كان المغني المخضرم يجلس في القطار، وفي المقعد أمامه أم لها ابن صغير كثير الحركة والضجيج. وحاولت الأم عبثاً أن تجعل الولد يهدأ في مقعده، إلا أنه كان يقفز بين حين وآخر كالملسوع، ويركض بين المقاعد ويعود. وأخيراً قالت له أمه: هل تعرف المطرب فلان؟ وانتفخت أوداج المطرب المخضرم وهو يسمع اسمه يذكر للمرة الأولى منذ سنوات، وأصغى لكلام الأم فإذا بها تكمل قائلة لابنها: اذا لم تسكت سأجعلك تسمع شريطاً طويلاً لفلان. كلنا ذلك المطرب، كلنا يعتقد بأنه مهم، وهو كذلك فعلاً اذا كان المقصود أنه يجيب الهم. وأنصح كل انسان يعتقد نفسه مهماً أن يأخذ حبتي أسبرين ويتغطى جيداً وينام، لأنه سيستيقظ وقد شفي من أوهامه، ولعله يرى جورج بوش الأبن في أحلامه، ويدرك أن رئيس أميركا غير مهم. ما سبق مقدمة بعد أن تعرضت أخيراً لنوبة أهمية كدت في نهايتها أن أصدق ما أسمع. كنت عائداً من دمشق الى عمان بالسيارة، وطلبت من مكتب"الحياة"في دمشق أن يوفر لي سائقاً يعرف نقاط الحدود فلا أضطر الى النزول من السيارة لتقديم جواز سفري، ولم أطلب شيئاً آخر. وهكذا كان، ووصلنا الى درعا فإذا بأول شرطي نراه يقول للسائق ما ترجمته الى الفصحى: ماذا تفعل هنا في هذه الساعة؟ أنت تعرف أن سيارات التاكسي السورية ممنوعة من دخول الأردن في هذا الوقت. ورد السائق بثقة: معي شخصية مهمة. نظرت حولي فلم أجد أحداً غيري، مهماً أو غير مهم, ونظر الشرطي داخل السيارة ولم يجد شيئاً مهماً. وقلت للشرطي إنني صديق العميد فيصل، قائد مركز الحدود، فقبل سنتين رأى اسمي بين المسافرين ودعاني الى مكتبه وشربنا القهوة معاً وبحثنا في أمور الأمة، واتصل الشرطي برئاسة المركز فجاء عسكري أخذني الى مكتب العميد واستأنفنا البحث القديم. العميد أبو ناصر أرسل معي مساعداً له جعل سيارتي تمر عبر الحواجز السورية، ودخلنا أراضي الأردن وهو يقول لي"دبّر حالك". أمام أول حاجز أردني في الرمتا قال أول شرطي أردني رأيناه للسائق: ممنوع. ورد السائق بهدوء: معي شخصية مهمة. وقلت له بغضب: أنا لست مهماً. لم أكن مهماً أمس، ولست مهماً اليوم. مَن قال لك إنني مهم. ورد بالهدوء نفسه: الست التي حجزت السيارة لمعاليك. معاليك؟ أنا لم أبلغ يوماً مرحلة"سعادتك". وتجمع رجال الشرطة الأردنية حول السيارة ووافقوني الرأي أنني لست مهماً. غير أنني تذكرت أنني أحمل رسالة من الدكتور باسم عوض الله، رئيس الديوان الملكي الأردني، تبدأ بالقول إن جلالة الملك عبدالله الثاني يدعوني الى مؤتمر في بترا، فأبرزت الرسالة، وقلت لرجال الشرطة إن لدي دعوة من"سيدنا"وقد تأخرت، ولا يجوز أن أترك الحكومة تنتظر. الرسالة خدمتني عبر حاجزين آخرين، ووجدت نفسي في النهاية والسيارة تنطلق بي نحو عمان. وأعتقدت أنني تركت الانسان المهم على الحدود بين سورية والأردن لولا أن دورية سير أردنية أوقفت التاكسي لأن الرادار أظهر أن سائقها تجاوز السرعة المسموحة، لذلك ستسجل له مخالفة مرور. وقال السائق إن معه شخصية مهمة على موعد مع جلالة الملك. صرخت فيه أن يتوقف عن مثل هذا الكلام فمؤتمر بترا في اليوم التالي، وقلت له أن يقبل المخالفة وسأدفعها بنفسي. غير أن السائق ذهب الى سيارة الدورية، وبقي هناك طويلاً ثم عاد ليطلب مني رسالة الدعوة التي أخذها وأسرع الى رئيس الدورية. السائق عاد ووضع أوراقه في مكانها، وسألته هل أعطي مخالفة فرد بالايجاب، وطلبت أن يعطيني المخالفة لأدفعها إلا أنه شكرني ورفض، وأعدت الطلب وأصر على الرفض، ورجحت أنه يكذب، غير أنني لم أرد أن أدخل جدالاً جديداً معه، ووصلنا في النهاية الى عمان. أقول إن كل انسان يعتبر نفسه مهماً غير مهم، وأنا شخصياً مهموم من متابعتي الأخبار العربية. وكل هذا يذكرني بالزميل عثمان العمير الذي حكى لي يوماً كيف أقبل عليه رجل وسأله: أنت عثمان العمير؟ وعندما رد بالايجاب، أخذ الرجل يمتدح مقالاً رياضياً كتبه عثمان وهو شاب، ويتجاوز كل إنجاز لاحق له وقد أصبح ناشراً ورئيس تحرير في الصحافتين المطبوعة والإلكترونية. أقول لكل شخص مهم: على بال مين ياللي بترقص في العتمة. وهو مثال من عندنا يقابله في السعودية: على بال مين ياللي في الظلام تغمز.