الاتفاق الذي يمكن أن نصفه بأنه مجرد"استراحة محارب"في إطار المواجهة المستمرة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، أي أن التهدئة مرحلية فرضتها الظروف على جميع الأطراف لالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب الأوراق. * لقد مثّل قبول الاحتلال الاتفاق مع حماس على التهدئة والالتزام المتبادل، اعترافاً إسرائيلياً بواقع حماس المقاومة، وبشرعيتها المنتخبة. وهذا يعد أكبر ثمن دفعه الاحتلال جراء هذا الاتفاق. وأهمية ذلك تكمن في أن الاحتلال اضطر أخيراً لأن يفتح الكوة في جدار الحصار السياسي والاقتصادي العالمي الذي يعاني منه قطاع غزة وحركة حماس. وهذا بدوره سيحفز الدول الأوروبية أو يمنحها الجرأة لإجراء اتصالات مع حماس في المستقبل المنظور، فلم يعد لدى إسرائيل الحجة بأن تطلب من العالم أن يبقي على حصاره ومقاطعته لغزة وحماس، في الوقت الذي تجري فيه هي اتصالات غير مباشرة معها، وتفتح فيه معابرها لمرور البضائع والاحتياجات المعيشية. لقد أطلقت التهدئة أيضاً رسالة مهمة، مفادها أن المقاومة المسلحة، والصبر على الألم، في ظل وضوح الرؤيا، يمكن لها أن يحققا النصر بهدف استعادة الحقوق. فالناظر إلى المسألة بعمق وبقراءة بعيدة المدى يرى مدى القفزة التي حققتها المقاومة وسط حالة الإحباط والتشرذم العربي، فبالأمس استطاعت المقاومة في لبنان أن تدحر الاحتلال عن جنوبلبنان، وبالأمس استطاعت المقاومة أن تدحر الاحتلال وإن بشكل غير ناجز كلياً عن قطاع غزة، وها هو الاحتلال يُضطر مكرهاً لأن يعقد اتفاقاً لوقف إطلاق النار مع حماس والمقاومة الفلسطينية وبشكل متزامن ومتبادل، وغداً قد تستطيع المقاومة أن تفرض شروطها على الاحتلال في صفقة لتبادل الأسرى مع الجندي جلعاد شاليط. ان الاحتلال لا يقر إلا بالقوة ولا يحترم الضعفاء، وهذا شيء طبيعي لمن بنى دولته ومجده على إيديولوجيا القوة. فلو لم يعجز الاحتلال في التصدي لصواريخ المقاومة التي قيل عنها يوماً ما بأنها"عبثية"، لما اضطر لعقد التهدئة مع المقاومة، وهي فرصة لإعادة تقييم المسار الفلسطيني الداخلي، خصوصاً بعد السنة الأخيرة التي شهدت انقساماً داخلياً حاداً، وفشلاً للتسوية السياسية. وما البدء برفع الحصار عن غزة إلا ورقة سقطت من يد من راهن على الحصار والتجويع إن كان فلسطينياً أو عربياً، مما سيمهد الطريق أمام الحوار ولا شيء غير الحوار. ولكن رغم الانفراج النسبي، إلا أن معبر رفح ما زال مغلقاً، وما يشير الى أن التهدئة قد تبقى حبيسة الاتفاق حول معبر رفح الذي يجسد النافذة الوحيدة للفلسطينيين في غزة على العالم. وهو أمر حرص الاحتلال على التمسك به كورقة ضاغطة أثناء التفاوض حول الجندي الأسير شاليط. وفي كل الأحوال، وعلى رغم أن التهدئة مثّلت حاجة لجميع الأطراف، إلا أن انعكاساتها في ظل المعطيات الراهنة محلياً ودولياً، كانت إيجابية على الفلسطينيين والمقاومة التي رفضت التنازل عن الحقوق والثوابت الفلسطينية، والتي رفضت الانصياع لشروط الرباعية الدولية وخاصة الاعتراف بشرعية الاحتلال. أما القول عن عدم شمولية التهدئة للضفة الغربية، ما يعني التفريق بين الضفة وغزة، فقد يكون في الأمر شيء من المبالغة، لأن توصل حركتي فتح وحماس إلى مصالحة وطنية مرتقبة تضم لاحقاً جميع الفصائل، هو الأصل في وحدة الوطن، ووحدة المسار السياسي الفلسطيني. أضف إلى ذلك سؤالاً برسم المقاومة: لماذا لا يكون عدم التهدئة في الضفة الغربية، في الوقت الذي فشلت فيه مراهنات التسوية السياسية، مدخلاً وفرصة لتفعيل وتركيز المقاومة في الضفة لوقف سرطان الاستيطان ومصادرة الأراضي هناك، ولتحسين شروط الواقع السياسي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال؟ أحمد الحيلة - فلسطيني مقيم في دمشق - بريد الكتروني