عرفت إدوارد سعيد عندما كنت طالباً في الولاياتالمتحدة في أواخر الثمانينات، وكنت أشاهده ضيفاً على برامج تلفزيونية عدة. شدتني لغة الأستاذ الأميركي من أصل فلسطيني وجرأته وقدرته على المحاجّة باقتدار وتهذيب في آن. في إحدى حلقات برنامج"نايت لاين"الذي يستضيفه الصحافي"تد كبل"، ظهر إدوارد سعيد ووزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين. تحدث سعيد عن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، ورفض التحاور مع رابين قائلاً لكبل إنه مسؤول عن طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وأنه يعتبر سياساته"غير إنسانية وغير عقلانية"inhumane and senseless. في إطار إعدادي رسالة الماجستير حول"تناول صحافة النخبة الأميركية للانتفاضة الفلسطينية"كان لا بد أن أقرأ شيئاً من إنتاج سعيد حول القضية الفلسطينية ومعالجة الإعلام الأميركي لها. من أعماله التي ألهمتني الكثير:"تناول الإسلام"و"لوم الضحايا"الذي اشترك في تحريره مع كريستوفر هيتشنز وصدر له في ما بعد كتاب"الثقافة والإمبريالية"1993 ولكن الكتاب الأشهر على الإطلاق كان"الاستشراق"الذي تمر اليوم ذكرى مرور ثلاثين عاماً على ظهوره لأول مرة عام 1978... ترجم الكتاب إلى عشرات اللغات، وحظي باهتمام منقطع النظير، وانتشرت قراءاته ومراجعاته في الدوريات العلمية وفي الصحافة، وما تزال أطروحاته تفسر العلاقة بين الشرق والغرب، مضيفة الكثير إلى حقول الدراسات الثقافية والإعلامية، ومؤسسة لدراسات ما بعد الكولونيالية، وملهمة البحث الاستقصائي في مجالات الثقافة الإمبريالية، وإنتاج المعرفة. أمد عمل سعيد الباحثين والأكاديميين الغربيين بآلية تمكنهم من تحدي الأطروحات النمطية والتبسيطية للثقافات الأخرى بما في ذلك مفهوم"صدام الحضارات"بل إن"الاستشراق"بوصفه عملاً تأسيسياً في مجاله، غير إلى حد كبير مقاربة الجامعات الغربية لدراسات الثقافات الأخرى غير الغربية. وضع سعيد في كتابه رؤية مفادها أن الاستشراق بوصفه حركة علمية وسياسية لم ينطلق من منطلقات السعي الموضوعي لفهم الشرق وتقاليده وحضارته، بل كانت أهدافه محددة مسبقاً، وهي في مجملها إيديولوجية وعنصرية وإمبريالية. عمل الاستشراق - بحسب سعيد - منذ نهاية القرن الثامن عشر على اختزال الحضارة العربية الإسلامية في قوالب سهلة وثابتة، الأمر الذي خدم أهداف القوى الإمبريالية في السيطرة على الشرق. أنتج الرحالة والكتاب سلسلة من الأفكار حول الشرق تدور في مجملها حول انهماكه في الفسوق، ميله إلى الاستبداد، عقليته الشاذة، سذاجته، وتخلفه. كانت صورة العالم العربي في اللوحات الفنية الفرنسية، والروايات الإنكليزية، وحتى بعض الأعمال الأكاديمية خلال القرن التاسع عشر صورة حافلة بالغرابة وفقدان المنطق. كان هناك أيضاً تصوير للشرق بوصفه مكاناً شهوانياً يوفر -كما يقول سعيد -"تجربة جنسية يتعذر الحصول عليها في أوروبا". الشرق في نظر الرحالة الغربيين ساحة للمتعة ورموزها ودواعيها: الحريم، الحجاب، العبيد، الأميرات، والراقصات، ولا يوجد كاتب أوروبي كتب عن الشرق، أو سافر إليه في الفترة بعد عام 1800 إلا وبحث عن هذه التجربة: فلوبير، ونرفال، وبيرتن، ولين، هم فقط أبرز الأسماء... تم تقديم الشرق بوصفه عالماً مليئاً بالرغبة، لكنه مكبل بالصمت وعاجز عن التعبير، وبدا الجنس الذي يعد به هذا العالم، في نظر هؤلاء الرحالة والكتاب مشوباً بالغموض والعنف. النساء ثمرة"للخيال الجامح لدى الذكور: إنهم يبدين شهوانية مطلقة، وهن تقريباً