منذ زمن وعرض حلقات برنامج "أوبرا" للمقدمة الأشهر في العالم الإعلامي أوبرا وينفري يثير اهتمام المشاهدين في العالم العربي. وبعد سجال طويل أعاد البعض نجاح البرنامج إلى الإمكانات المادية والتقنية الكبيرة التي تخدم طاقم العمل، فيما ذهب آخرون إلى أهمية الحوار المختلف الذي يقوم عليه البرنامج، حيث تستضيف"أوبرا"نجوم الفن والمال والشهرة وأبطال الحياة اليومية، لتعرض من خلالهم ظاهرة اجتماعية أو حالة معينة، وهي في هذا تبدو مغايرة بهذا للتقليد القديم بأنّ يكون الضيف هو المحور والأساس. وفي الأحوال كافة خلص الجميع تقريباً إلى اعتبار الحرية مفتوحة المدى هو الفارق الرئيس الذي يمنع أي قناة عربية من إنتاج برنامج مماثل للبرنامج الأميركي العريق. ولقد شكلت الحلقة التي عرضتها قناة mbc 4 من هذا البرنامج قبل فترة أحد تمثلات هذه الحرية، حيث تناولت الحلقة واحدة من أبرز اشكالات المجتمع الأميركي الحالية، وهي ظاهرة الطائفة الدينية المعروفة نسبة ً لداعيتها"وورين جيفس". أقامت الطائفة لنفسها تجمعاً مصغراً مغلق الأسوار عن العالم الخارجي في ولاية تكساس الأميركية، الكنيسة حجر الأساس فيها، ومناهج الأطفال وضعها الداعية بنفسه، وهي وإن كانت تدرس مبادئ الرياضيات والإملاء إلا أنها تكثف الثقافة الدينية الخاصة بالطائفة وتعاليمها، وهي التعاليم التي أثارت الزوبعة الأكبر. ذلك أن اعتقاد الطائفة يقوم على أنّ الخلاص سيأتيهم عن طريق الزواج وإنجاب الأطفال، وعليه تمّ إحلال مبادئ خاصة كزواج القاصرات وتعدد الزوجات، إذ تزوّج الفتيات في أعمار الرابعة عشر والسابعة عشر، وهو ما دون السن القانوني في أميركا، ومالك حق اختيار الزوج هو"رأس الكهنوت"المرادف لرب العائلة، إلى جانب داعية الطائفة"وورين جيفس"بالتأكيد، الذي يقضي الآن عقوبة عشرين سنة سجناً في أحد السجون الأمريكية بجرم المشاركة في اغتصاب قاصر. فالقاصر"إليسا وول"التي تمّ تزويجها في عمر الرابعة عشرة من ابن عمها، الذي يقوم مقام الأخ في الثقافة الأمريكية، باعتباره من أقرباء الدرجة الأولى، استطاعت الهرب من ذاك التجمع حين بلوغها السابعة عشرة من العمر، هربت لتطالب بحقوقها المدنية والقانونية. الوعي والثقافات سؤال الحلقة الذي طرحته أوبرا وينفري كان عن معنى الوعي وتباين الثقافات، ففي تلك الثقافة الدينية الخاصة لا ترى النساء، عموماً، أنفسهنّ معرّضات لأيّ شكل من أشكال سوء المعاملة التي ينظر فيها القانون الأميركي، بل ان واجب المرأة، كما ذكرت الهاربة"إليسا"، أن تكون مطيعة، خنوعة لقوانين زوجها، تسعى حياتها لإرضائه وإنجاب الأطفال له، وبهذا تكون مرضية ً لدخول الجنة! ولهذا يشكلّ العالم الخارجي، كما تسميه الهاربات، صدمة ً ثقافية ً بكل معنى الكلمة. فهن في الداخل محرومات من حق الاختيار، لا يملكن أدنى فكرة عن حق المرأة في الاستقلالية بذاتها، غريبات ٍ عن اختراعات التكنولوجيا الحديثة من تلفاز وكومبيوتر وفروع العلم الحديث. وزادت من جهلهن غربتهم عن الثقافة الجنسية وأجسادهن، إذ يعتبرن أنّ"العلاقة الزوجية"لا يجب أن تناقش سوى بين الزوجين، والرجل هو معلم الفتاة وقائدها، وليس لها حاجة بسواه، ما يتيح له إساءة معاملتها جسدياً ونفسياً، وحتى جنسياً، كما يحلو له، دون أن تجرؤ على التفوه بكلمة لأحد. هذا ما تربت على أنه الصحيح وهو من حقوق زوجها الإلهية فيها. في المقابل ترى نساء تلك الثقافة، كما ظهر من لقاء مع إحداهنّ، أنّ الفتيات في الحقيقة مالكات لحق الاختيار، وهن يتمتعنّ بحقوقهن كافة ويعملن في المنشآت القائمة داخل سور الثكنة الصغيرة، ويحظين بأفضل معاملة كلما كنّ اصغر في السن، وربما كان المقصود هنا الدلال واللطف من قبل الزوج. هذا النقاش لوعي أبناء تلك الطائفة لمعنى وجودهم وحياتهم وخلاصهم، بفهمهم للخير والشر، للصواب والخطأ، من خلال وعي العالم الخارجي المغاير لوعي هذه الطائفة، كما حالة"إليسا وول"وأختها الهاربة كذلك"تيريسا"وسواهما من المتمردات على الثقافة السابقة، كشف عن سؤال يمكننا أن نسحبه إلى ثقافتنا العربية الخاصة، سؤال مقاربة وعينا الثقافي بوعي الآخر، من خلال تفاصيل تبحث في ماهية حقوق النساء المدنية ومعنى المساواة، كيف تعي النسوة عندنا وجودهنّ وهل يعتبرنّ أنّ هناك إساءة تمارس في حقهنّ، حين يتم تزويجهنّ ، كما في بعض البلدان، بأعمار صغيرة جداً، وحيث يختار الأب أو العم أو الأخ الأكبر الزوج الذي سيقود هذه الفتاة في طريق حياتها، ويمارس حقوقه عليها دون أدنى تساؤل عن رغباتها الشخصية، لأنّ واجبها الوحيد هو إنجاب الأطفال ورعاية المنزل. ثم قد يتزوج بأخرى، يضربها، يمنع عنها المصروف، وعليها أن تتقبل كل هذا كمعنى وحيد لوجودها، وهو الصبر ورعاية زوجها، والمقابل كما لدى طائفة"وورين جيفس"هو الجنة الموعودة، أما إن تجرأت وطلبت الانفصال فعليها أن تواجه أهلها ومجتمعها. ليست الغاية من هذا السؤال الدفاع عن حقوق النساء ونصرتهنّ، بقدر ما هو تساؤلٌ عن وعي مجتمعنا الذاتي لثقافته وحضارته، فالرجل كما المرأة يُلقن هذه التعاليم الموروثة منذ قرون عن الصواب والخطأ، وكما نساء الطائفة تعتبر العديدات من النساء العربيات أنّ ما يعشنه هو حياة طبيعة بكل بساطة، وما يعيشه العالم الغربي هو انحلال في القيم والأخلاق، ما يعيدنا إلى سؤال القيم والأخلاق، وتطورها بتطور الوعي البشري عبر مئات السنين والتجارب الإنسانية.