حمقاوات/ وقبل كل شيء جاهزات"Orientalism، 207:p-1978، هذه الصورة ليست بعيدة عن الأهواء الاستعمارية، فالنساء العربيات والمسلمات يعانين من الاضطهاد والكبت، ولذا فهن يتطلعن بشغف إلى الأوروبي القادم من وراء البحار ليمنحهن الدفء والأمان. اللوحات الفنية أسهمت أيضاً في تدعيم ثنائية الشرق/ الجنس، فالمرأة المسلمة المحتجبة المتوارية عن الأنظار تظهر عارية في هذه اللوحات، تحيط بها الوسائد والأرائك والعطور، وربما اشتملت اللوحات على سيوف وخناجر ونصال قديمة مزخرفة بآيات قرآنية، وحلي نسائية ودماء، تستخدم في ربط الشرق بالجنس، وربط الجنس بعنف الرجل واستبداده. حاول الاستشراق في مرحلة من المراحل أن يصور الشرق بوصفه مكاناً رومانسيا ذا طبيعة بكر، وبحار نقية، وشمس ساطعة، ولذا فهو واعد بالطمأنينة وراحة البال. الشرقيون يستمتعون بالطبيعة الهادئة، ولا يوجد ما يعكر صفوهم، أولا توجد تحديات تصقلهم، وتحفزهم على الإبداع، وهذا يلقي مسؤولية أكبر على الأوروبي ذي النظرة البعيدة ليضطلع بواجبه The White Man Burden ويقوم بتمدين الشرقي الذي لم تنضجه الحياة بعد. هذه الشبكة من الصور النمطية وظفت في خدمة مصالح الحكومات الغربية وسياساتها، فظهر الشرق بوصفه"فاقداً للحيوية والروح"، وفي أمس الحاجة إلى إمداده بإكسير الحياة الغربية. تمحورت أطروحة سعيد حول تقسيم"الاستشراق"للعالم إلى قسمين: غرب وشرق، أو"نحن"و"هم"، وهو تقسيم يعمل عازلاً جمعياً يشل التفكير الذاتي. هناك صفات محددة يتسم بها الشرقيون، ونقيض هذه الصفات هو نمط الحياة عند الغربيين. إذا كان العرب والمسلمون مثلاً كسالى وقساة ومتخلفين، فإن الغربيين تلقائياً يصبحون العكس... لا يمكن أن يحتل الأوروبي مكانة سامية إلا إذا هبط الشرقي إلى الحضيض، يتم أيضاً تقديم الشرق من خلال ربطه بالتصور الغربي، فيوصف الإسلام"بالمحمدية"، نسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم تماماً كما ينسب الدين المسيحي إلى المسيح. المحمدية مصطلح غربي لا علاقة له بالإسلام، ولا يوجد مسلم يصف نفسه بأنه"محمدي"، وبهذا فإن الغرب صنع صوراً مصطنعة لا حقيقية عن الشرق artificially created، واصفاً من خلالها حاله وطبيعته، أو هو أراد توثيق الشرق فانتهى إلى توثيق نفسه. تمت"شرقنة"الشرق الذي بدا كياناً أخرس غير قادر على تمثيل نفسه، فجاء المستشرق/ الفنان ليمثله وفق تصوراته ورؤاه. في مقال له بمناسبة مرور 25 عاماً على صدور"الاستشراق"مجلة كاونتر بنش الإلكترونية، 4 آب/ أغسطس 2003 انتقد سعيد النظرة العنصرية التي يصبح فيها الشرق"شرقنا"نحن نمتلكه ونديره، مؤكداً أنه لو كان الغرب مقتنعاً أن الشعوب الأخرى ليست مثله، لما كانت هناك حاجة إلى الحرب على العراق أصلاً. العقيدة الاستشراقية القديمة ما تزال تحرك الخطط والإستراتيجيات الغربية من مدرسة الخبراء المحترفين الذين جندتهم هولندا إبان سيطرتها على ماليزيا وإندونيسيا، وجندتهم بريطانيا إبان استعمارها الهند ومصر وغرب إفريقيا، إلى المستشارين الحاليين للبيت الأبيض والبنتاغون الذين يستخدمون الكليشيهات ذاتها، النمطيات المهينة ذاتها، وتبريرات العنف ذاتها القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمون، يطرح سعيد سؤالاً عما إذا كانت الحقبة الاستعمارية قد انتهت، أم أن الشرق ما يزال يرزح تحت وطأة الاستعمار منذ حملة نابليون على مصر قبل قرنين من الزمان، مشدداً على فكرة المقاومة، أو حق الشعوب في أن تكون"مختلفة"ومنسجمة مع ذاتها. تتعرض المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة إلى هجمة عدوانية ومحسوبة بسبب ما يقال عن تخلفها وافتقارها إلى الديموقراطية وانتقاصها حقوق المرأة، ولكن مفاهيم الحداثة والتنوير والديموقراطية - بحسب سعيد - ليست مفاهيم بسيطة وقطعية ومتفق عليها. الحرب على العراق تمثل في جوهرها واحدة من أكبر الكوارث في التاريخ، حيث هندست مجموعة من المسؤولين الأميركيين"غير المنتخبين"حرباً إمبريالية على دكتاتورية عالمثالثية بناء على قواعد إيديولوجية، وسعياً للهيمنة على الموارد الشحيحة، في الوقت الذي جرى فيه التكتم على الأهداف الحقيقية للحرب، وتبريرها من قبل حفنة من المستشرقين خانوا أمانتهم العلمية، الحرب تذكر بحقيقة لم تغب يوماً، وهي أن الاستشراق هو الذراع الثقافية للإمبريالية الغربية. تأثرت إدارة الرئيس جورج بوش إلى حد بعيد بأطروحات"خبراء"مثل برنارد لويس وفؤاد عجمي، تحذر من عقل عربي أهوج، وقرون من الانحدار الإسلامي، تملك أميركا وحدها تغيير مساره. فجأة، واستجابة لإيقاع ما بعد 11/9 نفض الغبار عن كتب قديمة، وتدفق سيل من كتب جديدة تحمل عناوين صارخة حول الإسلام والإرهاب، والخطر العربي، كتبها من يزعمون المعرفة، ويؤكدون أنهم تغلغلوا إلى أعماق"الشرقيين"الغرباء. وأعادت جوقة إعلامية تشمل تلفزيون"فوكس"و"سي إن إن"، وعدد لا يحصى من الإذاعات اليمينية، إنتاج تلك التعميمات الهادفة إلى إثارة أميركا ضد"الشيطان الأجنبي". هناك فرق في رأي سعيد بين دراسة الشعوب من أجل فهمها والتعايش معها، وبين دراستها من أجل إخضاعها وبسط السيطرة عليها. لا يمكن تشكيل صورة عن العالمين العربي والإسلامي لا يظهر فيها سوى الإرهاب، والحرب الإستباقية، وتغيير النظام من طرف واحد، مدعومة بأكبر موازنة عسكرية في التاريخ، ومحاطة بنقاشات دعائية واسعة النطاق. كل ما ينبغي أن يحدث من تأمل ونقاش عقلاني، واعتراف بحق البشر في صناعة تاريخهم بأنفسهم تم إبداله بأفكار هلامية تحتفل بحال التفوق الاستثنائي الغربي، وتنظر إلى الثقافات الأخرى بازدراء. يدمر الاستشراق، من خلال قصف المواطن الغربي بسيل من الصور الجامدة"للآخر"المتخلف والفاسد، كل فرص التفاهم و"التقمص"العاطفي. الاستشراق، في جوهره - إذاً - عمل لا إنساني، وهو في نواح أخرى"الشريك السري لمعاداة السامية". الحل - في نظر سعيد - هو تفكيك الطابع الإمبريالي للثقافة، واستعمال النقد المستمد من التوجه الإنساني لفتح مجالات الصراع، وتقديم سياق متواصل من التفكير والتحليل يحل محل ردود الفعل الآنية الغاضبة التي تعوق التفكير. الكلمة التي تصف هذا السلوك الرشيد هي"الإنسانية"، وتعني الفهم التأملي المتحرر من"الأغلال المكبلة للذهن"، كما يشير الشاعر الإنكليزي وليم بليك. الخيار الإنساني هو خط المقاومة الأخير ضد الممارسات الوحشية، والمظالم التي تشوه التاريخ، وربما أسهمت ديموقراطية الفضاء التخيلي، ومنافذ الإعلام البديل في تعبئة المجتمعات الإنسانية للدفاع عن قضايا تهم سكان الأرض كافة مثل الحريات وحقوق الإنسان وسلامة البيئة. ما تزال أطروحات إدوارد سعيد في كتابه"الاستشراق"وتعليقاته عليه تثير الجدل بعد مرور ثلاثين عاماً على صدوره. وما تزال المقارنة بين العقيدة الاستشراقية القديمة وبين التفكير السياسي الغربي تجاه المجتمعات العربية والإسلامية تتجدد كلما حدث احتكاك أو اتصال بين الشرق والغرب. لهذا السبب لم يفقد"الاستشراق"وهجه الأكاديمي والمعرفي، ولا يبدو أنه سيفقده أبداً. * أكاديمي وصحافي سعودي